مما لا شك فيه أن وباء كورونا أعاد ترتيب اهمية الفئات الموجودة في المجتمع لوضعها الحقيقي الأطباء والعلماء وعمال النظافة هم أهم أسباب تجاة العالم في الوقت الحالي، بينما الفنانون واللاعبون والراقصون والراقصات وغيرهم ممن كانوا يعتقدون أنفسهم صفوة المجتمع فقدتراجعوا إلى الوراء. فهل سيعيد كورونا مكانة العلم والعلماء إلى وضعها الطبيعي أم أنه مجرد ظرف طارئ وسيعود العالم إلى ما كان عليه؟
لقد نجح الفيروس في ما فشلت فيه مخططات وإستراتيجيات دولية و عجزت عنه قطاعات وزارية متعددة، حيث أعاد ترتيب أولويات الاهتمام لدى البشر، فأمام الأزمة القائمة أصبح مفروضا الاستماع إلى صوت المثقف والطبيب والعالم والإمام. وهو ما أعاد إلى هؤلاء أدوارهم التأطيرية داخل المجتمع، بعد أن سحب منهم البساط لصالح شخصيات مواقع التواصل الاجتماعي، ولاعبون وسياسيون وفنانون.
أي مستقبل؟
لكن لا أحد يعرف كيف ستكون طبيعة العالم بعد انتهاء أزمة كورونا، ولا أحد يعرف أشكال ظهور ووتيرة تطور هذا الفيروس مستقبلا، بعد أن عطل كل أنماط الحياة على سطح الكرة الأرضية، عطل الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والرياضية والسياسية والفنية، وهدد السلامة الصحية للبشرية.
وعلى الرغم من مساوءه الكثيرة والمتعددة، فلهذا الوباء “محاسن” (إذا صح التعبير)، فقد كشف ضعف العالم بأسره، برجاله ونساءه، بجيوشه وأسلحته، بأمواله واقتصاده، بعلومه وتطوره التكنولوجي..كم هو ضعيف هذا ضعيف هذا العالم أمام فيروس لا تراه حتى العين المجردة. لقد قام هذا الوباء بتعرية بعض الدول من مظاهر القوة والتقدم الذي كانت تتشدق بهما، وأرغمها على التواصل والتعاون مع دول كانت تتأفف من مجرد ذكرها اسمها.
لكنه أسقط أيضا شعوبا – طالما ادعت الديمقراطية – في الأنانية، وكشف العالم المتقدم على حقيقته، بعدم تقاسم المصلحة المشتركة مع شعوب يوحدهم نفس المجال الجغرافي والمصالح الاقتصادية، وتجاهل تام لبلدان من نفس القارة لبعضها البعض.
لغة كورونا
بالمقابل، جعل كورونا هذا العالم يتحدث لغة واحدة هي لغة كورونا، جعلت من العالم قرية واحدة تواجه نفس التحديات الوبائية، سيتضرر منها على الخصوص دول العالم الثالث بافريقيا التي مزقتها الصراعات السياسية والعرقية، علاوة على هشاشة البنيات والتجهيزات الصحية وضعف الأمن الغدائي. لكن دول العالم الأول ستتضرر أيضا وربما بنفس الحدة، ويظهر ذلك جليا في أعداد الإصابات والوفيات المسجلة في دول أوروبية وأمريكية متقدمة. فماذا يعني حاليا نقص أجهزة التنفس الاصطناعي في المستشفيات العالمية، وخاصة في الدول المتقدمة، ولماذا أسرة العناية المكثفة قليلة في هذه الدول ولا تتناسب مع عدد السكان ومعدل الفئات المتقدمة في العمر.
ووفق هذا المنطق فإن وباء كورونا الذي يغزو أكثر من 180 دولة حول العالم، قد يتسبب في صراعات دولية، من شأنها أن تعيد النظر في طبيعة النظام العالمي بعدما ظهرت هشاشة بنياته الصحية، وتأثره الواضح في كل المجالات الأخرى. وبالتالي لن تنحصر تداعياته على الصحة العامة والنفسية وخسائر في الأرواح، وإنما قد يؤدي إلى إعادة تشكيل النظام العالمي، الذي ستعتمد تكتلاته الجديدة على مع مدى امتلاك الدول للعلم والتكنولوجيا المخبرية في علم الفيروسات والمعرفة الرقمية والقدرة على مواجهة الكوارث التي تهدد حياة الإنسان على كوكب الأرض، ومدى قدرات الحكومات على إدارة الأزمات، مما يمكن أن يغير الكثير من المفاهيم الخاصة بالتعليم والصحة والأمن وغيرها.
لقد فرضت الجائحة تحديا غير مسبوق لدول العالم، وأبرزت أهمية الصحة عن الاقتصاد، حيث أثبتت للجميع أن الصحة والبحوث العلمية المرتبطة بها، هي رأس المال الأول للدول، ومصدر أمنها واستقرارها، ومؤشر قوتها، والآن في جميع أنحاء العالم، تدفع الاقتصادات الثمن من جراء تفشي الفيروس. ولم يعد أحد يسأل عن السؤال الذي شغل تفكيرنا لعدة قرون أيهما يسبق الآخر السياسة أم الاقتصاد، سقط ذلك كله أمام أهمية وعظمة الصحة التى تقود العالم الآن أمام فيروس كورونا الذي يواجه العالم.
النصر لمن؟
الأكيد عند انتهاء هذه الأزمة، أنا تغييرات كثيرة ستطرأ على عالمنا، تغييرات قد لا يظهر المنتصر والمنهزم فيها، لكن الدول والأفراد أيضا سيخرجون من هذه الأزمة بفكر جديد، مختلف عن الفكر السائد، وسيكسبون أشياء كثيرة بعد هذه المرحلة. لكن أهم نتيجة هي أن فيروس كورونا سيعيد للقطاعات الاجتماعية قيمتها، بعد أن كان كثيرون يعدونها “غير منتجة”، إذ كانت الصحة تشكل عبئا ثقيلا على كاهل بعض الدولن، وبالتالي فإن قطاع الصحة سيخرج منتصرا من المحنة، وسيصبح قويا، وسيسعى المسؤولون إلى إعادة النظر في تعاملهم معه، وفي ترتيب الأولويات.