حركة التاريخ تأبى الفراغ، فكل نهاية إعلان عن بداية جديدة، فالانسحاب والحضور هما فعل واحد، والمفاهيم كأحداث التاريخ، فنهاية مفهوم ما هو إعلان عن ميلاد آخر، وكل مفهوم لا ينشأ خارج الحدث والشروط الحاكمة على الفكر الذي ينتجه، فالمفهوم أداة معيارية للتعرف على الأحداث والأفكار وفهمها.

والحدث المرتبط بمفهوم “ما بعد العلمانية” هوالعودة القوية الدين في السجالات العامة بعد عقود طويلة من تنحية العلمانية له، فأصبح للدين صوت شرعي في الفضاء العام، والمصطلح حديث الولادة في المجتمع الثقافي الغربي، فهو لم يتشكل بعد، ولم تكتمل عناصره النظرية، وترجع بداياته التأسيسية لندوة بحثية عقدت عام 2010 وشارك فيها عدد من الفلاسفة والمفكرين أبرزهم: يورغن هابرماس، وتشارلز تايلور، وبيتر بيرغر، وخوسية كازنوفا، وهؤلاء أبدوا انفتاحا على الدين وقضاياه، وكان المنطلق هو أن العصر العلماني بلغ منتهاه، وأن العالم الغربي دخل في واقع جديد لم يعد فيه الكلام السابق عن العلمانية أمرا جائزا، ولم تعد العلمانية الحل الأمثل للمشكلات والأزمات الغربية.

وفي هذا الإطار يأتي صدور كتاب “ما بعد العلمانية: مقاربة تحليلة نقدية لمنشأ المفهوم ودلالته” تأليف الباحث اللبناني محمود حيدر، والصادر شتاء 2019 عن المركز الإسلامي في بيروت ضمن سلسلة مصطلحات معاصرة، في 204 صفحة، الكتاب يتكون من خمسة فصول، هي: تأصيل المفهوم، ومنظرو ما بعد العلمانية، ومكانة الدين في نظرية ما بعد العلمانية، وما بعد العلمانية في مقام التجربة التاريخية، ونقد ما بعد العلمانية.

أزمة العلمانية

العلمانية لم تتحول إلى سلطة صارمة إلا بعد أن اتخذت الدين نقيضا وجوديا لها، وفي اللحظة الراهنة لا يمكن الحديث عن العلمنة بمعزل عن حاضرية الدين في العالم الغربي كمنظومة قيم إيمانية ومجتمعية تؤثر في إعادة تشكيل الحضارة المعاصرة، ولكن هل “ما بعد العلمانية” هو عنوان لمرحلة تكيف تبحث عنها العلمانية في ظل حاضرية الدين، وظهور رؤى فكرية جديدة تعمل على تجاوز مرحلة التناقض التام بين الشأن الديني والعلماني؟ وهل “ما بعد العلمانية” ما هي إلا توسيع للأفق العلماني لتستأنف العلمنة طريقها في حياة الغرب الحديث؟.

ربما يعود السبب في انطلاق “ما بعد العلمانية” إلى الأزمات البنيوية للعلمنة نفسها في تجربتها التي امتدت ثلاثة قرون، ونشوء أسئلة غير مسبوقة تقتضي إجابات جديدة في المجتمعات الغربية، فمثلما افتتحت العلمنة مسارها بمقولة “إزالة السحر عن العالم”، تفتتح “ما بعد العلمانية” مسارها بمقولة “إزالة العلمنة عن العالم”، فلم تتحول “ما بعد العلمانية” إلى مفهوم إلا بعدما أُشبعت العلمنة جدلا واختبارا حتى أوشكت أن تُهجر، لذا راحت العلمانية تحفر سبيلا جديدا بقصد التجدد والديمومة.

العلمنة في بعض صورها هي العقلنة، أي الإيمان بالعقل المكتفي بذاته، وتقصي في جانبها السلبي القدسية عن الحياة، فقد وقفت العلمنة في تضاد مع الدين، فهي تثق في العقل ولا تثق في الدين، وتهز الثقة في الأوامر الدينية عن طريق تكريس محورية العقل، وبذلك تصبح شرعية القوانين والأخلاق قائمة على العقل لا الدين، لذا كانت العلمانية مفهوم كلي تصدر عنه المفاهيم الجزئية، أي “شيء فوق الأيديولوجيا” لأنها تدعو إلى رؤية كونية محددة، ومن هنا كانت متعارضة مع الدين، فكل منهما يطالب بنوع من الإيمان والالتزام والطاعة.

ولكن ما هي التحولات المعرفية التي تشهدها المجمعات الغربية المعاصرة تجاه عودة سؤال الدين من جديد؟

يلاحظ أن العقل الذي شيدت عليه الحداثة منجزاتها الكبرى ما عاد قادرا بأدواته المعرفية المألوفة عل مواجهة عالم ممتليء بالخشية واللايقين، وما عادت العلمنة قادرة على إكمال مسيرتها دون التفاعل مع النمو المتعاظم لسؤال الدين، فاللحظة التي بدأ العالم يدخل فيها القرن الحادي والعشرين كانت لحظة توفرت فيها تربة خصبة لاستنبات مراجعات جذرية مع حداثة وعلمنة جاوزت مبادئها، ولعل أهم ما يمكن الإمساك به في توصيف “ما بعد العلمانية” هو حاضرية الدين، فصار الحضور قضية معرفية وحضارية تحظى باهتمام متعاظم.

الحقيقة أن الدين لم يفارق هواجس الغرب وتعقلاته، حتى إن بعض الفلاسفة الغربيين، مثل الروسي “نيقولا برديائيف” كان يردد أن “لليقظات الفلسفية دائما مصدر ديني”، وكان يرى أن الإيمان الديني هو حالة فوق تاريخية ولا يستطيع العقل العلماني أن يقاربها، بل زعم أن الفسلفة الألمانية الحديثة هي أشد مسيحية من فلسفة العصور الوسطى، لأنها نفذت إلى نهاية الفكر المسيحي ذاته.

والواقع أن العلمانية لم تستطع استئصال البعد الروحي في الإنسان، لكنها نجحت في تعطيل المعين الذي يستمد الإنسان منه أخلاقه، نظرا لقيامها بتعظيم الذات الفردية، وسعيها إلى الاستقلال المفرط عن أي معيارية أخلاقية تنظم الاجتماع البشري على مبدأ الرحمة والعدل، ونتج عن ذلك فقدان العقل لدوره في تحكيم الجدالات الأخلاقية، وعدم قبول أية معيارية خارج التحكيم الشخصي، وبذلك صارت الفردانية عقيدة صماء تنكر أي مبدأ يعلو على القيم الفردية، وحسب المفكر الفرنسي “رينيه غينون” فإن تلك الفردانية غلبت الدنيوية التي أسست للانحطاط الراهن في الغرب، فالفردانية تمثل النزعة السفلي في الإنسانية، والتي لا يؤشر وجودها على وجود أي بعد فوق بشري يوجه السلوك الإنساني، فالفردانية خالية من أي روحانية أو عقلانية حقيقية.

ولعل من أهم الانتقادات التي وجهت للعلمانية أنها تحولت إلى “لاهوت أرضي” أو أيديولوجيا تُلهم الدولة والمجتمع ، فوقع الغرب في المأزق الذي سعى للخروج منها، وتحولت العلمنة إلى سلطة لاهوتية قهرية تصدر أحكامها بلا هوادة، لكنها لم تستطع أن تصمد أمام النقد الذي زعزع يقينها بعدما زرعت الشك في كل شيء، وهنا نستحضر ما قاله الفيلسوف مارتن هايدغر عام 1966، أي قبل وفاته بعشر سنوات، حيث قال:” الله وحده ما زال بإمكانه إنقاذنا”  فنحن “عندما ننحدر فإننا ننحدر بسبب غياب الإله”، ووصف ذلك بـ”نسيان الوجود” حيث أغفلت العلمنة النظر عن البعد المتعالى في الإنسان،  فالإنسان يغفل عن وجوده لأنه ينظر دائما إلى الموجود، وللوصل إلى حقيقة الوجود لابد من التعالي والخروج من دائرة الموجودات ولا يتحقق ذلك إلا بالرهبة والحيرة، فبالرهبة يخرج الإنسان من الغفلة، وبالحيرة يبدأ الإنسان في التفكير.

العقل بين العلمانية والدين

في العلمانية تُرك العقل مجردا من الحقيقة الإلهية، فتحول إلى أداة للتصنيع وإدارة للتسويق من دون أهداف أخلاقية أو غاية متعالية، ورغم أن العلمانية شكلت في بعض وجوهها قيما من العدالة في دعوتها للحرية في الاعتقاد ورعايتها للتنوع إلا أنها تظل غير منتجة للأخلاق، ولعل اختبار العلمانية في الواقع على مدى القرون السابقة كشف عن حقيقتها، فحدث انكشاف لها، ويصدق عليها مقولة الفيلسوف “نيتشه” “بالمعرفة الكاملة بالأصل يزداد الأصل تفاهة” أي أن الأصل  عندما يصير معروفا من خلال اختباراته العملية وظهوره الكثيف على الملأ يقل سحره وتتلاشى جاذبيته؛ وعلى هذا فالعلمانية اختبرت فعُرفت، ثم انكشف سترها بعدما بلغت غايتها وانتهت إلى العدم، لذا تعرضت لانتقادات قوية.

ويلاحظ أن المسيحية التي أخرجت الحداثة من كمونها، وكانت أبرز ضحايها ستعود لتحاكم الحداثة بأسئلتها البدئية، كما لو أنها تُسائلها لو أنه مازال بمقدورها الاستمرار في الحياة دون العودة إلى الإيمان، فالعلمانية التي حولت الإنسان إلى شيء، وحكمت ببطلان أفقه المتعالى الروحاني والغيبي فتحت أبواب الإلحاد، لكن كلا من الإلحاد والعلمانية حملا في داخله فكرة متهافته، ملخصها: أن الإنسان كائن زائل، وهي فكرة تقضي على عظمة الإنسانية وما فيها من تعال وروحانية وتجاوز لإطار المادة.

التناقض بين الإيمان والعقل، كان هذا الإدعاء هو الحجة الأكثر رواجا لدى الإلحاد، وهي الورقة التي أمسكت بها العلمنة على مدار أزمنة الحداثة بغية إقصاء الدين وإحلال العلمانية كتصور نهائي ومعياري لفهم الكون إنسانا، وطبيعة،  وموجودات..ولكن ما هو العقل الذي كان يُستدعى دائما لمحاربة الإيمان؟ هل هو المنهج العلمي الدقيق والمنطق الصارم أم هو العقل كمنبع المعنى ومنشيء المعايير والمباديء؟

في بعض الرؤى الغربية الإيمان لا يمكن أن يكون نقيضا للعقل لأن في ذلك نزع للصفة الإنسانية عن الإنسان، فتدمير العقل هو تدمير للإنسان ذاته، فالعقل شرط تأسيسي للإيمان، والإيمان يجعل العقل ينجذب إلى ما وراء ذاته، فيرتحل عن الإنانية والأثرة والفردية نحو العطاء والخيرية والغيرية، فالإيمان يخلق للعقل فضاء لامتناه وهما مقدسا نبيلا، وهو ما يحقق للعقل ذاته، ومن ثم فمقام الإيمان هو أعظم مقامات العقل.