في الثالث عشر من أبريل 2023، غادرنا الأديب الكبير ، والعالم الجليل محمد الرابع الحسني الندوي، إلى رحاب الله بعد حياة طويلة حافلة بالعمل الدءوب، دفاعا عن الإسلام واللغة العربية في شبه القارة الهندية، وكان الراحل بسمته الهادئ الوديع، يتفجر حماسة بالنشاط والقراءة والدرس والبحث، من أجل تقديم أجيال جديدة من المسلمين الهنود ترتبط بتراثها الإسلامي واللغة العربية.

كانت ندوة العلماء في لكنهؤ بالهند المجال الرئيسي المركزي لمحمد الرابع الحسني الندوي الذي قضى فيه جلّ نشاطه الأدبي والعلمي معلما وباحثا ومحاضرا، ومنه انطلق إلى البلدان العربية والإسلامية والأجنبية ليشارك في اللقاءات والنشاطات العلمية والثقافية والأدبية، مرافقا لخاله العلامة الراحل أبي الحسن الندوي، في تأسيس رابطة الأدب الإسلامي العالمية، أو على رأس وفود الهند إلى المؤتمرات والندوات التي تنعقد خارج الهند.

أتيح لي أن أشارك معه في بعض المؤتمرات في تركيا وبنجالاديش والمغرب، فرأيته شعلة من النشاط لا تهدأ، وعاملا من أجل إثراء الحوارات والنقاشات التي تخدم الأفكار المطروحة من جانب المتحدثين والمشاركين.

ميراث طيب

ويبدو أنه ورث التواضع ودماثة الخلق، والبشاشة من أسرته وطول صحبته لخاله رحمه الله، وأذكر حين كنا في بنجالاديش (1993) أنه نزل مع خاله وبقية الوفد الهندي في رواق متواضع يسكنه الطلاب الدارسون، حيث يعيشون فوق فراش أرضي بسيط، فيقضون وقت الدرس ، والمحاورات، والنوم. بينما ذهب آخرون من بلاد أخرى إلى بعض الفنادق المتميزة.

ولد محمد الرابع لأسرة علمية عريقة، في منطقة راي ربرلي بولاية أوتارا براديش بشمال الهند (29 أكتوبر 1929)، وكانت الهند آنئذ تحت الاحتلال البريطاني، ودرس في  دار العلوم ديوبند، وكان من أساتذته حسين أحمد المدني،  ومحمد زكريا الكاندهلوي،  وخاله أبو الحسن الندوي،  وعبد الفتاح أبو غدة، وتخرج في ندوة العلماء ليكون أستاذا جامعيا بها، ومتخصصا في الشريعة الإسلامية والأدب العربي، حيث أجاد العربية إلى جانب اللغة الأم (الأردية)، ويلاحظ أن تأثير خاله عليه كان كبيرا، فقد أشرف على تعليمه وتربيته، وكان مصاحبا له في نشاطاته الدعوية والأدبية، وفي رحلاته الخارجية، كما سبقت الإشارة، وكان من أقرب الناس إليه، وحافظا لأوراقه وتراثه.  

وظائف مؤثرة

لقد نَعِم على مدى ثلاثة وتسعين عاما، بحياة حافلة، بالتربية الحسنة والتعليم الراقي، والوظائف المؤثرة، فكان مدرساً في دار العلوم ديوبند بندوة العلماء منذ عام 1367هـ لما يقارب أربعين سنةً،  ووصل إلى منصب عميدها، وتخرَّج عليه يديه عدد كبير من العلماء والمشاهير في الهند. وإلى جانب التدريس تولى إدارة ندوة العلماء في عام 1413هـ، وصار رئيسا لها بعد وفاة خاله أبي الحسن الندوي عام 1420هـ= 1999م..

ويعد محمد الرابع من أبرز مؤسسي رابطة الأدب الإسلامي العالمية، التي صار  نائباً لرئيسها، ورئيسا لمكتب شبه القارة الهندية، وعضواً في مجلس أمناء الرابطة، وبعد وفاة رئيس الرابطة الدكتور عبد القدوس أبو صالح عام 2020، آلت إليه الرئاسة.

كان محمد الرابع عضوا في رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة. ورئيسا لمجلس الأحوال الشخصية لمسلمي الهند. مع عضويته في عدد من المؤسسات العلمية والأكاديمية العالمية مثل مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية في بريطانيا.

شارك محمد الرابع في المجال الصحفي الإسلامي والأدبي، بالكتابة أو رئاسة التحرير، فقد كان رئيسا لتحرير مجلة البعث الإسلامي (بالعربية)، ومجلة الرائد(بالعربية أيضا)، وشارك بالكتابة والإدارة في مجلات إسلامية تصدر بالأردية، ومنها: الندوة، صدق، معارف، الضياء، وغيرها

وقد كرمته الدولة الهندية، فحصل على جائزة رئيس الجمهورية في خدمة اللغة العربية عام 1981م.

خسارة أمة

وتأثر لوفاة محمد الرابع الحسني الندوي علماء الإسلام وأدباؤه في مختلف البلدان الإسلامية، فضلا عن مسلمي الهند الذين تدفقوا في حشود ضخمة إلى ندوة العلماء لتشييعه والصلاة عليه، وقد عبروا عن خسارة الأمة لرحيل أحد حراس العقيدة واللغة العربية في شبه القارة الهندية، وكان على راس الناعين له  الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي قال في نعيه: “فقدت الأمة الإسلامية عالماً من علمائها المخلصين، نسأل الله العلي القدير أن يغفر له ويرحمه رحمة واسعة ويعفو عنه، ويجزيه خير الجزاء، ويكرم نزله، ويدخله جنة الفردوس، ويحشره مع النبيين والصديقين وحسن أولئك رفيقاً، وأن يلهم أهله وذويه الصبر والسلوان، إنه نعم المولى ونعم المجيب”.. كما نعته رابطة الأدب الإسلامي العالمية، من خلال النائب الأول للرابطة، حسن الأمراني،(المغرب) في بيان جاء فيه: “بقلوب خاشعة، وعيون دامعة، ونفوس راضية بقضاء الله تعالى نعـــزي جميع أعضاء رابطة الأدب الإسلامي العالمية في وفــاة رئيسها سماحة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي الذي لبّى نداء ربه العلي القدير اليوم الخميس 22 رمضان 1444 هـــ.، كما نعزي كل محبي الأدب الإسلامي، ونعزي مسلمي شبـــــــــــــــــه القارة الهندية، في رجل طالما وقف مدافعا عنهم، خادما لقضيتهم.

ونعزي الأمة الإسلامية قاطبة في عالم عامل، وأحد أعلامها المخلصين الذين سخروا فكرهم وأدبهم لخدمة أمتهم إلى أن وافاه قضاء الله المحتوم..”. وقدمت  هيئة علماء فلسطين تعزية للمسلمين في الهند والأمة الإسلاميّة؛ وأهل الفقيد وذويه وطلابه. وكتب كثير من العلماء والأدباء على صفحات التواصل الاجتماعي، نعيا للراحل وعزاء لندوة العلماء والرابطة وتعريفا بجهوده ونشاطاته..

تراث مهم

لقد ترك الشيخ محمد الرابع (ولقب الشيخ يفضله مسلمو الهند)، تراثا مهما تمثل في أكثر من عشرين كتابا، في العقيدة والشريعة والأدب والقضايا العامة، ونشير بإيجاز فيما يأتي إلى بعضها..

في مجال الأدب الإسلامي صدر له كتابان، الأول بعنوان الأدب الإسلامي وصلته بالحياة، مع نماذج من صدر الإسلام، (مؤسسة الرسالة، بيروت، 1405هـ=1985م)، والآخر: أضواء على الأدب الإسلامي،(رابطة الأدب الإسلامي، لكنهؤ، الهند ،1423 هـ= 2002م)، وفي الكتابين تتبلور رؤية محمد الرابع لفكرة الأدب الإسلامي، انطلاقا من استخدام السلف نصاعة التعبير في الموضوعات العلمية والتعليمية، فضلا عن الأدبية، وموضحا أنه من الظلم أن يزعم رجل أن معاني الأخلاق والدين إذا دخلت في كلام زالت عنه السمة الأدبية، مع أن الأخلاق والدين وسيلة لتحسين الحياة الإنسانية وتهذيبها، وتنال منهما الحياة الجمال والطهارة، فضلا عن كون الإسلام يجمع الدين مع الدنيا، والدنيا مع الدين.

لقد أصبح الفن أسيرا في أيدي النفعيين والمستغلين، يسخرونه لأهوائهم وشهواتهم، ويرفضون ما يأتي من أهل الصلاح والاستقامة، وينفون عنه صفة الأدب حتى ظن بعض الناس أن الأدب لا صلة له بالدين والاستقامة، فكانت الحاجة ماسة إلى أن تقوم حركة لتحرير الأدب من هذا الأسر، وإبراز صلته بالحياة مع موافقة السيرة الإسلامية والاهتداء بهدي القرآن، وبيان الرسول عليه الصلاة والسلام، بحيث يكون الأدب جامعا بين المتعة والفضيلة، وبين الجمال والخير، وبين التأثير والتزام الحق..

ويشير محمد الرابع إلى أن مجتمعاتنا الإسلامية مصطبغة بالصبغة الإسلامية، ولا يشذ عن ذلك إلا نفر قلائل، نشأوا في أحضان الثقافة الغربية فتأثروا بها، فيفكرون في غير ما نفكر، ويحبون غير ما نحب، ومع أنهم قليلو العدد، فهم غالبون سياسيا ومدنيا، وبأيديهم تصريف كثير من الشئون الاجتماعية والمادية، فكأنهم الممثلون الحقيقيون لأمتنا، ولكن مجتمعاتنا بريئة من تفكيرهم ونظرتهم إلى الحياة.

ومع كل ذلك لا يليق بنا، أن نغمض أعيننا عما لدى غيرنا من الأفكار والنظريات والقيم. فقد ينفعنا أن ننظر فيها بشرط ألا ننسى أن الأفكار والاتجاهات والنظريات التي نشأت في أوربة وغيرها، إنما نشأت وتنشأ من خلفيات خاصة امتزجت بالقلق واليأس والتناقض والهدم والبناء، فإلى أي حد يكون جديرا بنا أن نفيد منها؟

إذا بحثناها بعيدا عن مركب النقص الذي يعيش به مثقفونا المتغربون، فقد يكون العائد منها خيرا.

يؤكد محمد الرابع أن الالتزام بالطبيعة الإسلامية هو المبدأ الوحيد للأدب الإسلامي، ويتمثل في معظم النماذج التي ظهرت في عهد النبوة وصدر الإسلام نثرا وشعرا ، ويقدم نماذج دالة على ذلك في شعر حسان بن ثابت ..

إن الإسلام لم يعارض الأدب، ولم يتخل عن مجال من مجالاته إلا في حدود التزامه بالحق والنزاهة، ونفي الانحراف والعدوان..

سد الفجوات

في مجال الاجتهاد الفقهي، يدافع محمد الرابع عن الشريعة الإسلامية، وفي كتابه: أضواء على الفقه الإسلامي ومكانة الاجتهاد منه، (دار القلم، دمشق، 1406هـ= 2005م)، يدعو إلى الاجتهاد لسد الفجوات التي أصابت المجتمعات الإسلامية في ظل الأحداث والتطورات المتسارعة المتوالية في عالم اليوم، ويرى أن كثيرا من الناس وخاصة طلاب العلم ما زالوا يعيشون بمعزل عن التفكير  في معالجتها، وطرح الحلول المناسبة لها، وقد حفزته هذه الرؤية على إبداء آرائه في هذا المجال الخصيب الثري، مع ضرب أمثلة تتطلب الاجتهاد من أهله.

لقد توخى محمد الرابع بيان أهمية الاجتهاد في كل زمان ومكان تحت راية المذاهب الفقهية الأربعة المبنية على أسس الاجتهاد، مع التركيز  على إزالة ظاهرة الخلافات المذهبية بين المسلمين، وتجنب الأساليب التي تفضي إلى إثارة الفتنة، أو زرع الفساد في قلوب السذج من الناس لمجرد اختلاف وجهات النظر  في بعض المسائل الفقهية، ولا سيما في الظروف الراهنة العصيبة التي يشن فيها أعداء الإسلام الحملات الشعواء ضده وضد أتباعه.

وفي الكتاب بحث مستفيض عن النظام الربوي السائد اليوم، حيث بيّن حرمته في جميع الشرائع السماوية، ولفت إلى أضراره الاقتصادية والاجتماعية، ورأى أن أفضل علاج لداء الربا هو  تشجيع القرض الحسن، والتجارة بالمضاربة.

ومن ناحية أخرى كان اهتمام محمد الرابع بالأدب العربي مكثّفا، فقد درّسه في دار العلوم على مدى سنوات طويلة، وأصدر كتابين مهمين تناولا هذا الأدب، وبدا منهما اهتمامه واهتمام ندوة العلماء باللغة العربية وآدابها، ومتابعة ما يصدر عنها في العالم العربي، وخاصة مصر والشام والعراق.

الكتاب الأول: تاريخ الأدب العربي- العصر الإسلامي،(مؤسسة الصحافة والنش، لكنهؤ، الهند،1419هـ= 1998م)، والكتاب الآخر: الأدب العربي بين عرض ونقد، (مؤسسة الصحافة والنشر، لكنهؤ، الهند، 1424هـ= 2003م).

وأهمية هذا الكتاب تكمن في أنه أول كتاب وضع لشباب لم يعرفوا من الأدب العربي إلا مختارات قليلة من النثر  والشعر، ومعلومات بسيطة عن تاريخ الأدب العربي، ويضم الكتاب مجموعة من الفصول حول حقيقة الأدب والنقد والتحليل، ونماذج من حيث القيمة الأدبية حسب العصور: الجاهلي، الإسلامي الأول، وعهد المدنية والحضارة، والنهضة الحديثة..

مواجهة الفساد الفكري

ومن أهم ما ألفه محمد الرابع “ندوة العلماء: فكرتها ومنهاجها”، وصدر  عن (الأمانة العامة لندوة العلماء، ط3،  لكنهؤ، الهند، 1429هـ= 2008م)،وبيّن فيه أن الندوة أنشئت لجلاء طبيعة الإسلام ونقائه وأصالة فكره بين جاحد وحامد، ومواجهة الفساد الفكري الذي يهب على المسلمين الهنود من شتى الجهات، وقد ركز العلماء المسلمون في الهند على ثلاث نقاط عند إنشاء الندوة (أول القرن الرابع عشر الهجري= تسعينيات القرن التاسع عشر الميلادي):

أولها إصلاح نظام التعليم والتربية وتطويره في ضوء متطلبات الظروف المستجدة ومقتضيات العصر، وصياغته على أساس متين من الكتاب والسنة، ومراعاة العلوم الحديثة التي لا غنى عنها، وثانيتها: تصحيح المفاهيم الدينية وتنقية الأفكار وتفسير الدين بما يتفق وروح الكتاب والسنة، وثالثتها: جمع كلمة المسلمين، وتوحيد صفوفهم، وخلق روح التسامح بينهم والتضامن على جميع المستويات. وقد أوجدت الندوة تقاربا أخويا بين عديد من الفئات الإسلامية المتباعدة، وجمعت أصحاب الفكر الإسلامي المخالفين، وزعماء المذاهب الفقهية المتعارضة.

أسلوب علمي

هناك كتب أخرى للشيخ محمد الرابع، يضيق المجال عن تناولها، وأختم بالإشارة إلى أسلوبه، كما وصفه تلميذه الدكتور محمد أكرم الندوي:

“يكتب في الأسلوب العلمي الواضح، الذي يؤدي الرسالة ويقنع ، لا الذي يصاغ فيمتع، ومنشأ ذلك حبه للحرية والصراحة، فيرسل النفس على سجيتها، ويعرض الفكرة على حقيقتها من غير تمويهها، ومع ذلك فلأسلوبه طابعه المتميز، إنه أسلوب عالم يبحث لينتج، أو  مصلح يصف ليعالج، على أنه يتوخى الجمال أحيانا، لاسيما في كتاباته واختياراته الأدبية” (بغية التابع لأسانيد العلامة الشريف محمد الرابع، دار القلم، دمشق، ص،38-39).

رحم الله الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي، وأثابه على ما قدم للإسلام واللغة العربية في شبه القارة الهندية، والعالم الإسلامي.