في القرن الرابع عشر وبالتحديد في الفترة 1332م – 1406م كان الفيسلوف والمؤرخ الإسلامي عبد الرحمن بن خلدون يقدم اقتراحات وأفكارا عظيمة في كافة مجالات العلوم الإنسانية وخاصة تطور المجتمعات، وقد أسست أفكاره لاحقا ما عرف بـ”علم الاجتماع”، وكان لمقدمته تأثير بالغ في صناعة هذا العلم والتأصيل له، وذلك بشهادة علماء الغرب أنفسهم، فلماذا أهمل المسلمون تراث ابن خلدون ؟

نفس الأفكار والمقترحات و الاستنتاجات التى جاء بها ابن خلدون عن علم الاجتماع كانت هي الأساس والمعتمد لدى علماء الاجتماع في الغرب من أوغوست كومت 1798م – 1857م، ايميل دارخيم 1858م – 1917م، فيرديناند تونيس1855م – 1936 م وحتى كارل ماركس 1818م – 1838م .

حاول ابن خلدون دراسة وفهم آلية تطور المجتمعات، والمؤثرات والعوامل التى تساهم في هذا التحول بطريقة نقدية أثارت إعجاب الباحثين والنقاد.  رغم كل هذا ما تزال إسهامات ابن خلدون العظيمة مغيبة ومهملة في غالبية بلدان عالمنا الإسلامي رغم حاجتنا الملحة لتراثه ونظرياته وعلومه.

ابن خلدون وصفه الفيلسوف الإسباني خوسيه أورتيغا اي جاسيت بفيلسوف التاريخ الإفريقي ووصف مقدمته بأنها أول كتاب يؤلف في فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع، بينما غاص البروفوسير ناثانيل سميث في حياة ابن خلدون وتعليمه و رحلاته بين المدن من خلال كتابه (ابن خلدون ، مؤرخ وفيلسوف)، ذهب مؤرخ بريطانيا وفيلسوف التاريخ أرنولد توينبي إلى اعتبار ابن خلدون أهم شخصية في التاريخ كتبت عن تطور الحضارات الإنسانية  وتشكلها.

إلا أن الظهور الأول لتراث ابن خلدون في أوربا كان في 1636 من خلال كتاب جاكوب جالوي “رحلات ابن خلدون”، في 1818 قام المؤرخ والفيلسوف النمساوى هامر بورشتيفال بترجمة أعمال ابن خلدون إلى اللغة اليونانية وقد أعجب بابن خلدون إعجابا شديدا وكان يطلق عليه “مونتيسكو العرب”. أما في تركيا فكانت أولى المحاولات للاستفادة من تراث ابن خلدون على يد المؤرخ التركى مصطفى نعيما سنة 1609 وهو من أشهر  مؤرخي الدولة العثمانية.

ابن خلدون في علم الاجتماع المعاصر

في العصر الحديث ظل تراث ابن خلدون حاضرا بقوة من خلال نظرياته في الاقتصاد والتعليم و التاريخ وعلم الاجتماع، وكانت إسهاماته محل تقدير من المؤسسات العلمية الغربية حيث تصدر الجامعات الغربية سنويا عشرات الكتب التى تتحدث عن ابن خلدون وحياته ورحلاته وما كتبه في مجال فروع العلوم الإنسانية.

بدأ الاهتمام بتراث ابن خلدون من قبل الباحثين والمهتمين بالعلوم الإنسانية خاصة في آسيا و أوربا وشهد هذا الاهتمام تطورا ملحوظا سواء من خلال البحوث و الكتب أو المؤتمرات والدراسات، الكثير من هؤلاء الباحثين بدأوا إعادة اكتشاف مساهمات ابن خلدون في علم الاجتماع خاصة والعلوم الإنسانية بشكل عام ثم بدأت نظريات ابن خلدون تستخدم بشكل مكثف في العصر الحديث من قبل الباحثين والمختصين، وذلك لمعرفة الظواهر السياسية والاجتماعية التى تطبع مجتمعات اليوم وتفسيرها بناء على النظرية الخلدونية.

في هذا الإطار أصدرت مؤسسة Oxford University Press كتابا من تأليف فريد العطاس، يحاول هذا الكتاب تسليط الضوء على جوانب مختلفة من حياة ابن خلدون و بحوثه ونظرياته واسهاماته في التراث العلمي للإنسانية.

ثم جاء الباحث والاقتصادي الدكتور محمد عمر شبرا ببحث حول مدى قدرة النظرية الخلدونية على حل مشاكل المجتمعات المسلمة في عصرنا الحاضر، وفي دراسة مقارنة في التاريخ بين ابن خلدون وهيجل للباحث التركي علي كاكسو محاولة لفهم منهجية ابن خلدون في التفرق بين “الحقيقة Reality” و”الخيال Ideal “.

حجم البحوث والدراسات الصادرة من الجامعات ومراكز البحوث الغربية والآسيوية ومستوى الاهتمام بتراث ابن خلدون ودراسته يجعل من هذا العالم والفيلسوف و المؤرخ الإسلامي أبا مؤسسا لعلم الاجتماع المعاصر.

ابن خلدون في جامعة ييل الأمريكية

في الفترة ما بين مارس وإبريل سنة 2008 أقامت جامعة ييل (Yale) إحدى أعرق الجامعات الأمريكية معرضا خاصا بتراث ابن خلدون، وقد استقطب المعرض الكثير من الزوار من باحثين ومؤرخين وأساتذة جامعات وطلبة وكانت فرصة أكاديمية مهمة نوقشت فيها الكثير من أعمال ابن خلدون خاصة كتابه “المقدمة”.

حسب جامعة ييل فإن أول نسخة من مقدمة ابن خلدون تتألف من 3 مجلدات بتحقيق المستشرق الفرنسي إلين مارك كارتمير 1782 – 1857، وقد نشرت هذه النسخة 1858 في باريس بفرنسا.  تعود شهرة ابن خلدون إلى كتابه “المقدمة”  الذي كان بمثابة الجزء الأول من كتابه “العبر” وقد شكل هذا الكتاب أساسا لعلم جديد وهو “علم العمران” ويهتم بتطور المجتمعات البشرية واستخدمت نظريات ابن خلدون من طرف علماء الاجتماع والاقتصاد والمؤرخين والفلاسفة وخبراء التاريخ.

ترجمت المقدمة إلى أكثر من عشرين لغة إضافة إلى نشر مئات الكتب و البحوث والمقالات حولها، وما تزال المراكز العلمية والبحثية تعتمد على هذه المقدمة في تطوير مناهج التعليم وعلم الاجتماع و التاريخ وغيرها من العلوم.

يقول البروفسور Franz Rosenthal من جامعة ييل  في ترجمته الإنجليزية للمقدمة : “لا يمكن إلا أن نقول إنه كان هناك رجل بفكر عظيم استطاع أن يمزج بين الفكر والعمل في حضارة كانت قوية، ورغم مخالفة ماجاء به لبعض التقاليد التى كانت قائمة إلا أنه نجح في فرض موقفه التارخي من خلال عمل جبار يعتبر واحدا من انتصارات البشرية الهامة”.

فى عالمنا الإسلامي ، رغم حاجتنا وأحقيتنا بتراث ابن خلدون ونظرياته التى نحتاجها في تعليمنا ، وصناعتنا ، وسياستنا وتاريخنا ومستقبلنا وحاضرنا لا يزال هناك تجاهل وإهمال لتراث هذا الفيلسوف المسلم العظيم الذي استطاعت الإنسانية أن تستفيد من علمه وتستخدمه في تطوير منظومتها التعليمية، واقتصادها ورسم مستقبلها وحاضرها فلمذا أهمل المسلمون تراث ابن خلدون؟