أضع بين يدي القارئ الكريم كلمات تجري في سياق الحديث عن معالم النهضة وآليات استعادة الفعالية الحضارية أو المشاركة فيها ومقاربة ذلك، وهذه الكلمات أعدّها من مشروع “الجودة” المنشود في التفكير والأداء، والذي يتحدّث فيه اليوم العالم المتقدّم وينافس فيه، وآمل أن تكون هذه الكلمات مساهمة في طريق التحضر.

وقد اعتمدت في طرح هذا الموضوع على كثير مما كتبه المفكر الكبير الأستاذ مالك بن نبي فقيه الحضارة، ورأيت أن أنتقي بعض القضايا المفصلية التي تعيننا على تصور المشكلة التي تمر بها الأمة على مستوى الفكر والتنظير والتخطيط وغير ذلك، مع محاولة تصور الحلول الناجعة من أجل إعادة رسم خطة في مسار النهضة.

أولا- الحركة من أجل التطوّر والتغيير الإيجابيّ سمة الباحثين والعاملين من أجل النهضة

 (فكلّ جماعة لا تتطور ولا يعتريها تغيير في حدود الزمن تخرج بذلك من التحديد الجدليّ لكلمة مجتمع)([1]). و(تكسب الجماعة الإنسانية صفة “المجتمع” عندما تشرع في “الحركة”، أي عندما تبدأ في تغيير نفسها من أجل الوصول إلى غايتها، وهذا يتفق من الوجهة التاريخية مع لحظة انبثاق حضارة معينة، أمّا الجماعات الساكنة، فإنّ لها حياة اجتماعية دون غاية، فهي تعيش مرحلة ما قبل الحضارة)([2]).     

ثانيا – العامل الأخلاقي شرط في الوظيفة البنائية لأي مجتمع

والعامل الأخلاقي لكل بناء نهضوي أو غيره شرط صحّة ووجود، إذ لا يصح ذلك بلا منظومة أخلاقية صحيحة، والصحّة عندنا مكتسبة من صحة المصدر: الوحي. وإذا فقدت المنظومة الأخلاقية فمعناه انخرام شبكة العلاقات الاجتماعية، وإذا انخرمت هذه الشبكة انتهى المجتمع وانطمس، وتوقفت عجلة تاريخه. قال الأستاذ مالك بن نبي: (كلما حدث إخلال بالقانون الخلقيّ في مجتمع معيّن، حدث تمزق في شبكة العلاقات التي تتيح له أن يصنع تاريخه)([3]).

رجل يرتدي نظارات دائرية وبذلة رسمية، يظهر خلفه رفوف مليئة بالكتب. تعبير وجهه جدي ويتسم بالذكاء. الصورة تبرز تفاصيل الملابس والوجه، مما يعكس أسلوب حياة أكاديمي أو مثقف.
الفيلسوف الجزائري مالك بن نبي

والإخلال بالمنظومة الأخلاقية ينعكس سلبا على عالم الأفكار وكذا في عالم الأشياء كما يبيّن الأستاذ مالك رحمه الله في قوله:(العلاقة الفاسدة في “عالم الأشخاص” لها نتائجها السريعة في “عالم الأفكار” وفي “عالم الأشياء”، والسقوط الاجتماعيّ الذي يصيب “عالم الأشخاص” يمتدّ إلى “الأفكار” وإلى “الأشياء” في صورة افتقار وفاقة، فهناك أفكار رأت النور في المجتمع الإسلاميّ في القرن الرابع عشر الميلاديّ كفكرة الدورة الدموية، ومع ذلك ظلت غائبة عن “عالم الأفكار”؛ لأنّ شبكة علاقاته قد تمزقت)([4]).

ثالثا- التخطيط والاستشراف عامل إيجابي من أجل تحريك المجتمعات

(التخطيط في بلد في طور النمو يهدف أساسا إلى تحريك كامل طاقاته وموارده البشرية والمادية تحريكًا يؤدّي إلى ديناميكية اجتماعية. وبابتعاد أحد عناصر هذا التخطيط مهما كان ضئيلا عن المقياس العام للمجموع أو عن القواعد الأخلاقية الملازمة للعمل الجماعيّ لا يمكن بالنتيجة إلا أن يؤثر سلبيا على توازن الديناميكية التي يراد خلقها)([5]).

وطرح الأستاذ مالك سؤالا عميقا في دلالته أكثر من مرة: هل توجد خطة في الجزائر؟ [ص31، وص32، وص35]. وهذا سؤال قديم متجدّد، وما زلنا نطرحه اليوم، ثم نبّه الأستاذ على أمر مهم وهو: (أنّ التخطيط يفقد معناه التقنيّ من اللحظة التي تكون فيها فكرته الرائدة مستوحاة من الخارج، فهذا لا يكون تخطيطا، وإنما مجرد مهارة كمهارة البقّال الذي يملأ رفوفه بما تمليه متطلبات زبائنه وأهواؤهم)([6]).

ومن ظريف بيانه لفشل التخطيط يضرب مثلا جميلا فيقول: (لنقل فكرتنا بوضوح: لا يخلق حيٌّ يمشي ويعمل بتجميع أربعة أطراف وجذع ورأس جلبت من المشرحة، كذلك لا تستطيع مجموعة متباينة من المخططات الصغيرة أن تكون مخططا عامّا…)([7]).

رابعا: ترتيب الأولويات: “الواجب قبل الحقّ” منطلق من منطلقات صناعة التاريخ والحضارة

لا شك أن قضية الحق والواجب من القضايا الفلسفية التي جرى فيها كثير من الكلام والبحث: “أيهما أسبق لتحقيق العدالة”، وللأستاذ مالك بن نبي وجهة نظر وفلسفة مؤصلة باعتبار الرؤية التكاملية الجامعة، يقول: (التاريخ لا يبدأ من مرحلة الحقوق، بل من مرحلة الواجبات المتواضعة في أبسط معنى الكلمة، الواجبات الخاصة بكلّ يوم، بكلّ ساعة، بكلّ دقيقة، لا في معناها المعقّد، كما يعقّده عن قصد أولئك الذين يعطلون جهود البناء اليوميّ بكلمات جوفاء وشعارات كاذبة، يعطلون بها التاريخ بدعوى أنّهم ينتظرون الساعات الخطيرة والمعجزات الكبيرة)([8]).

ونجده – رحمه الله- يعطي النموذج العملي، من خلال تصور فعال لقيمة الواجب في حياة الفرد المسلم، وما ينتج عنه في حصاد العام من ساعات العمل اليومية عندما تتراكم، يقول: (… نعلم الطفل والمرأة والرجل تخصيص ‌نصف ‌ساعة يوميا لأداء واجب معين، فإذا خصص كل فرد هذا الجزء من يومه في تنفيذ مهمة منتظمة وفعالة، فسوف يكون لديه في نهاية العام حصيلة هائلة من ساعات العمل لمصلحة الحياة الإسلامية في جميع أشكالها العقلية والخلقية والفنية والاقتصادية والمنزلية، وسيثبت هذا (النصف ساعة) عمليا فكرة الزمن في العقل الإسلامي، أي في أسلوب الحياة في المجتمع، وفي سلوك أفراده، فإذا استغل الوقت هكذا فلم يضع سدى ولم يمر كسولا في حقلنا، فسترتفع كمية حصادنا العقلي واليدوي والروحي، وهذه هي الحضارة)([9]).

وفي موضع آخر، في كتاب “المسلم في عالم الاقتصاد”، يوظف حديثا من أحاديث النبي في هذا السياق – في بيان أولوية الواجب على الحق في عالم الاقتصاد والإنتاج- توظيفا دقيقا، يقول: (… نرى الرسول يعطينا في قضية المتسول الذي أتى يسأل يوما “لقمة عيش”  كان من “حقه” أن يأخذها من المجتمع، بنص من القرآن الكريم في الزكاة، وكان النبي أدرى الناس بتطبيقه، كما كان أجود من الرياح السخية في الربيع لتقديم هذه اللقمة لمسكين جاء يطلبها.

ولكن أعمال النبي تشريع أو عبرة لأمته، فأشار الرسول على من حوله من الصحابة رضوان الله عليهم بأن يجهزوا هذا الفقير ليحتطب([10])، وأشار على الرجل بأن يحتطب ليأكل من عمل يده.

نهر النيل يتدفق عبر المناظر الطبيعية، مع ظهور أهرامات مصر في الخلفية. يُظهر التصميم الجمالي أشجار النخيل وألوان دافئة تعكس غروب الشمس، مما يبرز جمال الثقافة المصرية.

فإذا حللنا هذه الأبعاد الخلقية لهذه القصة، نرى كيف يحل الرسول أزمة اجتماعية تعرض عليه صورة متسول من المساكين، فيفضل صلوات الله عليه حلها في نطاق “الواجب” على “الحق”، أو إذا قدرنا الأبعاد الاقتصادية فإننا نراه يفضل الحل في نطاق “الإنتاج”. وكل مواقف الرسول الأخرى تدعم هذا الاتجاه، بل هذا التوجيه لأمته إن شئنا في مجال الأخلاق، أو في مجال الاقتصاد. كما نراه في موقف آخر يعطي لصحابي يطلب ممن كان حاضرا، ثم يتكرر الطلب فيتكرر العطاء، ثم يتكرر الطلب والعطاء للمرة الثالثة، ويأتي التوجيه في صورة بارزة فيقول للطالب: ” … إن اليد العليا خير من اليد السفلى”[11])([12]).

وللأستاذ مالك بن نبي رؤية رائعة في مخرجات معادلة الواجب والحق، من حيث أولية أحدهما على الآخر أو استواؤهما، يقول رحمه الله-: (… فحسب تركيزه على مفهوم “الواجب” أو على مفهوم “الحق”، تكون معادلته الاقتصادية إيجابية بفائض الإنتاج على الاستهلاك، أو متعادلة إذا استوى الطرفان، أو سلبية إذا كان الاستهلاك أرجح في الميزانية. ففي الحالة الأولى يستطيع المجتمع استثمار فائض إنتاجه في العمليات والميزانيات المقبلة فهو مجتمع نام. وفي الحالة الثانية فإن كفتي ميزانه متعادلتان فلا ترجح واحدة على الأخرى، فهو لا يصعد ولا يهبط، فهو مجتمع راكد. أما في الحالة الثالثة فكفة استهلاكه أرجح لا يصعد ولا يستقر، فهو مجتمع ينهار)([13]).

خامسا – الخروج من ظاهرة “التكديس” إلى البناء في اتجاه الحضارة

ومع الأسف غرقت الأمة في عالم التكديس “بعقلية الشيئية”، وعطلت فكرة البناء، التي جوهرها الفكرة، فأصبحت خارج التاريخ، لأن غروب الفكرة يعني بزوغ الوثن، كما قال الأستاذ مالك بن نبي([14]). والبناء أساسه عالم الأفكار، واندماح مجتمع في التاريخ يكون عندما تكون للأفكار دور وظيفي، لأن الحضارة هي القدرة على القيام بوظيفةٍ أو ‌مهمة ‌معينةٍ([15]).

سادسا- الشهادة حافز للمضي في الإنتاج الفكري وليس منتهى الطلب

كثير ممن نشاهدهم اليوم من الذين يتحصلون على الشهادات العليا، بمجرد تحصيله لتلك الرتبة يتوقف عن الإنتاج العلمي، ويستقيل فكريا، مع العلم أن كثيرا منهم من لم يبدأ بعد، سوى تلك الأطروحة أو الرسالة، فما أكثر الدكاترة الذين حازوا ذلك الحرف “د” فاستظلوا تحته، كمثل الذي بنى” سقفا” ولم يزد عليه، وبقي تحته مكتفيا بذاك اللقب من غير مشاركة فاعلة في المجتمع أو تطوير للمعارف ونحو هذا، بينما في المجتمع الآخر يبدأ الفكر والجهد والاجتهاد بعد الحصول على الشهادات، (فالنخبة عندنا لا تشعر بحاجة إلى المطالعة بعد تخرجها، وعملها الفكريّ ينتهي- لأسباب اجتماعية ونفسية موروثة- عند تحصيل الشهادة… أي عند النقطة التي تبتدئ فيها النخبة في البلاد الأخرى العمل الفكري الجديّ)([16]).

سابعا – تحويل الفكرة إلى ممارسة اجتماعية وسلوكية فيما يُكتب وينشر

ما أكثر ما كتب الكُتّاب وألّـف المؤلفون، لكن كم هي الأفكار التي ترجمت إلى أعمال بنائية، وساهمت في تغيير الذهنيات نحو انطلاقة جديدة لاستعادة المبادرة للحاق بالآخر، والسير معه سير الأنداد، لا سير المقلدة الأتباع، تلك الكتابة التي تصنع من المجتمع أمة، ولأجل هذا نبه الأستاذ مالك بن نبي إلى جدية التأليف والكتابة، بحيث تكون فاعلة تستنهض الهمم وتوقظ الكفاءات الصامتة.

يقول- رحمه الله-: (لا ينبغي لمن يكتب أن يكون مجرد آلة كاتبة، تنقل لنا “نسخة” دون أن تقدر للكلمات التي كتبتها أي نتيجة اجتماعية، إنّ على من يكتب واجبا إزاء الكلمات التي يكتبها، يجب عليه أن يتتبعها خارج مكتبه، في معركة الحياة والصراع الفكري، أن يتتبعها في عملها في المجتمع… يجب عليه أن لا يغفل تلك الصلة- صلة السبب بنتيجته- التي تنشأ في إطار مشكلة اجتماعية واحدة إذ تنشأ بصفة أوتوماتيكية فكرة بين من يكتبها وبين من يصيّرها أو يحاول أن يصيرها عملا، …

ومن هنا ينشأ واجب آخر لمن يكتب، هو أن تكون له فكرة صحيحة بقدر الإمكان عن شخصية القارئ الذي يقوم بدور رئيسي في تقرير قيمة الأفكار الاجتماعية؛ لأنه هو العامل المحوّل الذي يحوّل الفكرة فيصيّرها واقعا محسوسًا في سلوكه أو شيئا ملموسًا في محيطه)([17]).

ثامنا – القيادة في ظل العمل بروح الفريق مهارة من المهارات

لا ينبغي للمسؤول أن يتميز عن أعضاء فريقه في أداء الواجب، ولا يليق به أن يسلك طريق المتابعات والمحاسبات لأسباب تافهة، بل يحسن به أن يكون بعيدًا عن تصيّد العيوب من العاملين، فإنّ هذا من شأنه أن يثبط العزائم، ويضعّف روح الفريق، ويقضي على الثقة بين العاملين، وتطغى بعد ذلك عقلية التبرير والفرار من تحمّل المسؤولية بالحيل وربما الكذب. إنّ “المسؤول” في المؤسّسة ينبغي أن يكون أوّل من يؤمن بـ”روح الفريق”، وهو من يجمّع ويوفق بين الأعضاء المشتركين في العمل، وعندما يعطي الحرية للعاملين معه في أداء واجباتهم، فإنّ ذلك كفيل بإبراز قدراتهم وإبداعاتهم.

والحق أن العمل بروح الفريق مبدأ منطقي، وحتمية لازمة لمن أراد النجاح، ونتائجه مشهودة، ولأضرب مثلا للتقريب: لو أنّ لاعبا ماهرا لا يستطيع أن يمرّر الكرة لأحد من زملائه، فهل يستطيع أن يلعب وحده أو أن يخرج مهاراته؟ وكذلك العمل بروح الفريق، لا جدوى مرجوة من عمل الفرد وحده في مشروع مرتبط بالمجموعة، ولذا نصح مدرّب كرة السلّة دين سميث

 (Dean Smith Coach) لاعبه الأسطورة مايكل جوردن (Michael Jordan) فقال له: “مايكل ! إذا كنت لا تستطيع أن تمرّر الكرة، فإنّك لا تستطيع اللعب”.

“Michael, if you can’t pass, you can’t play »

فالمسؤول الذي يؤمن بمبدأ العمل بــ “روح الفريق” تجده متفاعلًا مع الطاقم الذي يشتغل معه، مشجّعًا لكلّ واحد من العاملين، مُشعرًا إيّاه بقيمته في المنظومة العاملة، يجزل الثناء للعامل إذا أحسن في العلن ويكافئه، ويعاتبه في السرّ إذا أخطأ، ولا شكّ أنّ الثناء في العلن من غير غلو وظيفة عمليّة تحفيزية ضرورية للاستمرار وتحقيق النجاح، والملامة في السرّ عملية مشجعة على تخطي الأخطاء، ويعجبني في هذا المعنى قول الأديب الفرنسي “فولتي”ر  Voltaire: (تقدير الآخرين شيء رائع؛ فإنه يجعل أفضل ما عند الآخرين ملكًا لنا أيضًا).

« L’appréciation est une chose merveilleuse : elle fait que ce qui est excellent chez les autres nous appartient également. »

“Appreciation is a wonderful thing: It makes what is excellent in others belong to us as well.”

ولا يخفى أن العمل في فريق لا بدّ لكي يحقّق المطلوب أن يكون كلّ الأعضاء فيه عاملين، منسجمين، ملتزمين، صادقين، متواضعين، مرنين، ناصحين، متواصلين. ومما أفدته من بعض ما قرأت في تصنيف بعض المعوّقات لمسيرة تحقيق الجودة والنجاح في إطار فريق العمل بعض الأمراض النفسية، ومنها:

1- نفسية “أنا الأفضل” فتجد أحدهم يحبّ أن يثبت أنه الأفضل دون أن يقول ذلك، لكن من خلال إبراز أعماله والتحدّث عن نفسه، ومن خلال التقليل من شأن الآخرين ومن عملهم، وبإبـراز خطأ الفريق إذ لم يأخذوا برأيه، ونحو ذلك.

2- نفسية “أنا لك بالمرصاد” فتجد من يتسلط على فرد في الفريق متتبعا أخطاءه ليبرزها، ويبحث عن سلبياته بشكل مستمرّ، وهذا سعيا منه لتدميره وإقصائه، وربما كان ذلك لخلاف شخصيّ أو حسد أو غير ذلك.

3- نفسية “لا تحدثوا مشكلة” أو لا تخوضوا في هذا أو ذاك كي لا تحدث مشكلة، فتجده لا يحبّ مناقشة المشكلات والخلافات، بل يرّكّز فقط على الإيجابيات.

4- نفسية “عملي هو الأهمّ” فيحتاج كلّ الدعم، فيعتقد هذا أنّ على الآخرين أن يقدّموا عمله على عملهم، ويطالب بأفضل الإمكانيات.

5- نفسية “افعلوا ما شئتم ولا تكلفونـي شيئا”، فتجده مستقيلًا فعليا، فكلما طلب منه عمل يعتذر عنه بشتى الأعذار طالبا منهم إعفاءه وإلقاء مسؤولية العمل على الآخرين.

6- نفسية  “لا فائدة من عملكم”، يريد أن يقول كلّ شيء مستحيل ولا يمكن تحقيقه، ولا داعي للخوض فيه أو مجرد المحاولة، وهو ما يعبّر عنه الأستاذ الكبير مالك بن نبي رحمه الله “ذهان الاستحالة”.

7- نفسية “أنا أكثر ولاء للمؤسسة” أو للوطن، فتراه يهاجم أصحاب الآراء والاقتراحات غير العادية بالنسبة له، ويسعى لإبراز ولائه في كلّ مرة رافعا شعار خدمة المؤسّسة أو الوطن ونحو هذا.

8- نفسية “دعونا نناقش القضايا العملية” فتجد بعضهم لا يحبّ أن يناقش القضايا التصورية، وربما لا يحسن ذلك، فيلجأ إلى التركيز على الجوانب العملية مع العلم أنّها مبنية على التصور ابتداء.

9- نفسية “أنا لم أقصّر بل أنتم المقصّرون” فهذا يلوم غيره ليخرج نفسه من اللوم عن تقصيره في العمل، فيبادر إلى الهجوم على الآخرين حين كشفِّ أخطائه أو تقصيره.

10- نفسية “أنتم أعلم” وهذا يحصل كثيرا مع العضو الجديد في المجموعة مع وجود الأقدم، فتجده يتعلل بمثل هذا عندما يسأل عن رأيه أو موقفه من أمر ما. 

11- نفسية “أنا صاحب السلطة” أو “أنا المسؤول هنا”، فتراه لا يسمح لأحد أن يخرج عن سلطته، ويردّ على كلّ واحد ممن يحضر معه جلسات العمل أو غيرها، ولا يحبّ لغيره التدخل لإبراز رأيه في أيّ  موضوع، وتجده كثير الكلام مستحوذا على معظم الوقت([18]).

هذه بعض المعوّقات النفسية لعمل الفريق من أجل تحقيق النجاح والجودة المرجوة، وتنطبق على كلّ مراحل إنجاز أي مشروع بنائي بما فيها كيفية إدارة الاجتماعات وغيرها من مسار الإنجاز.

ثمّ إنّ أيّ نجاح لأيّ مؤسّسة يبدأ بالاعتناء بأهون الواجبات وأصغرها والتي يحتقرها كثير من الناس، وكذا بفعالية أصغر موظف في المؤسّسة إلى أكبر من فيها، وبهذا يحصل التكامل، وأيّ تفريط في الواجب مهما بدَا لبعضهم حقارته كفيل بتعطيل مسيرة النجاح و«الجودة» المرجوة، فكيف إذا تقاعس المسؤولون عن أداء واجباتهم وانصرفوا إلى ما يحقّق أغراضهم الخاصّة؟

تاسعا – تحقـيق “الجـودة” في الوظيفة التعليمية مهمـة جماعيـة وقضية استراتيجيـة

تشخيص معايير “الجودة” وتفعيلُها وتطبيقُها وضمانُـها عمليةٌ جماعيةٌ مشتركةٌ، وليس الفرد وحده أو مجموعة يمكنها تحقيقها وإن كانوا متميزين ذوي كفاءة عالية وخبرة متميزة، فهي تكاتف جهود وتراكم خبرات ضمن شبكة العلاقات الممتازة بين الأفراد الفاعلين (الإدارة وهيئة التدريس والطلبة والموظفين)، كلّ بحسب عمله واختصاصه وموقعه، وقبل ذلك ينبغي أن تكون -الجودة – مشروعًا يؤمن به الجميع، وينطلق من الإرادة الحضارية([19]) عند كل فرد في المجموعة، فهي التي تصنع الإمكان الحضاري، وفي غياب “الإرادة الحضارية” لا يمكن التخلص من التبعية والتخلف، فلا بدّ أن يستشعر الجميع ثقل هذه المسؤولية، وبغير الشّعور بالمسؤولية وترجمته عمليا تصير الأمور عبثية يطغى فيها حبّ التمركز والاستيلاء على المناصب والمنافسة عليها، وهدر القيم وغير ذلك من الآفات.

صورة مركبة تحتوي على ثلاثة عناصر: نقش بارز يظهر شخصين يحملان عربة، ورسم تخطيطي لمعبد قديم، وطبقات من ورق قديم. تعكس الصورة تاريخ الحضارات القديمة وتطور الكتابة والفن المعماري.

والحقّ أنّ العبرة في ذلك بمن غلب، فإذا غلب أصحاب الخبرات والكفاءات والفعالية والشّعور بالمسؤولية مع الضمير الحيّ والصّدق حصل المرادُ، وإذا غلب الفاشلون الآفلون طغت الرداءةُ، والفاشل من طبعه أن يهدم ولا يبني، ولا شكّ أنّ الحديث عن هذا الأمر كالحديث عن التخلف في الأمّة الذي نعيشه، فهو عبارة عن تراكم تخلف الأفراد، وليس التخلف أمرًا قدريًّا ينزل على الأمّة جبـرًا، بل هو من كسب الإنسان، فهو كما قلت من نتاج تراكم رداءة الأفراد وتخلفهم ولو كان فيهم متحضّرون، لكن العبرة بمن غلب، فلا شكّ أن غلبة الفاشلين في مؤسّسة تعليمية معناه الإفلاس الحضاريّ والانهيار الحتميّ للمؤسّسة، وصداع يؤلم رأس الدّولة.

وفي هذا السياق أضيف أمرا مهمّا وهو أنّ عملية إنجاح أيّ مشروع بالمقاييس المعتمدة دوليا، أو رفع مستوى الجامعة – مثلا- إلى مصاف الجامعات المرموقة وفق معايير «الجودة» العالمية ينبغي أن يكون كلّ الأفراد المشتركين فيها يؤمنون بهذه المعاييـر، ويعملون على تحقيقها.

أقول هذا لأنّ أكثر جامعاتنا – ليس هذا من أولويتها، وقد تجد من هيئة التدريس أو الإدارة من يحاول العمل على تحقيق «الجودة» المطلوبة لكن مع الأسف ترى في المقابل من يخرب ويشدّك إلى “الوحل”، فلا تستطيع النهوض بله الاقلاع، لذا وجب القول إنّ نجاح الجامعة في تحقيق معايير «الجودة» وضمانها ورفع قيمتها عالميا ينبغي أن يكون المسؤول- ابتداءً – مؤمنًا بهذا المشروع، وله من المهارات في إدارة الجودة ما يجعله فاعلًا مؤّثرا في المجموعة التي تعمل معه؛ -الأستاذ ثم سائر الموظفين في المؤسّسة…-ولا نهضة لجامعة يهان فيها الأستاذ والموظف، ويكون المسؤول فيها مستبدا أو أنانيا يقدّم مصالحه على المصلحة العليا للمؤسسة، وبالمقابل لا نجاح لجامعة لا يقوم الأستاذ أو الموظف بمهامه على أكمل وجه.

وما ينبغي التأكيد عليه هنا أن العلاقات الجيدة بين الأطراف المتعاملين في حقل واحد أو في مؤسّسة واحدة كفيلة بإنجاح أيّ مشروع نهضوي، وليست صحّة الأفكار وجودتها وقوّتُها وحدها تصنع النهضة والتطور ما لم تكن العلاقات العامّة مرضية متناسقة.

فإذا كانت شبكة العلاقات بين أفراد المجتمع والمؤسسة على غير وفاق فلن ينفع عالم الأفكار، بل ذلك يعود بالخراب في عالم الأشياء، وهو ما سجّله الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله، قال: (فالعلاقة الفاسدة في “عالم الأشخاص” لها نتائجها السريعة في “عالم الأفكار” وفي “عالم الأشياء”، والسقوط الاجتماعيّ الذي يصيب “عالم الأشخاص” يمتدّ إلى “الأفكار” وإلى “الأشياء” في صورة افتقار وفاقة، فهناك أفكار رأت النور في المجتمع الإسلاميّ في القرن الرابع عشر الميلاديّ كفكرة الدورة الدموية، ومع ذلك ظلت غائبة عن “عالم الأفكار”؛ لأنّ شبكة علاقاته قد تمزقت)([20]).

من هنا نعلم أنّ فعالية الأفكار مرتبطةٌ بمدى التوافق في عالم الأشخاص ومتانة شبكة العلاقات، فلا قيمة لصواب الفكرة وجَوْدتها في مجتمع ممزق، تطغى فيه “الأنا” ويسود فيه تقديس الذات، وتنتشر فيه العقد النفسية. فأنى للفكرة أن تنتعش وتحيى في هذا الجو العفن؟ (فالعلاقات الاجتماعية تكون فاسدة عندما تصاب الذوات بالتضخّم، فيصبح العمل الجماعيّ المشترك صعبا أو مستحيلا)([21]).

عاشرا: “الفاعلية” في تحويل الأفكار إلى مشاريع منتجة وأعمال بنائية

الفاعلية هي القدرة على تحويل الإنتاج الفكري إلى جهود منتجة وأنشطة مثمرة، فهي قيمة حضارية من حيث حسن استثمار مقومات النهضة من إنتاج الأفكار مع جهد نوعي متواصل، واستغلال للوقت وحسن إدارته. وغياب الفعالية في المجتمع قرين التخلف.

والأفكار مهما كانت أصيلة إذا لم يكن لها فاعلية فلا تعني شيئا، ولا تستطيع أن تصنع تاريخا، ولا يمكن لها أن تقارع الأفكار ذات الفعالية -وإن لم تكن أصيلة-، يقول الأستاذ مالك بن نبي: (الحلبة التي ينبغي فيها الانتصار في صراع يفرض منطلق ‌الفعالية، فالفكرة الإسلامية لكي تقارع الأفكار الفعالة للمجتمعات المتحركة في القرن العشرين عليها أن تستعيد فعاليتها الخاصة، أي أن تأخذ مكانها من جديد وسط الأفكار التي تصنع التاريخ)([22]).

فالأمة الإسلامية أحوج ما تكون إلى إحداث تلك النقلة النوعية في عالم الأفكار مع إحداث حركية لها على مستوى الأفراد والمؤسسات، (فإن الذي ينقص المسلم ليس ‌منطق ‌الفكرة، ولكن منطق العمل والحركة، وهو لا يفكر ليعمل بل ليقول كلاما مجردا، بل إنه أكثر من ذلك يبغض أولئك الذين يفكرون تفكيرا مؤثرا، ويقولون كلاما منطقيا من شأنه أن يتحول في الحال إلى عمل ونشاط)([23]).

ينبغي الاعتناء بالإنسان قبل كل شيء، وهو من يصنع الفكرة والحركة، (فإذا ‌تحرك ‌الإنسان تحرك المجتمع والتاريخ، وإذا سكن سكن المجتمع والتاريخ)([24]).

حادي عشر – مسيرة المجتمع مرهونة بالعقل والضمير والتماسك المجتمعي

(ولا يستطيع المجتمع أن يتابع مسيرته بعقول خاوية، أو محشوة بأفكار ميتة، وضمائر حائرة، وشبكة من الروابط المتهدمة ليس تجمعها وحدة)([25]).

تنزيل PDF