إنه لأمر طبيعي جدا أن يتأخر تدوين قواعد علم الحديث التي تتعلق أساسا بالنقد وطرقه ووسائله عن تدوين الأحاديث النبوية، إذ إن الدعوة إلى وضع القواعد كانت تابعة للأسباب والظروف التي رافقت رواية الحديث، حيث اكتشف الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم على لسان بعض الرواة، وظهر التساهل في أخذ أحاديثه، والغفلة والسهو وما تبع ذلك من الانقطاع والإرسال والتدليس وغيرها، وتقتضي هذه المعطيات وضع القواعد العلمية التي بني عليها علم الحديث رواية ودراية.

علاوة على أن العملية التنظيريّة والتقعيديّة ليست من اليسر بمكان، إذ تتطلب الدراية والأهلية والمكنة وسعة الاطلاع على ضوابط الأخبار والمرويات وشروطها، ومعرفة تامة بطريقة أئمة الشأن ومقاصدهم وأغراضهم في نقد الرجال والمرويات من حيث القبول والرد، ومن خلال ذلك يتم الاستنباط والتقعيد العام والخاص.

وبين القرن الثاني والثالث الهجري بدأت محاولة طيبة وتحرير واضح في لمّ شتات مبادئ علم الحديث، وبدأ المحدثون يصنفون لكل باب من أبواب أصول الحديث تصنيفا على سبيل الاستقلال بعد أن كانت مبثوثة في المدونات المتفرقة وغير منتظمة، فأشهر هذه المصنفات: تصنيفان؛ تصنيف في بيان حال الراوي، وتصنيف في بيان حال المروي، وتوضيح ذلك في الآتى.

المصنفات في الجرح والتعديل

قام علماء الحديث بتصنيف الكتب التي فيها بيان عدالة الرواة وضبطهم، وبيان الطعون الموجهة إلى عدالة بعض الرواة أو إلى ضبطهم وحفظهم، بنقول عن أئمة النقاد.

ويعتبر صنيعهم في هذه المصنفات صنيعا شائقاً، ولا يُقدّر ذلك حق التقدير إلا من أوتي العلم والإيمان، إذ صوروا لنا حياة جميع النقلة في هذه الكتب صورة دقيقة من حيث: مواليدهم، بلدانهم، رحلاتهم، شيوخهم، تلاميذهم، ضبطهم وحفظهم، ووفياتهم، وبيان ما قيل فيهم جرحا وتعديلا وغير ذلك مما لها علاقة بكافة التسهيلات لتمييز صحيح السنة النبوية من غيرها. ولله درهم.

وهذه الكتب على ثلاثة أقسام:

القسم الأول: كتب جمعت بين الثقات والضعفاء، ومنها مفقود، ومن أشهر الموجود:

1- سؤالات ابن الجنيد لأبي زكريا يحيى بن معين. (المتوفى: 233هـ).

2- من كلام أبي زكريا يحيى بن معين في الرجال (رواية طهمان).

3- سؤالات محمد بن عثمان بن أبي شيبة لعلي بن المديني. (المتوفى: 234هـ).

4- سؤالات أبي داود للإمام أحمد بن حنبل في جرح الرواة وتعديلهم..

5- من سؤالات أبي بكر أحمد بن محمد بن هانئ الأثرم أبا عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل.

6- أحوال الرجال لإبراهيم بن يعقوب بن إسحاق السعدي الجوزجاني، أبو إسحاق (المتوفى: 259هـ).

7- التمييز لمسلم بن الحجاج أبى الحسن القشيري النيسابوري (المتوفى: 261هـ).

القسم الثاني: كتب ألفت في الضعفاء فقط، ومن أشهرها:

1-  الضعفاء الصغير: للإمام محمد بن إسماعيل البخاري، المتوفى سنة (256هــ).

2- كتاب الضعفاء: لأبي زرعة الرازي. المتوفى سنة (200 – 264 هـ).

3- الضعفاء والمتروكين: لأبي عبد الرحمن أحمد بن علي بن شعيب النسائي.(303هــ).

القسم الثالث: كتب يذكر فيها الثقات فقط: مثل كتاب تاريخ الثقات. لأبى الحسن أحمد بن عبد الله بن صالح العجلى الكوفى (المتوفى: 261هـ).

وغير ذلك من كتب الرجال – بأقسامها الثلاثة- المطبوعة المتداولة، ولا يزال في خبايا الغيوب ما لا يكاد يحصى.

المصنفات في علل الحديث

قال الحاكم أبو عبد الله رحمه الله:” هذا النوع من علم الحديث، معرفة علل الحديث، وهو علم برأسه غير الصحيح والسقيم والجرح والتعديل”[1]

إلا أنه ينبه على أن الكتب المصنفة لنقد الرجال مليئة – في الغالب – بتعليل الأحاديث، وكذلك كتب العلل مليئة بنقد الرجال، وهذا يوضح التلازم التام بين علم الرجال وعلم العلل، وهذان العلمان ثمرة جمع الطرق والموازنة بينها فظهور الخلل في المرويات هو “علم علل الحديث”، وظهور الخلل في الراوي وضبطه هو “علم الرجال”[2]

وكان التصنيف في علل الحديث بدأ – فعلا – في القرن الثالث، وكانت البداية العلمية العميقة على يد إمام هذه الصنعة علي بن المديني، وقد تفنن في التصنيف في هذا الفن، وعنه يقول الإمام الذهبي رحمه الله”..وبرع في هذا الشأن وصنف وجمع وساد الحفاظ في معرفة العلل، ويقال: إن تصانيفه بلغت مئتي مصنف”[3]

ومن مصنفاته: علل الحديث ومعرفة الرجال؛ ومذاهب المحدثين؛ والتاريخ؛ والأسامي؛ والكنى؛ والطبقات؛ واختلاف الحديث وغيرها.

فيمكن تقسيم كتب العلل إلى قسمين:

القسم الأول: كتب مبينة للعلل غير مفردة لبيانها؛ ففيها بيان العلل وغيرها، كالتاريخ الكبير، والأوسط للبخاري، وجامع الترمذي، والسنن الكبرى والصغرى للنسائي.

وكتاب العلل للإمام الترمذي، وعرف بعد بـ(العلل الصغير) تمييزا له عن كتابه الآخر (العلل الكبير). أوضح فيه بعض قواعد المحدثين واصطلاحاتهم، وشرحه الحافظ زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي في كتاب جليل نفيس متقن.

القسم الثاني: كتب مفردة لبيان علل الحديث، بعضها مرتبة وبعضها غير مرتبة.

قال ابن رجب رحمه الله:”وقد صنفت فيه – أي العلل -كتب كثيرة مفردة، بعضها غير مرتبة: كالعلل المنقولة عن يحيى القطان، وعلي بن المديني، وأحمد، ويحيى وغيرهم، وبعضها مرتبة: ثم منها ما رتب على المسانيد: كمسند علي بن المديني، ومسند يعقوب بن شيبة..الخ.[4]

ولما نظر الدارقطني رحمه الله في “علل حديث الزهري للذهلي” قال: من أحب أن ينظر ويعرف قصور علمه عن علم السلف فلينظر في علل حديث الزهري لمحمد بن يحيى”.[5]


[1] معرفة علوم الحديث. ص:174

[2] جهود المحدثين في بيان علل الحديث. ص:102

[3] سير أعلام النبلاء. 11/43

[4] شرح علل الترمذي لابن رجب. 1/495

[5] تذكرة الحفاظ. 2/87