كما في السيرة النبوية رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه من التضحية والنصرة، ففيها كذلك نماذج شقية، سطرت بمواقفها خطاب العداء للفكرة والرسالة، ونفذت مشيئة الله تعالى التي قضت بأن يدمغ الحقُ الباطلَ ويزهقه، وأن يكون الثمن أرواح الشهداء وأموالهم وأولادهم.

يطل أبو جهل برأسه عنوانا على الاصطفاف إلى جانب الضلال، وبذل الجهد والثروة للإبقاء على شواهد الوثنية مبثوثة في أنحاء الجزيرة العربية.

وفي يثرب يعتمد عبد الله بن أبي بن سلول منظومة تواصلية تبطن الكفر وتظهر الإسلام. ويشن من خلالها حربا نفسية لتفريق الصفوف، وخلط أوراق الدولة الناشئة.

أما مسيلمةبنحبيب فاتخذ من اليمامة فضاء لنقل تجربة النبوة، ضمن محاولة سياسية وظف خلالها ادعاءاته حتى يتسنى له أن “يأكل” العرب بقومه، ويملك نصف الأرض. فكان كذابا بمنطوق الحديث الشريف، لأنه لم يقاوم الرسالة أو يشوش عليها، وإنما بادر لقرصنتها ونزع حقوق “الملكية” !

لكل دعوة صادقة “مُسيلمتها” الذي يسعى لتجريدها من مقوماتها الإنسانية، طمعا في مكاسب خاصة؛ سلاحه التلفيق والتعمية واختراع الأكاذيب. ومثلما شهد التاريخ ميلاد الأبطال، فإن وقائعه لم تخل من حضور الكذابين وتأثيرهم على مجريات الأمور، خاصة حين يتولد لدى الجماهير استعداد لتصديق الكذبة، والعمل بمقتضاها عن سبق إصرار وترصد.

كان عام الوفود في السنة التاسعة للهجرة عام استطلاع وهداية. فكل وفد قدم إلى المدينة آنذاك كان يعاين آثار التوحيد والنبوة على فكر الإنسان العربي ووجدانه، كما يعاين مظاهر الوحدة السياسية والاجتماعية على قبائل كانت حتى عهد قريب تشعل نار الحرب من أجل ناقة أو بعير. وفي وفد بني حنيفة كان رجل يوهم نفسه بتولي الأمر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، في إطار تناوب قبلي على الزعامة السياسية والدينية.

في صحيح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن مسيلمة الكذاب لما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد بني حنيفة، جعل يردد في قومه :” إن جعل لي محمد الأمر من بعده تبعته” ؛فأقبل إليه رسول الله صلى اله عليه وسلم، وفي يده قطعة من جريد، حتى وقف على مسيلمة في أصحابه فقال: “لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها، ولن تعدو أمر الله فيك، ولئن أدبرت ليعقرنك الله”3620.

كلمات تؤشر على طبيعة النزعة التي تستعر في صدر الكذاب، وتكشف ميوله المستقبلية لتحريك فتنة تحت غطاء ديني، وبدوافع سياسية ظاهرة. غير أن الأكاذيب لم تكن لتلقى قبولا، نظرا لما شاع عن العرب آنذاك من رجاحة عقل، وتقليب الأمر على وجوهه حتى تنكشف حقيقته، بل هو الاستعداد المسبق لتقبل حتى الرأي الممجوج سعيا خلف المكاسب، لذا لم يتردد أحد أتباع مسيلمة في كشف خيوط اللعبة معلنا أمامه: أشهد أنك الكاذب وأن محمدا صادق، ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر !

بحسب الباحثين في مجال علم النفس فإن الحكم الأخلاقي بحاجة إلى النظرة السيكولوجية التي تضفي عليه مزيدا من الشمولية والعمق. وصفة الكذاب التي وسم بها النبي صلى الله عليه وسلم أفق مسيلمة ومشروعه، تحيل على ديناميات سيكولوجية للكذب(1)، سيجتهد في بثها داخل محيطه لمحاولة الإقناع وجلب الأتباع.

تتعلق الدينامية الأولى بالتوافق الاجتماعي، بمعنى حرص الكذاب على أن يتوافق مع البيئة المحيطة به، و يماشيها تجنبا لحدوث تنافر أو صدام. فكان حديث مسيلمة عن تولي الأمر تأكيدا لأحقية اليمامة في لعب أدوار استراتيجية تدعمها مكانتها الاقتصادية، وتاريخها وحضورها الثقافي.

أما الدينامية الثانية فمرتبطة بالدفاع عن النفس، وحماية وضع قائم قد يترتب عن لزوم الصدق فيه نتائج غير مرغوبة. وفي حالة مسيلمة فنحن أمام رجل نشيط في مهنته ومتألق على الصعيد المادي والمعنوي. وتحكي المصادر أن ذيوع شهرته كان سببا لأن يكاتبه بنو حنيفة، و يستجلبوه للإقامة بينهم. وكانت الجو الثقافي و الديني في اليمامة منتعشا بفضل الاتصال بثقافات الشعوب الأخرى: كالفارسية والرومية، وهو ما انعكس بكل تأكيد على أسلوب تفكير مسيلمة، وغذى نزعته الكاريزمية.

في حين ترتكز الدينامية الثالثة للكذب على جلب المنافع، والبحث عن تدعيم الثروة والمكانة الوظيفية. فمسيلمة يرى نفسه الناطق باسم المصالح الحيوية لبني حنيفة، والمتصدي لمركزية قريش في المنطقة بعد استتباب الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه. وكان واضحا في إعلان مطالب قومه بهذا الشأن لما كتب للرسول صلى الله عليه وسلم كتابا قال فيه :” من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله أما بعد، فلك المدر(الحواضر)، ولي الوبر(ساكنة القرى). ويروى: فلكم نصف الأرض ولنا نصفها، ولكن قريشا قوم يعتدون.” إن انتزاع هذه المطالب تحت غطاء ديني، يرى فيه بنو حنيفة تعويضا عن الخسائر المادية التي يمكن أن تنجم عن اعتناقهم الإسلام، وتخليهم عن النصرانية التي كان يدين بها أشرافهم. فاليمامة قاعدة تجارية، ولن تقبل برجحان كفة قريش في صراع المصالح الاقتصادية.

وتعكس الدينامية الأخيرة مشاعر الغيرة والحسد من المنجز النبوي القائم على التوحيد و الوحدة، في مجال جغرافي سادته القبلية والتفكك، وتعددت فيه الآلهة بتعدد الأمزجة و الأهواء، بل حتى الكعبة المشرفة  لم تسلم من النسخ والتقليد، فظهرت كعبة نجران وذوالخلصة ورئام وغيرها.

تدفع مشاعر الغيرة إلى تحطيم منجز الآخر لإلغاء حضوره، أو على الأقل تشتيت الانتباه وصرف الأنظار عنه. من هذا المنطلق يمكن أن نفهم معارضة مسيلمة للقرآن الكريم بعبارات أثبتها بعض المؤرخين، وشكك آخرون في نسبتها لرجل يتمتع بقدر من الفصاحة؛ كما نفهم استخفافه بالشعائر وتمرد قومه على فريضة الزكاة.

وظف مسيلمة أكاذيبه وادعاءاته لإقناع قومه، ثم العرب عموما، بنبوة ثانية تحقق لليمامة رمزية الحضور وعظمة الإنجاز، كمثل الذي حظيت به قريش بفضل النبي محمد صلى الله عليه وسلم. فلم تكن النبوة في اعتقاده سوى غطاء ديني لبلوغ الزعامة السياسية، وتحقيق ملك شبيه بالروم وفارس.

ولاشك أن لمسيلمة نسخا مقلدة، تنبعث خلف كل فكرة رائدة أو مسعى نبيل لتجهز على المقصد والجهد، وتلغي الفارق بين الأصيل واللقيط  في تولي المسؤوليات الجسيمة، والتخطيط لمستقبل أفضل. إنها إحدى مآسينا التي لم نستوعب حتى الآن دروس التاريخ حولها، ونجتهد لعدم تكرار ما حدث !

 


1- يوسف أسعد: الكذب وأثره في الإنسان. دارغريب للطباعة والنشر والتوزيع. القاهرة 1998