اشتهر ابن معين، وابن المديني، وابن حنبل ضمن العلماء المحققين في علم الحديث في القرن الثالث للهجرة النبوية، ويمكن أن يطلق على هذه الأعلام أنهم دُرَّةُ القرن الثالث العلمية التخصصية.

وذلك أنه لم ينقض القرن الثالث الهجري إلا ومعالم السنة النبوية مبينة ومعززة، بل وفي أزهى الكمال والنضوج من الخدمة كما شهد بذلك التاريخ والتراث، إلا أنه لم يأتِ القرن الثالث من فراغ، وإنما هو حلقة ممتدة من سلسلة مترابطة ومتواصلة من جهود الأسلاف أئمة القرن الثاني العدول الذين هيأهم الله من جميع الأمصار الإسلامية بالجديّة الفريدة في العناية بالسنة النبوية نقدا وتنقية، وكان من هؤلاء الأفذاذ:

الإمام مالك بالمدينة وتخرج على يديه خلائق من الحفاظ. 

– ابن جريج وابن عيينة بمكة.

– سعيد بن أبي عروبة وحماد بن سلمة وأبو عوانة الوضاح وشعبة بالبصرة.

– معمر بن راشد باليمن.

– الثوري بالكوفة.

– الأوزاعي بالشام.

– هشيم بن بشير بواسط.

وعلى هؤلاء المهرة الحذاق وأمثالهم دار أصح أسانيد الأخبار في ذلك الدهر حتى قال عثمان بن سعيد الدارمي رحمه الله: يقال من لم يجمع حديث هؤلاء الخمسة فهو مفلس في الحديث: سفيان وشعبة ومالك بن أنس وحماد بن زيد وابن عيينة، وهم أصول الدين.[1]

وانتهى علم الجميع إلى ستة: يحيى بن سعيد القطان، ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة، ووكيع بن الجراح، وابن المبارك، وابن مهدي ويحيى بن آدم.

ويقول أبو عبد الله بن منده رحمه الله – بعد أن ذكر هؤلاء الحفّاظ وغيرهم من مختلف البلدان-: ” ثم انتهى علم جميع من ذكرناهم من المتقدّمين إلى هؤلاء الأئمة، وهم: أحمد بن محمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، وأبو بكر، وعثمان: ابنا أبي شيبة، وأبو خيثمة زهير بن حرب، ومحمد بن عبد الله بن نمير. ومن بعدهم: انتهى علم جميع من ذكرناهم من أهل الأمصار وأئمة البلدان إلى هؤلاء النفر، وهم أهل المعرفة والصحيح، وهم هؤلاء: محمد بن إسماعيل البخاري، والحسن بن علي الحُلْواني، ومحمد بن يحيى الذهلي، وعبدالله بن عبدالرحمن السمرقندي، وأبو زرعة، وأبو حاتم، ومسلم بن الحجاج، وأبو داود سليمان بن الأشعث وأبو عبدالرحمن أحمد بن شعيب النسائي. فهؤلاء الطبقة المقبولة بالاتفاق، وبعلمهم يُحتجُّ على سائر الناس فهؤلاء الطبقة المقبولة بالاتفاق.”[2]

ثم اصطفى الله بين هؤلاء الأخيار: أئمة ثلاثة، الذين فاقوا أهل زمانهم في علم الحديث في القرن الثالث، وهم: ابن المديني، وابن معين، وأحمد بن حنبل، أئمة العلم والعمل، زينة القرن، وجامعة السنة رواية ودراية، وعليهم المعوّل في صناعة الحديث لمن جاء بعدهم.

يقول أبو حاتم الرازي رحمه الله:” كان يُحسن صحيحَ الحديث من سقيمه، وعنده تمييز ذلك، ويُحسنُ علل الحديث أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، وبعدهم أبو زرعة، كان يحسن ذلك. فقيل لأبي حاتم: فغير هؤلاء، تعرفُ اليوم أحداً؟ قال: لا.[3] وناهيك بأبى حاتم جلالة في هذا الشأن، وناهيك بهذه الشهادة العزيزة التي تبرز إمامة هؤلاء الثلاثة في عصر ثريّ بالمحدثين الجهابذة.

ومع ذلك وإن كلّ واحد من الثلاثة قد ساد وفاق أقرانه في كل فن من فنون الحديث:

يحي بن معين أعلم الناس بالجرح والتعديل (ت:233 هـ)

علم الجرح والتعديل هو الميزان الدقيق الذى به يعرف من يقبل حديثه ومن يرد، وقد أشار محمد بن سيرين إلى أهميته في قوله:” إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم.”[4] ولكن لا يتصدر لعلم الجرح والتعديل إلا الجهابذة من المحدثين، ولا يعرف أحد في تاريخ المحدثين انتهى إليه هذا العلم من ابن معين.

كان ابن معين وحيد عصره وفريده، وكان على وعي تام وإدراك كامل لأحوال الرجال، وكان حكما بين أقرانه في رجال الحديث جرحاً وتعديلاً، وكأنه خلق لهذه المهمة، حتى قال الإمام أحمد:” ها هنا رجل خلقه الله تعالى لهذا الشأن يظهر كذب الكذابين يعني ابن معين”[5].

وكان يقول:” كان ابن معين أعلمنا بالرجال.[6] و”كل حديث لا يعرفه يحيى بن معين فليس هو بحديث”[7]

وقال العجلي: “ما خلق الله تعالى أحداً كان أعرف بالحديث من يحيى بن معين ولقد كان يجتمع مع أحمد وابن المديني ونظرائهم فكان هو الذي ينتخب لهم الأحاديث لا يتقدمه منهم أحد ولقد كان يؤتى بالأحاديث قد خلطت وتلبست فيقول هذا الحديث كذا وهذا كذا فيكون كما قال”[8]

ولم يكن كلام ابن معين في الرجال بالتشهي والهوى حاشاه، وإنما بالديانة والدراية، وقال هارون بن بشير الرازي: “رأيت يحيى بن معين استقبل القبلة رافعا يديه يقول:” اللهم إن كنت تكلمت في رجل وليس هو كذابا فلا تغفر لي “[9]

علي ابن المديني أعلم الناس بعلل الحديث. “ت234 هـ”

علم العلل علم عويض، وأدق علوم الحديث وأصعبها لأنه مبنيّ على أوهام الثقات.

قال الحاكم: «هو علمٌ برأسه غير الصحيح والسقيم والجرح والتعديل »[10]

ولا يخوض فيه إلا من رزق الفهم الدقيق، والذكاء الفائق، وطول الخبرة في سبر أحوال النقلة والنقول، ولذا قال ابن حجر أنه: «لم يتكلم فيه إلا أفراد أئمة هذا الشأن وحذاقهم»[11]

وقد اتفق أهل العلم بالحديث في القرن الثالث الهجري، في زمان الإمام علي بن المديني ومن بعدهم على أنه هو أعلم الناس في علل الحديث، وتواترت كلماتهم على ذلك طبقا عن طبقا، ومن طبقة شيوخه مثلا: قول عبد الرحمن بن مهدي:” علي بن المديني أعلم الناس بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم و خاصة بحديث ابن عيينة” وكان يحيى بن سعيد القطان رحمه الله يجالسه ويذاكره وهو شيخه، ويقول: الناس يلوموني في قعودي مع علي وأنا أتعلم من علي أكثر مما يتعلم علي مني.[12]

ومن إشادة أهل طبقته له بزعامة علم العلل قول الإمام أحمد”أعلمنا بالعلل علي بن المديني[13] وقال أبو حاتم الرازي: “وكان أحمد لا يسمّيه، إنما يكنيه تبجيلا له” ويكفي من ثناء تلاميذه قول البخاري: “ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني”[14] وقول تلميذه أبى حاتم الرازي: “كان ابن المديني علمًا في الناس في معرفة الحديث والعلل”.

وقال الإمام الذهبي رحمه الله:” وأما علي بن المديني فإليه المنتهى في معرفة علل الحديث النبويمع كمال المعرفة بنقد الرجال وسعة الحفظ والتبحر في هذا الشأن، بل لعله فرد زمانه في معناه “[15] وقال عنه أيضا في السير:” وساد الحفاظ في معرفة العلل”[16] 

وقد استفاضت شهرته بطول ممارسة لهذا الفن وتمكنه فيه، ومن دقة نظره وتريثه في التعليل أنه قال:” ربما أدركت علة حديث بعد أربعين سنة”[17] وألف فيه كتبا كثيرا حتى قَالَ الذّهليُّ:” رأيتُ لعلي بن المديني كتاباً على ظَهره مكتوب المائة والنيف والستين من علل الحديث”[18] والناس بعد ابن المدينى عيال عليه في علل الحديث.

أحمد بن حنبل إمام في الحديث والفقه (ت241 هـ)

كان المحدثون القدامى يفصلون بين رواية الحديث وفقهه، ولا ينتهي نظرهم عند صحة المتن دون معناه، ولا تقل أهمية الفقه عندهم عن أهمية معرفة درجة الحديث، فرواية الحديث والتفقه فيه صنوان متلازمان في هديهم، إذ عليهما تتوقف ثمرة علم الحديث.

قال الإمام علي بن المديني:” التَّفقه في معاني الحديث نصف العلم، ومعرفة الحديث نصف العلم “[19]أي لا غنى لأحدهما عن الآخر، بل جعلوا فقه معناه أعظم مقصدا من مجرد الرواية، وقال سفيان الثوري: ” تفسير الحديث خير من الحديث ” يعنى “تفسير الحديث خير من سماعه” [20] كما قال أبو أسامة تلميذ الثورى.

وقد شهد الناس لأحمد أنه أعلم واحد بفقه الحديث في القرن الثالث، مع إمامته في علم الحديث ذاته، “ووالله لقد بلغ في الفقه خاصة رتبة الليث، ومالك والشافعي، وأبي يوسف، …. وفي الحفظ رتبة شعبة، ويحيى القطان، وابن المديني” كما قال الذهبي[21]

وقال عبد الرزاق:- وهو من شيوخه-: ما رأيت أفقه من أحمد بن حنبل، ولا أورع” [22]

فقال الإمام الشافعي: – وهو من شيوخه-أحمد إمام في ثمان خصال، إمام في الحديث إمام في الفقه،..”[23]

وقال الإمام إسحاق بن راهويه- وهو قرينه-: كنت أجالس بالعراق أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وأصحابنا، فكنا نتذاكر الحديث من طريق، وطريقين، وثلاثة، فيقول يحيى بن معين من بينهم: وطريق كذا، فأقول: أليس قد صح هذا بإجماع منا فيقولون نعم، فأقول ما مراده؟ وما تفسيره؟ وما فقهه؟ فيقفون كلهم إلا أحمد بن حنبل”[24]

وعن عبد الحميد الكوفي قال سمعت يحيى بن معين وسأله رجل عن مسألة سكنى في دكان، فقال: ليس هذا بابتنا، هذا بابة أحمد بن حنبل”[25]. وهكذا جعل – هو وغيره- عهدة الفقه على ابن حنبل.

ومن الحق البين في هذا المقام: فائدتان جليلتان يجب لأهل العلم التحلى بهما دائما.

الأولى: عدم الشعور بالحرج والخجل من كلمة ” لا أدري ” عند هؤلاء العلماء في القرن الثالث ومن قبلهم، وكانوا أكثر الناس نطقا بها، فحقيقة هذه الكلمة “لا أعلم” تدل على عمقهم العلمي ووعيهم الديني والثقافي مما كان سببا لبركة علمهم وعصمهم من الوقوع في الفضيحة العلمية.

الثانية: وضوح معنى احترام التخصص عند علمائنا وأنه من البديهيات المستقرة عندهم، فدل على أن النهضة العلمية التخصصية كانت من آثارنا الإسلامية العتيقة، والتى بها واكب سلف الأمة التطور العلمي والثقافي.

وكان الإمامُ الشافعي يقول: “مَنْ تعلَّم علمًا فليُدقِّقْ فيه لئلا يضيعَ دقيقُ العلم”[26] فهذه عبارة دعوية صريحة إلى أهمية التخصص.

وقد سئل الفرهياني رحمه الله عن يحيى، وأحمد، وعلي، وأبي خيثمة، وأجاب مبينا عما تخصص فيه كل واحد منهم فقال: أما علي فأعلمهم بالعلل، وأما يحيى فأعلمهم بالرجال، وأحمد بالفقه، وأبو خيثمة من النبلاء.[27]


[1] علوم الحديث ص:143

[2] فضل الأخبار وشرح مذاهب أهل الآثار وحقيقة السنن. ص:67 – 68  

[3] الجرح والتعديل. 2/23

[4] مقدمة صحيح مسلم 1/ 14

[5] تاريخ بغداد 14/180

[6] تهذيب التهذيب. 11/248

[7] شرح علل الترمذي لابن رجب. 1/121

[8] النكت على كتاب ابن الصلاح 2/871

[9] تهذيب التهذيب. 11/249

[10] معرفة علوم الحديث، ص: 140، 148

[11] النكت على كتاب ابن الصلاح 2/711

[12] تهذيب الكمال. 21/12

[13] المجروحين 1/ 55

[14] فتح الباري. 1/347

[15] ميزان الاعتدال في نقد الرجال. 5/170

[16] سير أعلام النبلاء. 11/43

[17] الجامع لأخلاق الراوي 2/257

[18] المصدر السابق 2/295

[19] المحدث الفاصل، ص: 320

[20] أدب الإملاء، السمعاني، ص:135

[21] في السير 1 / 321

[22] المصدر السابق 11/195

[23] طبقات الحنابلة، لابن أبي يعلى: 1/ 5.

[24] تاريخ بغداد 4/ 419

[25] مناقب الإمام أحمد. ص: 91

[26] رواه البيهقي في المناقب ٢/١٤٢

[27] تهذيب التهذيب. 11/248