منع قص الشعر والظفر لمن أراد أن يضحي يوم العيد من غير الحاج من الأمور التي كثر السؤال عنها في هذا الزمن أكثر مما مضى، لا سيما مع دخول أيام العشر الفاضلة من شهر ذي الحجة، ولعل الأقرب في هذه المسألة أنه يستحب الإمساك عن قص الشعر والظفر للذي يريد أن يضحي، خصوصا أن حكم الأضحية أصلا سنة مؤكدة للمقتدر، وبيان ذلك هو ما سيتناوله هذا المقال.

يعد موضوع قص الشعر والظفر لمن يريد أن يضحي مما انتشر الحديث عنه عبر الشبكات المختلفة، بما فيها المنتديات ومواقع التواصل الاجتماعي، وهي مسألة موسمية متكررة حفلت بها كتب المذاهب الفقهية المشهورة، ويرجع البحث فيها واختلاف الآراء حولها إلى مأخذين، حديثي وفقهي.

أولا: حديث المنع من قص الشعر والظفر

لم يُرو في هذا الباب إلا حديث أم سلمة رضي الله عنها، ولم يروه عنها إلا سعيد بن المسيب التابعي الجليل، وعنه أخذ الناس، ونصه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره».[1]

ولم تتفق كلمة الصحة على هذا الحديث لعلة إسنادية ولمعارضته الحديث الآخر النافي، وهو حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «كنت أفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، ثم يبعث بها وما يمسك عن شيء، مما يمسك عنه المحرم، حتى ينحر هديه»[2].

وقد نقل عن الدراقطنى أنه حكم على حديث أم سلمة بالوقف[3]. وألمح الطحاوي إلى التضعيف بقوله: “مجيء حديث عائشة رضي الله عنها أحسن من مجيء حديث أم سلمة رضي الله عنها، لأنه جاء مجيئا متواترا. وحديث أم سلمة رضي الله عنها لم يجئ كذلك بل قد طعن في إسناد حديث مالك فقيل: إنه موقوف على أم سلمة رضي الله عنها”[4]. وإلى هذا القول مال ابن عبد البر كذلك[5]. وهذا يبين الاتجاه الذي يرى أن الحديث ضعيف.

لكن أكثر أقوال أئمة الشأن على أنه صحيح المرفوع، وعلى فرض التسليم بوقفه فإن له حكم الرفع فيما يبدو، وناهيك بروايته في صحيح مسلم مرفوعا، وقال بصحته الإمام أحمد وغيره، ولعله متجه إن شاء الله لا جزما.

ثانيا: فقه حديث منع قص الشعر والظفر لمن ينوي ذبح الأضحية

من لم ير صحة الحديث لا ينادى العمل به على وجه الإلزام، “ومذهب مالك أنه لا بأس بحلق الرأس وتقليم الأظفار وقص الشارب في عشر ذي الحجة، وهو مذهب سائر الفقهاء بالمدينة والكوفة، وقال الليث بن سعد – وقد ذكر له حديث أم سلمة -: قد روي هذا والناس على غير هذا “[6].

وقد ذكر عمران بن أنس[7] أنه سأل مالكا عن حديث أم سلمة هذا، فقال: ليس من حديثي، قال: فقلت لجلسائه: قد رواه عنه شعبة وحدث به عنه وهو يقول: ليس من حديثي فقالوا لي: إنه إذا لم يأخذ بالحديث قال: فيه ليس من حديثي.[8]

أما القائلون بصحة هذا الحديث فقد اختلفوا في وجه دلالته على الحكم

منهم من أخذ بظاهر الحديث ومال إلى القول بالتحريم.

قال الموفق بن قدامة: ظاهر هذا الحديث تحريم قص الشعر. وهو قول بعض أصحابنا.[9] وبه قال الطحاوى في آخر قوليه.

قال ابن حزم رحمه الله :من أراد أن يضحي ففرض عليه إذا أهل هلال ذي الحجة أن لا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئا حتى يضحي، لا بحلق، ولا بقص ولا بغير ذلك، ومن لم يرد أن يضحي لم يلزمه ذلك .[10]

قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: النهي يقتضي التحريم إلا لصارف عنه يجب الرجوع إليه كما تقرر في الأصول، والتحريم أظهر لظاهر الحديث ولأنه صلى الله عليه وسلم يقول وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه. [11]

منهم من قال بالكراهة: وقال النووي “مذهبنا أن إزالة الشعر والظفر في العشر لمن أراد التضحية مكروه كراهة تنزيه حتى يضحي “.[12] وعليه بعض المالكية وخاصة المتأخرون.

منهم من قال بالاستحباب: نقل ابن المنذر عن مالك والشافعي أنهما يستحبان الوقوف عن ذلك عند دخول العشر إذا أراد أن يضحي.[13] وهو قول الجمهور.

قال ابن عابدين مجيبا عن حديث الباب: فهذا محمول على الندب دون الوجوب بالإجماع.[14] والإجماع الذي ذكره ابن عابدين محجوج بالخلاف المنقول في المسألة، وهناك اجتهادات أخرى تحاول الجمع بين الحديثين لكنها لم تخل من النظر.

ثالثا – الحكمة في الإمساك عن قص الشعر والظفر في الحديث

قيل: إنها التشبه بالمحرم بالحج.

وقيل: أن الحكمة أن يبقى مريد التضحية كامل الأجزاء رجاء أن يعتق من النار بالتضحية.[15] ولا توجد مستندة شرعية تشير إلى ما قيل، لكن جاء عن ابن عمر أنه “كان إذا بعث بالهدي يمسك عما يمسك عنه المحرم إلا أنه لا يلبي.[16]

وعن ربيعة بن عبد اللَّه بن الهُدَير أنه رأى ابن عباس، وهو أمير البصرة، متجرّدًا على منبر البصرة، فسأل الناس عنه، فقالوا: إنه أمر بهديه أن يقلّد، فلذلك تجرّد.[17]

واستفتى زياد بن أبي سفيان عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وكتب إليها: أن عبد الله بن عباس قال: من أهدى هديا حرم عليه ما يحرم على الحاج، حتى ينحر الهدي. وقد بعثت بهدي. فاكتبي إلي بأمرك. أو مري صاحب الهدي. قالت عمرة: فقالت عائشة: ليس كما قال ابن عباس. أنا فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي. ثم قلدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده. ثم بعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي. فلم يحرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء أحله الله له، حتى نحر الهدي.[18]

وفي رواية قيل لها: إن زيادا إذا بعث بالهدي أمسك عما يمسك عنه المحرم، حتى ينحر هديه، فقالت عائشة: أوله كعبة يطوف بها؟[19]

قال شعيب بن أبى حمزة: فلما بلغ الناس قول عائشة أخذوا به وتركوا فتوى ابن عباس[20]

وسئل عبد الله بن الزبير عن فعل ابن عباس قال: بدعة ورب الكعبة.[21]

أقسم على ذلك اعتمادا على حديث عائشة المذكور، وهي خالته، إذ لا يجوز أن يقسم أنه بدعة إلا وقد علم أن السنة خلافه.[22]

– وجاء عن الزهري ما يدل على أن الأمر استقر على خلاف ما قال بن عباس.[23]

ولعل الراجح أن حديث الباب يشوبه بعض الاعتراضات والإيرادات التي لا يسعفه الانفراد بظاهر الحكم الفقهي المتبادر، ولذا لم يجنح إلى القول بظاهره إلا القلة من أهل العلم بالحديث والفقه، ومن لم يعمل به لم يبعد النجعة ألبتة، ومن استحسنه فله السلف، ولا ينبغى الإنكار في مثل هذا، وخاصة إذا علمنا أن الأضحية نفسها سنة مؤكدة عند جمهور أهل العلم.

وأما الاقتداء بفعل ابن عمر وابن عباس وغيرهما من التجرد عن الملابس لأجل تقلد الهدي  فليس بجيد الآن، لأنه على خلاف ما عليه عمل الناس ولا يندب فعله على ظاهر فتوى أم المؤمنين رضي الله عن الجميع.