إن القرآن يقرأ بالتحقيق، وبالحدر، وبالتدوير الذي هو التوسط بين الحالتين، مرتلا مجودا بلحون العرب وأصواتها، وتحسين اللفظ والصوت بحسب الاستطاعة.

أما التحقيق: فهو المبالغة في الإتيان بالشيء على حقه من غير زيادة فيه ولا نقصان، وهو نوع من الترتيل، وهذ النوع من القراءة -وهو التحقيق- مذهب حمزة، وورش، والكسائي، وأبي بكر، وحفص، وهشام، وابن ذكوان.

وفرق بعضهم بين الترتيل والتحقيق؛ إذ التحقيق يكون للرياضة والتعليم والتمرين، وأما الترتيل يكون للتدبر والتفكر والاستنباط، فكل تحقيق ترتيل، وليس كل ترتيل تحقيقا.

وأما الحدر: فهو عبارة عن إدراج القراءة وسرعتها، وتخفيفها بالقصر والتسكين والاختلاس، والبدل، والإدغام الكبير، وتخفيف الهمز، ونحو ذلك مما صحت به الرواية، ووردت به القراءة، وهو ضد التحقيق، وهذا النوع مذهب ابن كثير، وأبي جعفر، وأبي عمرو، ويعقوب، وقالون، وورش، وروي عن حفص، وهشام.

وأما التدوير: فهو التوسط بين المقامين من التحقيق والحدر، وهو مذهب سائر القراء، وصح عن جميع الأئمة، وهو المختار عن أكثر أهل الأداء.

وأما الترتيل: فهو مصدر من رتل فلان كلامه؛ إذا أتبع بعضه بعضا على مكث وتفهم، من غير عجلة، وهو الذي نزل به القرآن، قال الله تعالى: {ورتلناه ترتيلا } [الفرقان: ٣٢ ]

وعن علي -رضي الله عنه-: أنه سئل عن قوله تعالى: {ورتل القرآن ترتيلا } [المزمل: ٤]، فقال: الترتيل تجويد الحروف، ومعرفة الوقف (1).

والصحيح بل الصواب: أن الترتيل والتدبر مع قلة القراءة، أفضل من السرعة مع كثرتها.

والتجويد: هو حلية التلاوة وزينة القراءة، وهو: إعطاء الحروف حقوقها، وترتيبها مراتبها، ورد الحرف إلى مخرجه وأصله، من غير إسراف ولا تعسف، ولا إفراط ولا تكلف.

قال الحبر العلامة أبو زكريا النووي -رضي الله عنه-: وإذا ابتدأ القارئ بقراءة شخص من السبعة، فينبغي أن لا يزال على تلك القراءة، ما دام للكلام ارتباط، فإذا انقضى ارتباطه، فله أن يقرأ بقراءة آخر من السبعة، والأولى دوامه على تلك القراءة في ذلك المجلس (2)

وقال الأستاذ أبو إِسحقَ الجعبريُّ -رحمه الله-: والتركيبُ ممتنعٌ في  كلمة، وفي كلمتين؛ إن تعلق أحدهما بالآخر، وإلا كره.

وأجازها أكثر الأئمة مطلقا، وجعل خطأ مانعي ذلك مخففا.

قال الحافظ العلامة ابن الجزري -رحمه الله-: والصواب في ذلك عندنا (3) التفصيل، والعدول بالتوسط إلى سواء السبيل، فنقول: إن كانت إحدى القراءتين مترتبة على الأخرى، فالمنع من ذلك منع تحريم؛ كمن يقرأ: {فتلقى آدم من ربه كلمات } [البقرة: ٣٧] بالرفع فيهما، أو بالنصب، آخذا رفع (آدم) من قراءة غير ابن كثير، ورفع (كلمات) من قراءة ابن كثير (4)، ونحو: (وكفلها زكريا) بالتشديد مع الرفع، أو عكس ذلك (5)، ونحو: (وقد أخذنا ميثاقكم) وشبهه مما يركب بما لا تجيزه العربية، ولا يصح في اللغة، وأما ما لم يكن كذلك، فإنا نفرق فيه بين مقام الرواية وغيرها:

فإن قرأ بذلك على سبيل الرواية، فإنه لا يجوز أيضا، من حيث إنه كذب في الرواية، وتخليط على أهل هذه الدراية.

وإن لم يكن على سبيل النقل والرواية، بل على سبيل القراءة والتلاوة، فإنه جائر صحيح مقبول، لا منع منه، ولا حظر، وإن كنا نعيب على أئمة القراءات والعارفين باختلاف الروايات، من وجه تساوي العلماء بالعوام، لا من وجه أن ذلك مكروه أو حرام، إذ كل من عند الله نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين؛ تخفيفا عن الأمة، وتهوينا على أهل هذه الملة، فلو أوجبنا عليهم قراءة كل رواية على حدة، لشق عليهم تمييز القراءة الواحدة، وانعكس المقصود من التخفيف، وعاد الأمر بالسهولة إلى التكليف، وقد تقدم لفظ الحديث الشريف: “إن هذا القرآن نزل على سبعة أحرف، فاقرؤوا ما تيسر منه” .


(1) انظر: “الإتقان في علوم القرآن” للسيوطي (٢٢١).

(2) انظر: “التبيان في آداب حملة القرآن” للنووي (ص: ٣٧).

(3) في “ن” و”ظ”: “عندنا في ذلك”.

(4) قراءة ابن كثير: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٌ} والباقون برفع آدم، انظر: “السبعة” لابن مجاهد (ص: ١٥٣)، و”تفسير البغوي” (١/ ٩٣)، و”التيسير” للداني (ص ٧٣)، و”النشر في القراءات العشر” لابن الجزري (٢/ ٢١١) و”معجم القراءات القرآنية” (١/ ٤٨)، ووجَّه البغوي -رحمه الله- قراءة ابن كثير بقوله: يعني: جاءتِ الكلماتُ آدمَ من ربه، وكانت سببَ توبته.

(5) انظر: توجيه المؤلف لقراءات هذه الآية، في تفسير سورة آل عمران، الآية: ٣٧.