ثـمَّة نوع آخر من التَّطبُّع لا يقلُّ تعطيلاً أو تكبيلاً لإنجاز التربية الفكرية عن التَّطبُّع الثقافي الذي هو من صميم الفلسفة الطبيعية، لأنّه آتٍ من عوالم الفلسفة الصناعية وسمات المفاهيم والاصطلاحات، ونقصد به الآثار التي تتركها تعاليم المنطق والعلوم في تفكير الإنسان، فهي وإن كانت من أمارات إعمال الفكر في الأشياء والظّفر بثمرات منهجية في الفكر والعلم؛ إلا أنَّ التُّخمة منها قد تحول دون إبصار الحقيقة بما هي أفق مفتوح ومستمر ومنفتح؛ وقد استطاع ابن خلدون أن يتلحَّظ هذا النَّوع من التطبع في الفصل السَّابع والثلاثون من الباب السادس، من المقدمة تحت عنوان “في وجه الصَّواب في تعليم العلوم وطريق إفادته“، من خلال عنوان فرعي هو “الفكر الإنساني”.

ففي هذا المبحث يحاجج ابن خلدون على صلاحية الاستناد إلى معيار الطَّبيعة الفِكرية الأصلية التي فطر الله بها الإنسان في تصَيُّد الإمام الأوسط (الحد الأوسط) في العلوم، ثم شرع بعد ذلك في بناء تقابل منهجي بين الفطرة الفكرية الأصلية وبين الصناعة المنطقية ومباحث الألفاظ والمفاهيم، فالصّناعة المنطقية ليست شيئاً متميزاً وفائقا عن الفكر الإنساني كما فطره الله على أصله، فإن هي إلاَّ تَصَرُّفٌ في تلك الطَّاقة الفطرية الأصلية، وترتيبٌ لمسائلها، وصوغها في حدود وألفاظ مخصوصة. “ولذلك تجد كثيراً من فحول النظّار في الخليقة يحصلون على المطالب في العلوم دون علم صناعة المنطق، ولا سيّما مع صدق النيّة والتعرُّض لرحمة الله تعالى، فإنّ ذلك أعظم معنى. ويسلكون بالطّبيعة الفكرية على سدادها فتفضي بهم بالطّبع إلى حصول الوسط والعلم بالمطلوب، كما فطرها الله عليه.”[1]

فالصّناعة المنطقية ومناهج العلوم الموضوعة قد تكون حُجباً فكرية ونفسية تمنع انطلاق الفطرة الفكرية وجولانها في الموضوعات. ولهذا الأمر عاند ابنُ تيمية المنطق اليوناني، وقلّل من قيمته المنهجية، ليس تَشهّياً أو تحكّماً، وإنَّـما لكون الصّناعة المنطقية تحبس فطرة الفكر في حدودها وقياساتها التي لا تضيف معرفة جديدة، وهنا يقول ابن تيمية : “كنت دائماً أعلم أنَّ المنطق اليوناني لا يحتاج إليه الذكي، ولا ينتفع به البليد، ولكن كنتُ أحسب أنَّ قضاياه صادقةٌلما رأينا من صدق كثيرمنها، ثم تبيَّن لي بعد ذلك خطأ طائفة من قضاياه…مثل ما ذكروه من حصر طرق العلم فيما ذكروه من الحدود والأقيسة البرهانيات، بل ما ذكروه من الحدود التي بها تُعرف التصوّرات، بل ما ذكروه من صور القياس ومواده اليقينيات.”[2]

إنَّ الأنظار الفكرية والأقيسة المنطقية ليست معايير كلية لوزن الأفكار والأفعال، وإنَّـما هي اجتهادات إنسانية مرتبطة بتاريخها وسياقاتها. وعليه فإن الفكر الذي يحوي داخله العلم -ويكون جالباً للمصالح، دارئا للمفاسد، ومسافراً مع حركة العِمارة المتبدّلة في طبائعها- هو الفكر المنشود حقاً. كما يجدر صرف القول إلى أنَّ الاعتراض على الثقة المفرطة في المنطق، لا يستلزم التقوّل عليه، أو نفي دوره الإجرائي رأساً، وإنَّـما مطالب التربية الفكرية تنظر إليه بوصفه آلة، ومعلوم أنَّ العلوم الآلية “لا يُوَسَّعُ فيها الكلام ولا تُفرّعُ المسائل، لأنَّ ذلك يخرج بها عن المقصود؛ إذ المقصود منها ما هي آلة لا غير”[3].

فضلاً عن أنَّ الآلات أو الأدوات تتجدَّدُ بتجدُّد العلوم، ونحن في مباحث المنطق اليوم أمام أدوات المنطق الرياضي ، وعلوم اللّسانيات ومباحث الحجاج وعلم الأفكار وتاريخ الفكر والمكاسب الجديدة لعلوم النَّفس والإناسة. والتَّربية الفكرية من لوازمها في المنهج أن تستمد منها، فهي الأخْلق بتَجديدالقِوى العقلية وتوجيهها نحو قيم العمران.

بعد إجالة النّظر في سقم الصناعات الفكرية ، لابُدَّ لنا من صرف السَّعي إلى مناظرة ما أسميناه الصّناعة المنطقية أو العلمية بعامة،التي كان قد تنبه لها ابن خلدون، عندما انتقد الإفراط في المنطق والنظر إلى أقيستها الفكرية بعين التَّقديس، فهو لم يعاند القيمة الإجرائية للمنطق، وإنما أراد أن يأخذ بيد المتعلمين إلى أنَّ ارتباك الفهم في أوقات كثيرة إنما هوعائدٌ إلى تشويش الصّناعة المنطقية وحجب الألفاظ، ولذا “لابُدَّ أيها المتعلّم من مجاوزتك هذه الحجب كلّها إلى الفكر في مطلوبك…، (لأنَّ) جهة الحق إنَّـما تستبين إذا كانت بالطّبع.”[4]

والتربية الفكرية انطلاقاً من رؤية ابن خلدون، إنَّـما تتقوَّى ليس دوماً بالتعليم الصناعي ولا الانسياق خلف حجب الألفاظ والمعاني التي لا تنعدُّ أو تنحدُّ، وإنَّـما بتعليق الأحكام والانعطاف على الذَّات، استنطاقاً للفكر الطبيعي الأصلي الذي ركبه الله فينا. وبعد أن استوفى ابن خلدون بسط المقابلة بين القانون الصّناعي والفكر الطبيعي، يوجّه المتعلم وبنص كثيف الدلالة إلى منهج استخدام الفكر الطبيعي قائلاً: “فإذا ابتليت بمثل ذلك وعرض لك ارتباك في فهمك أو تشغيب بالشّبهات في ذهنك، فاطرح ذلك وانتبذ حُجب الألفاظ وعوائق الشُّبهات، واترك الأمر الصّناعي جملة واخلص إلى فضاء الفكر الطَّبيعي الذي فطرت عليه. وسرّح نظرك فيه، وفرّغ ذهنك فيه للغوص على مرامك منه، واضعاً قدمك حيث وضعها أكابر النظّار قبلك، متعرّضاً للفتح من الله، كما فتح عليهم من رحمته وعلّمهم ما لم يكونوا يعلمون.”[5]

وجلي من هذا الإقرار المنهجي اللَّطيف؛ أنَّ ابنَ خلدون يعدّد الخطوات المنهجية الجديرة برفع الإشكالات توالياً:

أولا : عندما تنعقد الإشكالات، لابُدَّ من الابتعاد عن المعاني السَّائدة للكلمات، لأنَّـها تحجب رؤية الحلول، والإعراض عن الالتباسات التي علّتها انحجاب الرؤية والفهم أثناء بحث أمر من الأمور.

ثانياً : الانصراف عن كل المناهج المستعملة في البحث، لأنهاكُوى (فتحات) ننظر من خلالها إلى الموضوع، وبالتالي تمارس تأثيرها علينا إظهاراً وإخفاء.

ثالثاً : الدُّخول إلى الموضوع من بابه؛ أي الفكر الطبيعي بتسريح النَّظر من قيد المناهج والأفكار، وتركيز الفكر على مطلوب البحث.

رابعاً : الاتصال بالله ، وطلب التزيّد من العلم والفهم، مخلصاً شاعراً بعجزك وبقدرة الله المطلقة، ومن أنّه منبع الاستفتاح والرحمة وانكشاف المشكلات في العلوم.

إنَّ هذه الخطوات المنهجية، لحقيق بجهود التربية الفكرية، تنمية القول فيها، والإرشاد إلى استعمالها، لأنَّ الثَّمرة أو النتيجة بعد هذا الاعتماد على الفكر الطبيعي؛ إشراق أنوار الفتح أوحلّ الإشكال بصفاء خالص، وبهذا يكون الطالب قد ظفر بمطلوبه من البحث الذي هو محل اهتمامه.لكنَّ ابنَ خلدون لا يترك الفكر الطبيعي في باب التأمّل مجرداًعن المنهج والترتيب:”وحينئذ فارجع به إلى قوالب الأدلّة وصورها، فأفرغه فيها، ووفّه حقه من القانون الصّناعي، ثم اكسه صور الألفاظ، وأبرزه إلى عالم الخطاب والمشافهة وثيق العرى صحيح البنيان.”[6]

وكأن حركة الفكر عندما يستشكل عليها الأمر، يكون بدؤها الإقبال على الفكر الطبيعي والاستمطار لرحمة الله، وعندما تُبرق الأنوار في القلب إيذاناً بالصّواب، لابُدَّ من ملاءمتها مع المناهج الموجودة أو صوغ مناهج أخرى وتعبيرات اصطلاحية تُوفّي بها.وإذْ عُرف هذا، فمن الواجب القول، أنَّالمرافق المجتلبة من إعمال الفكر الطَّبيعي في سياق البناء التربوي، يمكن إدراجها ضمن التربية الإبداعية، التي تحرر الفكر من القوالب المنهجية السَّائدة، والحائلة في الآن نفسه دون تفجير المعاني وابتكار المقولات، فضلاً عن أنها أسلوبٌ تربوي رائق، وحافزٌ لبذل الجهد الفكري؛ ولـمَّا كانت الصّناعات الفكرية أصولها في الفكر الطبيعي، فَالبِحَري الأخذ منه، لأنّه ينزل منزلة أصول الصّناعات الفكرية، ومبدؤها في الصّدق والقوة، فهو من جهة البدء مفتاحٌ لإزالة الإشكالات التي تَعْتَوِرُ الباحثين في الطَّريق، ومن جهة المُنتهى، السبَّيل الذي يحقق الاستقلال الفكري للعلماء المجتهدين.

وفي هذا يقول أبو حامد الغزَّالي : “فجانِبْ الالتفات إلى المذاهب واطلبْ الحقَّ بطريق النّظر لتكون صاحب مذهب، ولا تكن في صورة أعمى تقلّد قائداً يُرشدك إلى طريق…فلا خلاص إلاَّ في الاستقلال..إذ الشكوك هي الموصلةُ إلى الحقِّ، فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر.”[7].

فهذا من مجامع ما أمكننا تحصيله والإشارة إليه من مناقب الفكر الطبيعي، وتقديرنا فيه أنه سيكون عماداً من أعمدة مناهج التربية الفكرية، بخاصة في سياق الثقافة المعاصرة، التي تملأ بنوكَها المعلوماتُ، وتبث عبر عوالِـمها الافتراضية الأفكار والآراء. وإذا لم يكن للقارئ رأسمال ثقافيٍّ يتواصل به، وطاقة شعورية خلاّقة يواصل بها مسيرته، فإنَّ فكره سيتجمّد وقواه العقلية ستخبو أنوارها.


[1]ابن خلدون، أبو زيد عبدالرحمن بن محمد (توفي808ه)، مقدمة ابن خلدون،  مرجع سابق، ص612.

[2]ابن تيمية، مختصر نصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان (جهد القريحة في تجريد النصيحة) اختصره: السيوطي، الحافظ جلال الدين، في كتاب: حلاق وائل، ابن تيمية ضد المناطقة اليونان، ترجمة، عمرو بسيوني، بيروت: ابن النديم للنشر والتوزيع، دار الروافد، ناشرون، 2019م، ص 144، 145.

[3] ابن خلدون،المقدمة، مرجع سابق، ص613، (الباب السادس) الفصل الثامن والثلاثون.

[4]مقدمة ابن خلدون، ص 612- 613.

[5]المرجع السابق، ص 612.

[6]المرجع السابق، ص612.

[7]الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد (توفي 505ه)، ميزان العمل، تحقيق، محمد عبد الهادي أبو ريدة، مصر: دار المعارف، 1964، ص 409.