كانت كريمة بنت أحمد بن محمد بن حاتم المروزية رحمها الله من العالمات الكبيرات ومن نوابغ النساء في تاريخ العلم الشرعي ، عاشت كريمة قرنا كاملا وبلغت من العمر مائة عام – ولدت 363 هـ وتوفيت 463هـ – وقضت حياتها للعلم وفي العلم حتى تركت بصماتها في العلوم الإسلامية، وتركت بصمة خاصة في علم الحديث لا سيما صحيح البخاري.

رحلاتها العلمية ومجاورتها لبيت الله الحرام

تأسيا بسنة المحدثين في الرحلة لطلب العلم، وقد رحلت أم الكرام إلى خراسان، وبغداد، وخرجت مع أبيها في الرحلة العلمية من بلدها – مرو العظمى أشهر مدن خراسان وقصبتها[1]- إلى بيت المقدس حيث سمعت «الصحيح» من أبي الهيثم الكُشْمِيهَني أحد كبار رواة صحيح البخاري عن الفربري، ويكون إسنادها إلى الإمام البخاري إسنادا ثنائيا، ثم عاد بها أبوها إلى مكة في الحرم لتكون مجاورة لبيت الله الحرام متعلمة ومعلمة ومربية حتى الوفاة.

وحدثت كريمة المروزية وتفقهت على يدي فقيه خراسان، شيخ القراء والمحدثين أبو علي السرخسي، وكذا الفقيه الشافعي مسند دمشق أبي القاسم علي بن محمد المصيصي الدمشقي، وروت عن عبد الله بن يوسف بن بامويه الأصبهاني الإمام المحدث الصالح، وهي حريصة على التلقي من أهل العلم عصرها، وكانت أيام موسم الحج السنوية التي هي ملتقى كبار علماء الإسلام المحدثين والفقهاء، كانت فرصة ثمينة لأم الكرام المجاورة للحرم أن تلتقي بأهل العلم وتحمل عنهم وتنهل، وقد جدت في تحصيل ذلك أيما إيجادة وخاصة في علم الحديث حتى بلغت فيه الغاية وصارت أشهر محدثات القرن الخامس الهجري.

ثناء العلماء عليها

 نوهت كتبُ التراجم والتاريخ بالثناء العطر على أم كرام في علمها وحفظها وإمامتها وزهدها، وكثر ذكر اسمها في كتب العلم، ولا خلاف بين مترجميها أنها محدثة، فاضلة، متقنة، ذات الفهم والضبط، عالية الإسناد، صالحة، عابدة، وملازمة للخير على طريقة السلف. وعدها ابن الأهدل من الحفاظ، وإذا روى عنها الرواة قالوا: حدثتنا الصالحة كريمة بنت أحمد المروزية بمكة حرسها الله.

قال أبو بكر بن منصور السمعاني: سمعت الوالد – يعنى أبا المظفر ابن السمعاني- يذكر كريمة، ويقول: وهل رأى إنسان مثل كريمة.[2] قاله تعظيما لقدرها وعلمها، وترجم لها الحافظ ابن الجوزي في حوادث سنة (463 هـ)، ووصفها بقوله: وكانت عالمة صالحة.

كما وصفها الإمام الذهبي في «السير» بأنها: الشيخة العالمة الفاضلة المسندة أم الكرام …المجاورة بحرم الله … ولها فهم ومعرفة مع الخير والتعبد”[3]

ونعتها الصفدي بقوله: أم الكرام المجاورة بمكة، كانت كاتبة فاضلة عالمة وكانت تضبط كتابها.[4]

ذكرها الحافظ ابن كثير في «البداية والنهاية» فقال: كانت عالمة صالحة سمعت «صحيح البخاري» على الكشميهني وقرأ عليها الأئمة[5].

وفي هذه الأقوال الحسان دلالة واضحة على تعظيم المكانة المرموقة التى بلغتها كريمة المروزية في العلم.

تلاميذها

نظرا لمكانتها العلمية الرفيعة التى تبوأتها أم الكرام واستقرارها بجوار بيت الله الحرام ، أتاح الفرصة لأن يرحل إليها جماعة من الأكابر والحفاظ والطلبة من الآفاق الشاسعة ومن بلاد شتى في أيام موسم الحج وغيرها؛ للقراءة عليها وللرواية عنها والاستفادة منها وللرغبة في التتلمذة عليها، كما جاء عن أبى جعفر محمد بن علي الهمداني قوله: حججت سنة ثلاث وستين، فنعيت إلينا كريمة في الطريق ولم أدركها. [6]يفهم من هذا القول مدى انتشار صِية هذه المحدثة في الآفاق، وكيف يهرع إليه أهل العلم من مختلف بقاع الأرض.

هذا، وقد تخرج بها ثلة طيبة من حملة السنة النبوية وسرج الأمة، ومن أشهرهم:

1-أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي إمام الصنعة.

 2-أبو المظفر منصور بن محمد بن عبد الجبار السَّمعاني سمع على كريمة المروزية في مكة وروى عنها.

3-الحميدي أبو عبد الله محمد بن أبي نصر فتوح، شيخ المحدثين، الفقيه الظاهري، صاحب الجمع بين الصحيحين.

4-الطبري، مفتي مكة ومحدثها، أبو عبد الله الحسين بن علي بن الحسين، أخذ عن كريمة (صحيح البخاري)، وروى عنها.

 5-أبو الغنائم أُبَيّ النَّرْسيّ، الإمام الحافظ، المفيد المسند، محدث الكوفة.

 6-أبو طالب الحسين بن محمد بن علي بن حسن الزينبي رئيس الحنفية وحج، فسمع “الصحيح” من كريمة المروزية، وتفرد به عنها، وقصده الناس.

7- المحدث الشريف النسيب، خطيب دمشق وشيخها، نسيب الدولة، أبو القاسم علي بن إبراهيم بن العباس العلوي نال الإجازة في رواية (صحيح البخاري) عنها.

قال الإمام الذهبي:” وحمل عَنْهَا خلْقٌ من المغاربة والمجاورين”[7] وقد حصلت رواية المغاربة عنها بطريقة السماع وبالمكاتبة

نسخة كريمة المروزية لصحيح البخاري

كان لكريمة اليد الطولى في خدمة السنة النبوية وسند عال في علم الحديث إلا أن اسمها قد سطع بشكل خاص في صحيح البخاري الذى يقترن اسمها به، فلا يكاد ينفك عنها أو تنفك عنه فصار يقال في مورد التبجيل والاعتزاز والتقدير: “نسخة كريمة” أو “رواية كريمة لـلصحيح»، وعد الشراح نسختها من أهم النسخ النفيسة والمعتمدة في شرحهم لصحيح البخاري؛ وعلى رأسهم الحافظ ابن حجر في الفتح، لأن كريمة المروزية معروفة بالتحقيق وغاية التدقيق، وقد قامت بتدريس ” الجامع الصحيح للبخاري ” سنوات طويلة والناس يتوافدون إليها من الشرق والغرب وحدانا وزرافات، وتعقد لهم مجلس التحديث وهي في خدرها من وراء حجاب ولا سيما في أيام الحج ويقرأون عليها وينالون منها إجازة صحيح البخارى لعلو إسنادها، وظلت تدرس وتحدث بـ ” الصحيح” حتى آخر حياتها، ولعلها هي أول امرأة درست صحيح البخاري في حرم مكة المكرمة، وكانت مثالا للجدِّ والحزم في الضبط والمقابلة والمعارضة مما جعلها نموذجا يحتدى في تحقيق النصوص، ولما دخل أبو بكر الخطيب البغدادي مكة حاجا في ذي الحجة من سنة 445 الهجرية – كما ذكر الذهبي – وأراد رواية صحيح البخاري عن أم الكرام رغبة في الإسناد العالى إذ إليها انتهى علو الإسناد لصحيح البخاري، ولكنها لم ترض إلا بالقراءة عليها وبمقابلة نسختها بنسخته من أول حديث صحيح البخاري إلى نهاية الكتاب، ولذا جلست في إسماعها له وبقرائته عليها خمسة أيام مع التدقيق.

وفي كنز الرواية لأبي مهدي الثعالبي لدى ترجمة الخطيب: قرأ صحيح البخاري بمكة في خمسة أيام على كريمة المروزية، وكان سماعها لهذا الكتاب أقدم سماع في عصرها.[8]

وآخر السماع عليها ما قاله الفاسي في ترجمة عبد الله بن محمد بن الغزال؛ حيث يقول: سمع على كريمة بنت أحمد المَرْوَزيّة «صحيح البُخارِيّ» وهو آخر من سمعه عليها . [9]

ومن نظر في ترجمتها أو في كتب الحديث يجد السماع عليها بالكثرة من شتى الأمصار الإسلامية، وهي سماعات نظيفة ومتقنة.

قال ابن النقطة مشيرا إلى طريقة أم الكرام في الإسماع: وكانت إذا روت قابلت بأصلها. [10]

وأشار الذهبي إلى ذلك أيضا في تاريخ الإسلام بقوله: وكانت تضبط كتابها، وَإِذَا حدَّثَت قابَلتْ بنسختها، ولها فهم ومعرفة”[11] وهذا يدل على أنها معروفة بالمنهج التدقيقى وعدم التساهل بالإجازة

قال أبو الغنائم أُبَيّ النَّرْسيّ أحد تلاميذها: ” أَخرجَت إِلَيَّ النسخة، (نسخة صحيح البخاري) فقعدتُ بحذائها، وكتبتُ سبع أوراق، وكنت أريد أن أعارض وحدي، فقالت: لا، حتّى تعارضَ معي. فعارضت معها، وقرأتُ عليها من حديث زاهر. “[12]

ورحم الله أم الكرام أستاذة الأئمة، المسندة المحدثة الكبيرة المجاورة، مضرب المثل في طلب العلم، ومطمح ومؤول الطلبة، وقد انتفع الناس بها ، وكُتب عنها مئات النسخ في صحيح البخاري وبجوار بيت الله الحرام.


[1]  ينظر «معجم البلدان» 5/ 112 – 113

[2]  سير أعلام النبلاء 18/ 233.

[3]  المصدر السابق 18/ 233 – 234.

[4]  الوافي بالوفيات 24/254

[5]  البداية والنهاية 12/ 105.

[6]  سير أعلام النبلاء 18/ 235.

 [7] تاريخ الإسلام 10/223

[8]كنز الرواية.  ص: 36 وينظر: روايات الجامع الصحيح ونسخه 1/412

[9] ذيل التقييد 2/ 54 – 55 وينظر: روايات الجامع الصحيح ونسخه 1/412

[10] سير أعلام النبلاء 18/ 233 – 234.

[11] تاريخ الإسلام 10/223

[12] تاريخ الإسلام 10/223