مادة ” ش ر ع “- ومنها الشريعة والشرعة والشرع – يشمل استعمالُها في القرآن الكريم كلَّ ما أنزله الله لعباده، من معتقدات، وعبادات، وأخلاق، وآداب، وأحكامِ عادات ومعاملات. وتأتي العقائد والعبادات في طليعة ما شرعه الله وجعله شريعة للعباد، كما هو واضح في قوله تعالى:

– (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)[الشورى/​13]

– (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) [الشورى/​21]

“وعن السديّ، في قوله: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا ) قال: هو الدين كله“[1]

أما لفظ “شريعة”، فقد ورد في القرآن الكريم مرة واحدة ، في قوله تعالى: (ثم جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [الجاثية/​18]

وورد شقيقه، لفظ “شرعة”، في قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) [المائدة/​48]

قال الإمام الطبري: “والشِّرْعة: الشريعة بعينها، تُجمع الشِّرعة شِرَعًا، والشريعة شرائع، ولو جمعت الشرعة شرائع كان صوابا، لأن معناها ومعنى الشريعة واحد“[2].

وقال القرطبي: والشِّرعة والشريعة: الطريقة التي يُتوصل بها إلى النجاة. والشريعة في اللغة: الطريق الذي يتوصل منه إلى الماء. والشريعة ما شرَع الله لعباده من الدين، وقد شرع لهم يَشْرَعُ: أي سَنَّ. والشارع: الطريق الأعظم.“[3]

فالشريعة في اللغة، تعني الطريق العظيم والصراط المستقيم.

والشريعة في استعمال القرآن مساوية لمعنى الدين الذي هو الصراط المستقيم . كل ما في الأمر أن التعبير بلفظ “الشريعة”، هو باعتبار واضعها وهو الله تعالى، فهو الذي (شَرَعَ لَكُمْ …)، وأما التعبير بلفظ “الدين”، فباعتبار أن الإنسان يدين به.

وبهذا المعنى الواسع الجامع للشريعة، ألَّف الإمام أبو بكر الآجُرِّي (المتوفى سنة 360هـ) كتابه الذي سماه ( الشريعة)، مع أن أكثر ما فيه مسائل عقدية وتربوية.

وبعده ألَّف الفيلسوف المسلم الراغب الإصفهاني (المتوفى سنة 500 ، أو502 هـ)، كتابه الشهير (الذريعة إلى مكارم الشريعة)، وهو كتاب في فلسفة الأخلاق والتربية. فالراغب يعتبر — بحق — أن تهذيب النفوس والعقول والأخلاق من صميم الشريعة ومكارمها. وهو يُعرف مكارم الشريعة فيقول: “ومكارم الشريعة هي: الحكمة، والقيام بالعدالة بين الناس، والحِلم، والإحسان، والفضل. والقصد منها أن تبلغ إلى جنة المأوى، وجوار رب العزة تعالى.“[4]

وقبل الوصول إلى جنة المأوى، فإن مكارم الشريعة — كما يحددها الراغب — تتلخص في تحقيق الغايات الثلاث الكبرى للوجود الإنساني، وهي: العمارة، والعبادة، والخلافة[5] يقول: ” ومن لم يصلح لخلافة الله تعالى، ولا لعبادته، ولا لعمارة أرضه، فالبهيمة خير منه“[6]

فهذه هي “الشريعة”، وهذا هو المفهوم الأصلي لها.

ومع التوسع العلمي وتشعب التخصصات العلمية، ظهر استعمال لفظ “الشريعة” استعمالات اصطلاحية. والاستعمال الاصطلاحي عادة ما يضيق من مدلولات الألفاظ ويقصُرُها على بعض مدلولاتها اللغوية.

ومن المعاني الاصطلاحية الخاصة التي استُعمل بها لفظ الشريعة، المعنى الذي يعنيه الصوفية عندما يقابلون بين “الشريعة والحقيقة”. فالشريعة هنا، صُرف معناها إلى التكاليف والضوابط الشرعية الظاهرة، الموجهة إلى“عامة” المكلفين. وأما الحقيقة — في هذا الاصطلاح — فهي الجواهر والبواطن والأسرار التي يدركها ويبلغها “الخاصة” من العباد والزهاد والعارفين …ومن هنا نشأ القول بعلوم الظاهر وعلوم الباطن، وتم على هذا الأساس التفريق بين وظيفة الفقه ووظيفة التصوف. وهي كلها اصطلاحات وتقسيمات طارئة ، ينبغي ألا تحجب عنا المعاني والمفاهيم الشرعية الأصلية، كما هي في نصوص الشرع، وكما هي عند المتقدمين.

على أن أشهر استعمال اصطلاحي للفظ الشريعة، هو استعمالها للدلالة — بصفة خاصة – على الأحكام العملية في الدين، أي كل ما سوى العقائد، لكن مع الاحتفاظ في هذه الدلالة بجميع المجالات التشريعية العملية الواردة في الدين، ومنها العبادات الظاهرة والباطنة، والأخلاق والآداب. فالشريعة بهذا المعنى تشمل الدين كله إلا العقيدة. ومن هنا جاء استعمال عبارة ” الإسلام عقيدة وشريعة.“[7]، على أساس أن العقيدة غير الشريعة.

ومنذ قرون طويلة، أصبح هذا المعنى هو الأكثر شيوعا واستعمالا لدى العلماء، ولكنه لم يُلغِ المعنى الأول والأعم للشريعة والشرع، كما أنه ظل واسعا وشاملا لكل المجالات التشريعية. فمجال الشريعة هنا أصبح تقريبا هو نفسه مجال “الفقه”، بمعناه الاصطلاحي المعروف. ويبقى الفرق بينهما هو أن الشريعة تطلق على ما هو مُنَـزَّل ومنصوص وصريح، من الأحكام ومن القواعد الشرعية، بينما الفقه — أو علم الفقه — يراد به خاصة ما هو مستنبط ومجتهَد فيه.

وفي العصر الحديث اتجه استعمال اسم الشريعة نحو مزيد من التخصيص والتقليص، وخاصة حينما بدأ التعبير بلفظ ” التشريع الإسلامي”، على غرار ” التشريع” بمعناه القانوني. وهكذا بدأ إطلاق الشريعة والتشريع الإسلامي على التشريعات المنظمة للحياة العامة . وهو اصطلاح العلامة ابن عاشور ، الذي يقول: ” فمصطلحي[8] إذا أطلقت لفظ التشريع أني أريد به ما هو قانون للأمة ، ولا أريد به مطلق الشيء المشروع. فالمندوب والمكروه ليسا بمرادَيْن لي، كما أرى أن أحكام العبادات جديرة بأن تسمى بالديانة.“[9]

وبهذا أصبح معنى الشريعة مماثلا أو مقابلا لمعنى القانون. ومن هنا بدأت تظهر المقابلة والمقارنة بين (الشريعة الإسلامية) و(القوانين الوضعية). وقد تعززت هذه المقابلة، وتحولت إلى خصومة ومنافسة، بسبب ما تعرضت له أحكام الشريعة — المدنيةُ والجنائية — من إزاحة قسرية، لفائدة القوانين المستوردة من الغرب. وهذا ما جعل العلامة الأستاذ علال الفاسي يتحدث عن صراع بين (الشريعة الإسلامية) و(الشريعة الاستعمارية)، وذلك في كتابه القيم (دفاع عن الشريعة).

والخلاصة: أن الاستعمال المضيق لمفهوم الشريعة إنما هو استعمال اصطلاحي، فلا ينبغي أن يحجبنا أو يحجب عنا المعنى الأصلي والكامل للشريعة الذي على أساسه ينبغي أن نتناول قضية تطبيق الشريعة..

فالقرآن الكريم، وكل ما تضمنه، من فاتحته إلى نهايته، هو الشريعة الإسلامية. والسنة النبوية الصحيحة كلها، وكل ما فيها، هي الشريعة الإسلامية.

والإيمان بالله، والخوف من الله، والحياء من الله، وتقوى الله، كلها شريعة الله. وكل ما يتحقق من هذه الأمور فهو من تطبيق الشريعة.

وكذلك عبادة الله، والتوكل عليه، والإخلاص له، وذكره وشكره، كلها شريعة الله، وكلها تطبيق للشريعة.

والتخلق بمكارم الأخلاق والآداب، من عدل وإحسان، وصدق ووفاء، ورفق وتواضع… كل هذا من شريعة الله. وكذلك التنزه والتخلص من سفاسف الأخلاق ورذائلها.

والتعفف عن الخبائث والمحرمات، والوقوف عند المباحات الطيبات، جزء من الشريعة ومن تطبيق الشريعة.

وطلب العلم — أيِّ علمٍ نافع – وبذلُه ونشره والمساعدة عليه، شريعة وتطبيق للشريعة.

وكل ما يحقق ويخدم مقاصد الشريعة، في حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، فهو من صميم الشريعة، ومن مصالح الشريعة، كما قال الإمام الغزالي: “ومقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعه مصلحة.“[10]

والزواج ومساعدة الناس عليه، وحسن العشرة الزوجية فيه، وإنجاب الأولاد وتربيتهم وتعليمهم، كله شريعة وعمل بالشريعة.

وكل ما يجلب أو يحقق أو يعزز كرامة الإنسان وحريته وأمنه ورفعته، ماديا ومعنويا، فهو من الشريعة ومن إقامة الشريعة.

وكل عمل أو مجهود يرفع عن الناس الظلم والغصب والقهر والتسلط والاستبداد، فهو من صميم الشريعة.

فأن تقوم أي حكومة أو برلمان أو وزير، بأي شيئ يحقق هذه الأمور أو يخدمها، فذلك من تطبيق الشريعة.

وفضلا عن شرف الحكم بين الناس بما أنزل الله، مما هو منصوص في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فإن الحكم والعمل بكل ما فيه عدل وإحقاق للحق ورفع للظلم، هو جزء لا يتجزأ من شريعة الله ،كما قال العلامة ابن القيم: “فإن الله أرسل رسله وأنزل كتبه، ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به السموات والأرض. فإذا ظهرت أمارات الحق، وقامت أدلة العقل، وأسفر صبحه بأي طريق كان، فثم شرع الله ودينه ورضاه.“[11]

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ركن من أركان الشريعة، فالقيام به، وتيسير القيام به للناس، والمساعدة على القيام به، تطبيق للشريعة. ومثله التعاون –كل تعاون — على البر والتقوى.

وكل إصلاح ونفع على وجه الأرض، وكذلك كل إزالة أو إعاقة لأي فساد أو ضرر في الأرض، فهو من الشريعة، بما في ذلك إماطة الأذى عن الطريق. وقديما عَدَّ بعض شراح الحديث النبوي أن مما يدخل في إماطة الأذى عن الطريق[12]، رفعَ المكوس والجبايات الظالمة عن الناس. وعلى هذا فالرشاوى التي أصبحت متفشية ومفروضة في دولنا وإداراتنا وعلى طرقاتنا، هي من المكوس التي يُعَدُّ رفعها وتقليصها نوعا من إماطة الأذى عن الطريق وجزءا عظيما من تطبيق الشريعة.

وإسداء النفع والإحسان إلى الحيوان، هو أيضا من تطبيق الشريعة، كما جاء في الحديث النبوي الشريف: “بينما رجل يمشي بطريق، اشتد عليه العطش، فوجد بئرا فنزل فيها، فشرب، ثم خرج، فإذا كلب يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ بي، فنزل البئرَ، فملأ خفه ماءً، ثم أمسكه بفيه حتى رَقيَ، فسقَى الكلب، فشكر الله له، فغفر له فقالوا : يا رسول الله، إن لنا في البهائم لأجراً ؟!، فقال صلى الله عليه وسلم : «في كل ذات كبد رطبة أجر»[13].

أليس هذا — وأمثالُـه — إن فعلناه ونشرناه تطبيقا للشريعة؟

ولو ذهبنا نستعرض تشعبات الشريعة ومشمولاتها، لما بقي شيئ أو فعل، إلا وجدنا له مكانه فيها. وبعبارة جامعة: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ).

فكل مَن عمل بشيئ من هذا كله أو أعان عليه، فهو عامل بالشريعة، وقائم بتطبيق الشريعة، سواء كان فردا، أو كان جماعة، أو دولة أو حكومة، أو وزيرا، أو رئيسا أو مرؤوسا.. وأيٌّ من هؤلاء خالف وخرق شيئا مما ذكر من الشريعة، أو ساعد على خرقه، فهو معطل للشريعة بقدر مخالفته وخرقه.

فالكذب تعطيل للشريعة، مثلما أن الصدق تطبيق لها.

والغش في الدراسة أو التدريس أو أي وظيفة، أو في الصناعة أو التجارة، أو في الخدمات أو في الانتخابات، كله تعطيل للشريعة، مثلما أن إتقان العمل، وإكماله بنزاهة وإخلاص، هو تطبيق للشريعة.

وإخلاف الوعود تعطيل للشريعة، والوفاء بها عمل بالشريعة.

وهكذا حتى نمر على كل شُعَب الشريعة وكل مضامينها …

 


هوامش

[1] تفسير الطبري 21/ 512

[2] — تفسير الطبري، 10/ 384

[3] — الجامع لأحكام القرآن 8/ 83

[4] — الذريعة إلى مكارم الشريعة ص 83

[5] — نفسه ص 82 ـ 83

[6] — ص83

[7] — وهو عنوان كتاب للشيخ محمود شلتوت ، شيخ الأزهر الأسبق.

[8] — فهو ينبه على أن هذا اصطلاح خاص ، يستعمله في هذا الكتاب ( أي : مقاصد الشريعة الإسلامية )

[9] — مقاصد الشريعة الإسلامية ص 129

[10] — المستصفى1 – 438

[11] أعلام الموقعين4 – 373

[12] — الإشارة هنا إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: “الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ — أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ — شُعْبَةً ؛ أَعْلَاهَا: قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا: إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَان”

[13] صحيح ابن حبان (3/ 18)