في سنة 1784 طرح على الفيلسوف الألماني إمانويل كانط سؤال: ما هي الأنوار؟ كان السؤال مستفزا فلسفيا، فقد كانت الفترة عارمة وحيوية في أوربا فيما سمي بـ”عصر التنوير”، وهو مصطلح يشير إلى القرن الثامن عشر في الفلسفة الأوروبية، ويشير أيضا إلى نشوء حركة ثقافية تاريخية سميت بالتنوير وقامت بالدفاع عن العقلانية ومبادئها كوسائل لتأسيس النظام الشرعي للأخلاق والمعرفة بدلا من الدين.

بعد أربعة عشر عاما (1798) كان على كانط أن يجيب على سؤال آخر، هو: ما هي الثورة؟ أي السؤالين هو الأول من وجهة النظر الفلسفية، أم أنهما متزامنان أو متعاقبان بشكل مكرر؟ لا شك أنهما مرتبطان ببعضهما البعض، بغض النظر عن اكرونولوجيا البدء والتبعية.

ترادف (الأنوار) في مفهوم كَانْط مفاهيم أخرى منها (الحرية) (الاستقلالية) (الإرادة)، ذلك ما استأنف به مقاله: “إن بلوغ الأنوار هو خروج الإنسان من القصور الذي هو مسؤول عنه”، ويعني ذلك القصور في نظر كانْط “عجز المرء عن استعمال عقله دون إرشاد الغير”، وهي حالة يستمرئها كثير من الناس بسبب الكسل والجبن، لأنها تريحهم من مشقة التفكير، وتجعلهم في منأى عن مخاطرات العقل، ويصور كانْط الإنسان الذي يسلم قياده لغيره بطريقة كاركاتورية فيقول: “إذا كان لدي كتاب يقوم مني مقام العقل، ومرشد يقوم مني مقام الضمير، وطبيب يقدر أي نظام غذائي أتبعه إلخ، عندئذ لا أحتاج حقا إلى بذل جهد، ولا أضطر إلى التفكير ما دام بوسعي أن أدفع، فيستكفل آخرون فعلا بهذا العمل الممل نيابة عني.

انطلق كانْط في مقاله (ما هي الأنوار؟) من فكرة تثويرية، ذلك بأنه قرر من البداية أن الإنسان هو المسؤول عن حالته ووضعه، وهي فكرة تبدو للمتعجل كأنها تغفل دور التنشئة والسياق الاجتماعي العام في بناء نمط شخصية الفرد، ونمط المزاج العام للمجتمع، بالتأكيد لم يكن كانْط يجهل ذلك، ولكنه -ربما- أراد أن يخز الضمير البشري بما يوقظه، ربما تبنى هنا فلسقة مخاطبة الوجدان والتأثير عليه.

يقول كانْط: “المرء نفسه مسؤول عن حالة القصور هذه عندما يكون السبب في ذلك ليس نقصا في العقل، بل نقصا في الحزم والشجاعة في استعماله دون إرشاد الغير”، يطابق هذا المبدأ القرآني الذي حرر الأمة الإسلامية في بواكير انطلاقتها، أي تحميل الإنسان مسؤولية تعطيل وسائل المعرفة وآليات التمييز والاختيار (الإرادة، العقل، السمع، البصر).

ولأن القصور يتحول إلى حالة نفسية قاهرة لصاحبه، فإنه يكون من الصعب على الفرد أن يتحرر منه، وبالتالي يكون تحرر المجموع أسهل من تحرر الأفراد كل على حدة، “من الصعب على كل إنسان فرد أن يتخلص من حالة القصور التي كادت أن تصبح طبيعة لديه، بل إنه تعلق بها وصار الآن عاجزا حقا عن استعمال عقله هو، لأنه لم يترك له أبدا أن يحاول ذلك”، لكن الأخطر في تحول القصور إلى حالة مزمنة هو أن تصير وسائل الخلاص الطبيعية حبائل تكبل الإنسان وتعوقه عن التخلص من حالة الارتهان للغير عقليا، “فالمبادئ والصيغ، تلك الأدوات الآلية التي تسمح باستعمال مواهبه الطبيعية استعمالا متعقلا أو بالأحرى استعمالا سيئا، هي القيود التي تؤبد حالة القصور، حتى إن من يتخلص منها لن يقفز على أضيق خندق إلا غير واثق، لأنه لم يتعود مثل هذه الحرية في الحركة”.

وإذا كان تحرر الفرد المصاب بالقصور المزمن صعبا للغاية، فإن الجمهور أكثر احتمالا للتحرر -وإن كان يتنور ببطء- بشرط توفر الحرية، يقول كانْط: “لكن أن يستنير جمهور بنفسه، فهذا على العكس أكثر احتمالا، بل لا محيد عنه تقريبا، شرط أن تمنح له الحرية في ذلك وعندئذ بالفعل، سيوجد دائما، حتى بين الأوصياء المفوَّضين على السواد الأعظم، عدد من الناس يفكرون بأنفسهم، فيشيعون حولهم، بعد أن يتحرروا من نير القصور، الإحساس بتقدير متبصر للقيمة الخاصة بكل إنسان”.

لا يرى كانْط الثورات قادرة على نشر الأنوار، ويفصل بصرامة بين إنهاء الاستبداد الشخصي والاضطهاد القائم على الغبن في الثروة والجاه والهيمنة وبين إسقاط عقابيل القصور الذهني الذي يكبل عقل الإنسان ويمنع وصول الأنوار إليه، وهي لفتة عميقة جدا، “يمكن فعلا لثورة أن تؤدي إلى الإطاحة بالاستبداد الشخصي والاضطهاد القائم على التعطش إلى المال والهيمنة، ولكنها لن تؤدي أبدا إلى إصلاح حقيقي لنمط التفكير، بل العكس، ستقوم أحكام مسبقة جديدة، شأنها شأن الأحكام المسبقة القديمة، لتضيق الخناق على ذلك السواد الأعظم المحروم من التفكير”.

ولذلك يرى أن نشر الأنوار يحتاج الحرية فقط، ويدعو كانط إلى حرية موزونة معتدلة، يمكن أن نطلق عليها (الحرية البريئة)، وهي حرية لا تخرق النظام، ولكنها تؤكد على استخدام العقل والتفكير، ويفرق في هذا السياق بين ما يسميه (الاستخدام العموم للعقل) وبين ما يسميه (الاستخدام الخاص للعقل)، يعني الأول أن يستعمل المرء عقله “بوصفه عالِماً أمام الجمهور بأكمله الذي هو عالَم القراء”، بينما يعني الثاني “ذلك الاستعمال للعقل المسموح به للمرء في ممارسة المسؤولية أو الوظيفة التي أسندت إليه بوصفه مواطنا”.

إنه يوائم بين الانسجام داخل النظام العام وما يستلزمه من تنازل جزئي عن بعض الحريات، وبين مبدأ الحرية باعتباره مبدأ أساسا للإنسانية، ويضرب لذلك مثالا بقوله: “يكون من الخطر الشديد أن يسعى ضابط تلقى أمرا من رئيسه إلى المماحكة، بصوت عال أثناء الخدمة، في شرعية هذا الأمر أو فائدته، وإنما عليه أن يطيع، ولكن ليس من المشروع أن يُمنَع، بصفته عالِما، من إبداء ملاحظات حول الأخطاء المرتكبة في شن الحرب، ومن عرضها على الجمهور ليحكم بشأنها”.