{وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ‌فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} [سورة الحجر 22]

بيان محكم مبين، يمتن الله فيه على عباده بإنزال الماء من السماء؛ فجعله سقيا لهم ولأرضهم ومواشيهم.

ومن بديع نظم القرآن أنه استعمل الفعل ” أسقى ” دون ” سقى” في هذا المقام فقال: “فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ” وليس ” فسقيناكموه” .
لاختلاف الدلالتين في الصيغتين؛ ذلك أن معنى أسقاه: أعد له مايشرب، وأما سقاه؛ فقد ناوله ما يشرب؛ لذلك امتن الله على أهل الجنة بقوله: {وَسَقَاهُمۡ رَبُّهُمۡ شَرَابࣰا طَهُورًا}
فقد باشرهم السقاء لمزيد التكريم والنعيم، ومنه قوله تعالى : “فَسَقَىٰ لَهُمَا ” وقوله تعالى: ” أَمَّاۤ أَحَدُكُمَا فَیَسۡقِی رَبَّهُۥ خَمۡرࣰاۖ “

فلما جاء النظم الحكيم بقوله: ” فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ” دل على عموم السقيا، وأنه أعد ما يشرب لهم ولأنعامهم وأرضهم، ولو قصد شربهم هم على وجه الخصوص؛ لكان ” فسقيناكموه” كما أشار إليه الإمام الطبري، رحمه الله.

فالعرب تقول: سقيته، إذا ناولته مايشرب لسقيه هو، وتقول: أسقيته، إذا أسقيت أرضه وماشيته.
يقول ذو الرمة وهو من عصر الاحتجاج:

وَقَفتُ عَلى رَسمٍ لمَيّةَ نَاقَتي فما زِلتُ أبكي عندَه وَأُخاطِبُه وَأسقِيهِ حَتى كادَ مِمّا أبُثّهُ تُكَلّمُني أحجَارُهُ وَملاعبُه

وقد كانت العرب تضع أمام دورها الماء في الخوابي؛ لمن يمر فيشرب؛ فيقال: أسقاه، أي: جعل له شِرْبًا.
فإذا طرق عليهم طارق الباب وطلب الماء؛ فأعطوه، قالوا: سقاه.

وهذا رأي جمهرة من أئمة اللغة منهم أبو عبيدة وسيبويه وأبو علي الفارسي.

لذلك على دعاة الإعجاز العلمي، أن ينطلقوا في فهم دلالات النص القرآني من فهم دلالات ألفاظ اللغة، وتراكيبها الدقيقة في السياق، سباقه ولحاقه.

فاللغة مفاتيح الإعجاز؛ والعجز عن إدراك دقائقها؛ عجز عن إدراك حقائق الإعجاز!

فالذين زعموا أن هذه الآية تدل دلالة حصرية على إنزال الماء للبشرية؛ لشربه، وأن في الآية إعجازا علميا، يشير إلى أن الجسم لا يخزن الماء بعد شربه؛ ويتخلص منه مباشرة دفعا لضرر تخزينه، وأن هذا مدلول قوله تعالى: “وَمَاۤ أَنتُمۡ لَهُۥ بِخَـٰزِنِینَ” .

إذ لوكان مدلول الآية ذلك لورد الفعل “فسقيناكموه”.
فالبيان القرآني يستعمل كل صيغة في سياقها المناسب لها، لمعنى مخصوص، ولاتناوب في الصيغ الصرفية والمباني في محكم معجز البيان، ومنه استعمال ” سقى” و ” أسقى” في هذا المقام.

وقد يعتور البيان البشري التسمح في العبارة، والترادف في المعاني والإنابة، إلا إن البيان الإلهي المحكم المبين والمعجز العظيم؛ قد ارتقى في الاستعمال ودقة الانتقاء والإحكام في سماوات البيان!

وأما قوله تعالى – بعد ذلك في نظم الآية المبين- ” وَمَاۤ أَنتُمۡ لَهُۥ بِخَـٰزِنِینَ” فقد تسلط النفي على الضمير لا على الفعل؛ إشارة إلى حصول الفعل والتخزين، وإنما نفى حصول ذلك منهم، وعدم قدرتهم على تخزينه مطلقا، وأنه وحده- سبحانه- من يقدر عليه، وذلك في سياق النعمة والامتنان، ثم زاد النظم دقة وإحكاما، بتقديم شبه الجملة ” لَهُ” على ” بِخَـٰزِنِینَ” إيضاحا لعجزهم البين الكبير، فقد يتمكنون من خزن غير الماء؛ لأنه من أصعب مايكون خزنه؛ لانسيابه في جوف الأرض، فقد يغور في أعماقها، فلايستطيعون الوصول إليه، فقدم ذكره للاختصاص في سياق الامتنان، وزاد النظم توكيدا بإحكام، باستعمال صيغة اسم الفاعل مقترنة بباء الإلصاق، في مقام التوكيد لا الزيادة والإلحاق، فقال: “بِخَـٰزِنِینَ” تأكيدا لنفي لصوق أدنى قدرة منهم على ذلك؛ مما يدل ذلك دلالة واضحة بينة على عظم هذه المنة وعمومها وشمولها واتساعها.

فهم لايستطيعون خزنه بعد نزوله وتمكنه في الأرض؛ فلا يحفظه إلا الله في عيون الأرض، و أحواضها الجوفية لمئات السنين .
هذا بعد نزوله انتهاء، وكذلك عند تكوينه ابتداء في السحب الركامية في السماء، فلايستطيعون حفظه وتخزينه فيها على هذا النحو العجيب، وإنزاله في المكان المخصوص، والزمن الموقوت، وبالقدر المعلوم.
فهم لايستطيعون منعه، ولا منحه، ولاحفظه.

ففي الآية إحكام و اتساع في الدلالة والبيان، في مقام إبراز النعم والامتنان.