يغلب على طريقة التدريس في الكليات والمعاهد الشرعية طريقة التلقين، بحيث يجلس المعلم أمام طلابه، فيستمعون له بدون تفاعل منهم معه في الغالب، مما يولد التيه وعدم التركيز، فلا يستوعب الطالب مما قيل ولا يثبت في عقله إلا نسبة قليلة، لاعتمادها على حاسة السمع فقط، فهذه الطريقة التقليدية التي تقوم على التلقين وعدم استعمال أي أدوات تساهم في الفهم والتقريب، و ” المتغيرات الدولية التي تمر بها المجتمعات البشرية منذ العقد الأخير من القرن العشرين، والتي تجلت في أوضح صورها مع بداية القرن الواحد والعشرين، تفرض علينا تغيير الكثير من الاتجاهات التربوية والممارسات التعليمية التي لا تتلاءم مع متطلبات العصر الحديث ومتغيراته، حيث ظل التعليم في بلادنا ردحاً طويلاً من الزمن يعاني من الانفصال، بدرجة أو بأخرى، عن احتياجات المجتمع ومتطلباته”[1] ذلك أن قدرة العقل على تكوين علاقات جديدة تحدث تغييراً في الواقع لدى الطالب، حيث تجاوز الحفظ والاستظهار إلى التفكير والبحث والتحليل والاستنتاج، ومن ثمَّ الابتكار[2].

والجهل بطرق التعليم من عوائق التعلم، وهذا حاصل في الطريقة التقليدية من بعض المعلمين، بحيث تراهم ” يأتي إليهم الطالب المبتدئ ليتعلم النحو مثلا فيشغلونه بالكلام على البسملة ثم على الحمدلة أياما بل شهورا ليوهموه سعة مداركهم وغزارة علمهم، ثم إذا قدر له الخلاص من ذلك أخذوا يلقنونه متنا أو شرحا بحواشيه وحواشي حواشيه، ويحشرون له خلاف العلماء، ويشغلونه بكلام من رد على القائل وما أجيب به عن الرد، ولا يزالون يضربون له على ذلك الوتر حتى يرتكز في ذهنه أن نوال هذا الفن من قبيل الصعب الذي لا يصل إليه إلا من أوتي الولاية وحضر مجلس القرب والاختصاص هذا إذا كان الملقن يفهم ظاهرا من عبارات المصنفين”[3].

وإن عد البعض أن هذه الطريقة أضحت قديمة لا وجود لها، فإنه ليس صحيحا على الإطلاق، فمازالت وإن قلت نسبتها، كما أن الكتب المعاصرة تأثرت بتلك الطريقة، ومن هنا، لا تؤتي الطريقة ثمارها المرجوة من التعليم الشرعي.

الفهم مقدم على الحفظ

وقف الناس من الفهم والحفظ ثلاثة مذاهب،  الأول يرى الحفظ أولى ولو بلا  فهم، والثاني يرى الفهم أولى ولو بلا حفظ، والثالث يرى الجمع بينهما، وقد اختلف هذا الفريق الثالث، هل يقدم الحفظ أم الفهم، والحق أن الفهم في العلوم مقدم على الحفظ، مع مراعاة اعتبار الحفظ مطلوبا بعد الفهم.

وقد بوب ابن عبد البر: (باب ذكر من ذم الإكثار من الحديث دون التفهم له والتفقه فيه)[4].

وقد يستثنى من ذلك في بدايات الطلب حفظ القرآن الكريم في الصغر، لأنه بعد ذلك سيحتاج إلى فهم القرآن وهو يراجعه، أما في طلب العلوم فإن الفهم مقدم على الحفظ، وهو منهج السلف الصالح في منهجية طلب العلم.

ويشهد لتقديم الفهم على العلم  آيات وآثار كثيرة، من ذلك:

قوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } [5]. وقد أثنى الله تعالى على أهل الفهم والاجتهاد فقال: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [6]

ومن السنة ما ورد عن عائشة – رضي الله عنها- قالت: إن رسول الله لم يكن يسرد الحديث كسردكم»[7].

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: “كيف أنتم إذا لبستكم فتنةٌ يهرم فيها الكبير، ويربوا فيها الصغير، ويتخذها الناس سنة فإذا غيرت قالوا: غيرت السنة؟ قالوا: ومتى ذلك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: إذا كثُر قرَّاؤُكم وقلّت فقهاؤُكم، كثُرت أُمراؤكم وقلّت أُمناؤُكم، والتُمست الدنيا بعمل الآخرة”[8]

وقال الخطيب البغدادي: ” وليجعل حفظه للحديث حفظ رعاية، لا حفظ رواية، فإن رواة العلوم كثير، ورعاتها قليل، ورب حاضر كالغائب وعالم كالجاهل، وحامل للحديث ليس معه منه شيء، إذ كان في اطراحه لحكمه بمنزلة الذاهب عن معرفته وعلمه” [9]

ويشير ابن خلدون على أهمية طرق التفاعل بين المعلم والطلاب، ويعيب غلبة الحفظ على الفهم، فيقول ” وأيسر طرق هذه الملكة فتق  اللّسان بالمحاورة والمناظرة في المسائل العلميّة فهو الّذي يقرّب شأنها ويحصّل مرامها. فتجد طالب العلم منهم بعد ذهاب الكثير من أعمارهم في ملازمة المجالس العلميّة سكوتا لا ينطقون ولا يفاوضون وعنايتهم بالحفظ أكثر من الحاجة. فلا يحصلون على طائل من ملكة التّصرّف في العلم والتّعليم. ثمّ بعد تحصيل من يرى منهم أنّه قد حصّل تجد ملكته قاصرة في علمه إن فاوض أو ناظر أو علّم، وما أتاهم القصور إلّا من قبل التّعليم وانقطاع سنده. وإلّا فحفظهم أبلغ من حفظ سواهم لشدّة عنايتهم به، وظنّهم أنّه المقصود من الملكة العلميّة وليس كذلك[10].

إن ضعف المعلمين جعل مستوى التعليم متدنيا، بحيث أضحت غاية البعض أن يفك رموز المؤلف من مراده بألفاظه، وهذه الطريقة لا تجعل الطالب مدركا لغايات العلم ومقاصده، ولا ينتبه لمراد المؤلف من كلامه، بل وصل الأمر ببعض المعلمين أنه في بعض المعاهد الدينية يقرأ كتاب الفقه القديم قراءة دون شرح، ولا يسمح للطلاب أن يسألوا، لأنه بالطبع هو لا يفهم!![11]

الجمع بين المشافهة والمطالعة

إن طرق التحصيل العلمي متنوعة، فقد يكون التحصيل عن طريق المشافهة من الشيوخ والمعلمين، وقد يكون من الاطلاع على الكتب والنهل منها لمن كان له قدرة على الفهم والاستيعاب، ولا شك أن المشافهة أولى من المطالعة، لكن تبقى للمطالعة دورها المساعد، فمما ينبغي على المعلم أثناء التدريس عن طريق المشافهة أن يثير طلابه ببعض المسائل حتى يراجعوا الكتب ويطالعوها ثم يعودوا إليه مرة أخرى بنتائج البحث والاطلاع، فيناقشهم ويناظرهم فيها.

وقد تنبه الإمام الشاطبي إلى أن طرق التحصيل لا تتوقف على المشافهة فقط، بل أدرج معها المطالعة، وإن قدم المشافهة لما يتحصل عليه الطالب من خبرة أستاذه، وأن الله تعالى قد يفتح للمتعلم بين يدي أستاذه ما لا يفتح له وحده.

وأما مطالعة كتب الأقدمين فقد اشترط الشاطبي لاعتمادها طريقة للتحصيل شرطين:

الأول: أن يكون الطالب مدركا لمقاصد العلم ومعرفة اصطلاحاته ما يعينه على النظر فيه، وهذه المرحلة لا تتأتى إلى من خلال المشافهة بين يدي العلماء.

والشرط الآخر: أن يتحرى كتب المتقدمين من أهل العلم المراد؛ فإنهم أقعد به من غيرهم من المتأخرين، وأصل ذلك التجربة والخبر. ويعني بالخبر حديث خيرية القرون، ويعني بالتجربة أنه قد عرف من خلالها رسوخ المتقدمين في العلم عن المتأخرين[12].

مراعاة التدرج في الشرح

إن من أهم معايير طرق التدريس مراعاة التدرج في الشرح للطلاب، بحيث يكون على مراحل ثلاثة هي:

المرحلة الأولى: التقريب والإجمال

وفيها يركز المعلم على أصول المسائل وأمهات القواعد، و المبالغة في شرحها شرحا مجملا، وأن  يلاحظ في الشرح أضعف الطلاب، مع طرح الأمثلة ، وأن لا يبدأ له بالمعضلات من المسائل، فإنه مما يشوش على عقل الطالب.

المرحلة الثانية: الشرح والتفصيل

وفيها يكون ذكر الخلافات النافعة كالخلافات الفقهية والإعراض عن الخلافات التي لا طائل من ورائها، كوجوه الإعراب التي لا ينبني عليها كبير شيء، ثم العناية بتطبيق ما يدرس الطالب.

المرحلة الثالثة: الإحاطة والاستيعاب

وفيها يركز على تدريب الطلاب على الشرح أمام زملائهم، والثناء على النابهين دون أن يثير حفيظة الباقين.

وهذا بخلاف ما يدرس في الكليات الشرعية الآن، فهي مقسمة إلى مواد دراسية تدرس كل مادة مرة واحدة يختبر فيها الطالب ولا يرجع إليها، مما يعني أنه يتحصل ثقافة لا علما.  كما أن طريقة التدريس في الجامعات ليست متدرجة، فمستوى المادة واحد منذ البداية، وطريقة السلف الصالح أن يدرس الطالب القواعد والمسائل العامة أولا، ثم بعد ذلك يتوسع بذكر الأدلة والخلاف في المذهب أو بين المذاهب ونحو ذلك.

ونحو هذا المعنى يقول فيه ابن خلدون: ” اعلم أنّ تلقين العلوم للمتعلّمين إنّما يكون مفيدا إذا كان على التّدريج شيئا فشيئا وقليلا قليلا، يلقى عليه أوّلا مسائل من كلّ باب من الفنّ هي أصول ذلك الباب، ويقرّب له في شرحها على سبيل الإجمال، ويراعى في ذلك قوّة عقله واستعداده لقبول ما يرد  عليه حتّى ينتهي إلى آخر الفنّ. وعند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم إلّا أنّها جزئيّة وضعيفة. وغايتها أنّها هيّأته لفهم الفنّ وتحصيل مسائله.

 ثمّ يرجع به إلى الفنّ ثانية فيرفعه في التّلقين عن تلك الرّتبة إلى أعلى منها، ويستوفي الشّرح والبيان، ويخرج عن الإجمال، ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجهه، إلى أن ينتهي إلى آخر الفنّ، فتجود ملكته.

 ثمّ يرجع به، وقد شدّ فلا يترك عويصا ولا مهمّا ولا مغلقا إلّا وضّحه وفتح له مقفله، فيخلص من الفنّ، وقد استولى على ملكته.

 هذا وجه التّعليم المفيد وهو كما رأيت إنّما يحصل في ثلاث تكرارات[13].

ضرب الأمثال

يعد ذكر الأمثلة من أهم وسائل التعلم، ولأهمية الأمثال فقد ضربها الله تعالى في كتابه تبيانا للناس وتعليما، كما جاءت السنة حافلة بضرب الأمثال، ومما جاء من ذلك في القرآن قوله تعالى: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} [الرعد: 17]، وقوله سبحانه: {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم: 25]، وقوله: {وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ} [إبراهيم: 45]، وقوله: {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [النور: 35]، وقوله: {وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ} [الفرقان: 39]، وقوله: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ } [العنكبوت: 43]، وقوله : {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [الحشر: 21]، ومن تتبع الأمثال في القرآن وجدها كثيرة جدا، وذلك لأهمية ضرب الأمثال في الإفهام والتعليم والتبليغ، وقد جمعها غير واحد من العلماء في مصنفات مفردة[14].

 ولكن الملاحظ أن كثيرا من كتب علوم الشريعة قلت فيها الأمثال، بل تكاد تكون الأمثلة متكررة من كتاب لآخر، دون مراعاة للعصر الذي كتب فيه، أو البيئة التي يدرس فيها، وعلة ذلك العجز  عن التمثيل، والاكتفاء بالنقل عن الغير.

ومن هنا كان من الواجب العناية بتكثير ضرب الأمثال؛ إفهاما وتفهيما، وإعقالا وتعقيلا، ووصولا وإيصالا، حتى تثبت القواعد في ذهن الطالب، وحتى يرسخ ما تعلمه؛ لأن المثل أبقى في الذهن وأرسخ في العقل، وأدعى إلى الفهم.

ولعل من التجارب الناجحة في ذلك ما يعرف بــ ( النحو الوظيفي)، وهي طريقة غلبت على شرح قواعد النحو العربي، بتقديم الأمثلة أولا، ومن خلال شرحها تبين قواعد الدرس، وقد وجدت تلك الطريقة في علم البلاغة أيضا، فهي معمول بها في علوم العربية، لكن ندر العمل بها في العلوم الشرعية، فنحن بحاجة إلى ( الفقه الوظيفي)، و ( الأصول الوظيفية)، و( مصطلح الحديث الوظيفي)، وهكذا..

التكرار

التكرار من أنجع وسائل التعلم، وقد استعمل الله تعالى التكرار في القرآن كثيرا، كوسيلة من وسائل البلاغ، كما كان يستعمله النبي في تعليم أصحابه، وهو دأب الصالحين من العلماء المتقدمين.

ومن أعظم فوائد التكرار حفظ العلم من ناحية، وكذلك الفتح من الله تعالى بفهم جديد للنصوص، فالتكرار خادم للفهم والحفظ معا، لأنه يحدث معايشة بين الطالب وبين العلم؛ فيفتح مغاليقه، ويقرب بعيده، ويفهم مشكله.

وقد حفظ عن السابقين تكرارهم للكتاب الواحد مرات عديدة، قال المزنى: أنا أنظر فى كتاب الرسالة منذ خمسين سنة ما أعلم أنى نظرت فيه مرة إلا وأنا أستفيد شيئا لم أكن عرفته[15].

و ذكر عمر بن سَمُرة الجعدي في ترجمة يحيى العِمْراني  أنه قال عن نفسِه: “إنه لم يُعلِّق “الزوائد على المهذب” إلا بعد أن حفظه غيبًا على الإمام عبد الله بن أحمد الهَمْداني، ثم أعاده في أُحاظه (قرية باليمن) ، ثم طالعه بعد ذلك كلِّه قبل التصنيف أربعين مرة أو أكثر.

وكان -رحمه الله- يُطالع الجزءَ من تجزئة أحدٍ وأربعين من “المهذَّب” في اليوم والليلة أربع عشرة مرة، لكلِّ فصلٍ منه”[16] اهـ.

الانشغال بعلم واحد مع مراعاة مراتب العلوم

وذلك أن من العلوم ما هو صناعات، ومنه ما يشبه الصناعات، وقد جرت عادة الناس في أن الإنسان لا يمكن له أن يتعلم صناعتين في وقت واحد، بل قلما من الناس من يجمع بين أكثر من صناعة ، فإن جمع بين أكثر من صناعة، فهو في مرحلة التعلم يتفرغ لصناعة واحدة، ثم يتعلم غيرها، وندر أن يكون على درجة واحدة من إجادة أكثر من صناعة.

ولكن لما كان بين بعض العلوم – خاصة علوم الشريعة والعربية- من ارتباط وتكامل، فإنه يحسن للإنسان أن يتعلم هذه  العلوم المرتبطة، وفرق بين تحصيلها وبين طريقة تعلمها.

ويستحسن أن يتفرغ عدد من الطلاب لكل علم يحتاجه الناس حتى ينبغوا فيه، ويكونوا على دراية كاملة به، فيتخصصون فيه ويكونون قادرين على تعليم غيرهم وتوريثهم ملكة العلم وخفاياه.

” وقل أن ترى في تاريخ العلماء رجلا نبغ في علم إلا وتراه قد انقطع له، ولازم الاشتغال به، وهجر ما عداه، وإن وجد له شركة في علوم أخر، فضعيفة جدا، وآثاره في ذلك قل أن توجد إلا مشوشة مضطربة” [17]

وقد ترجم ابن خلدون في مقدمته بابا : (فيمن حصلت له ملكة في صناعة فقل أن يجيد بعد في ملكة أخرى)، فقال:

” ومثال ذلك الخيّاط إذا أجاد ملكة الخياطة وأحكمها ورسخت في نفسه، فلا يجيد من بعدها ملكة النّجارة أو البناء إلّا أن تكون الأولى لم تستحكم بعد ولم ترسخ صبغتها. والسّبب في ذلك أنّ الملكات صفات للنّفس وألوان فلا تزدحم دفعة. ومن كان على الفطرة كان أسهل لقبول الملكات وأحسن استعدادا لحصولها. فإذا تلوّنت النّفس بالملكة الأخرى وخرجت عن الفطرة ضعف فيها الاستعداد باللّون الحاصل من هذه الملكة ،فكان قبولها للملكة الأخرى أضعف.

وهذا بيّن يشهد له الوجود. فقلّ أن تجد صاحب صناعة يحكمها ثمّ يحكم من بعدها أخرى ويكون فيهما معا على رتبة واحدة من الإجادة. حتّى أنّ أهل العلم الّذين ملكتهم فكريّة فهم بهذه المثابة. ومن حصل منهم على ملكة علم من العلوم وأجادها في الغاية، فقلّ أن يجيد ملكة علم آخر على نسبته، بل يكون مقصّرا فيه إن طلبه إلّا في الأقلّ النّادر من الأحوال. ومبنيّ سببه على ما ذكرناه من الاستعداد وتلوينه بلون الملكة الحاصلة في النّفس” [18].

أولويات التعلم

ذكر الآجري أن هناك أولويات في طلب العلم، فأول ما يبدأ به طلب العلم: تعليم القرآن وضبطه، باختيار حرف من الحروف السبعة، ثم الاشتغال بعلم الحلال والحرام، ثم علم الفرائض، ثم علم السنن النبوية التي تبين معنى الكتاب، ثم علم سنن صحابته رضي الله عنهم، ثم علم الفقه الذي يعرف معاني السنن [19]

وأبان ابن عبد البر- رحمه الله رتب طلب العلم، فقال : ” طلب العلم درجات ومناقل ورتب لا ينبغي تعديها، ومن تعداها جملة، فقد تعدى سبيل السلف رحمهم الله، ومن تعدى سبيلهم عامدا ضل، ومن تعداه مجتهدا زل.

 فأول العلم حفظ كتاب الله عز وجل وتفهمه وكل ما يعين على فهمه، فواجب طلبه معه، ولا أقول: إن حفظه كله فرض، ولكني أقول: إن ذلك شرط لازم على من أحب أن يكون عالما فقيها ناصبا نفسه للعلم ليس من باب الفرض “[20].

تكامل العلوم

بين العلوم تكامل وتقارب، فموسوعية العلم لها تأثير في فهم العلوم كلها، لأن كثيرا من العلوم ينبني بعضها على بعض، ويترتب بعضها على بعض، ويحسن بالمعلم حين يشرح في علم أن يستدعي بعض المباحث من العلوم الأخرى التي تتعلق بها تعلقا أصيلا دون استطراد مخل، فإن هذا من باب مدارسة العلم، وتكامل العلوم، وأنها كالوحدة الواحدة.

وتكامل العلوم له أكثر من وجه:

الوجه الأول: التكامل بين فروع العلم الواحد، فعلم اللغة مثلا له فروع كثيرة، والتميز في اللغة لا يتحصل إلا بتحصيل تلك الفروع من النحو والصرف والمعاني والبيان والبديع والشعر والنثر والنقد وعلم اللغة وغيرها من فنون العربية.

الوجه الثاني: التكامل بين علوم الآلات والغايات، كما هو الشأن بالنسبة للغة والأصول لغيرها من علوم الفقه والتوحيد والتفسير.

الوجه الثالث: التكامل بين العلوم خارج الدائرة الواحدة، كالتكامل بين العلوم الشرعية  والعلوم الإنسانية من ناحية، وبين العلوم الإسلامية والعلوم التجريبية من ناحية أخرى. ولعل هذا المزيج المتمثل في تكامل العلوم هو الذي أخرج لنا بعض مظاهر عبقرية العقل المسلم، فكلما كان العالم موسوعيا كلما كان اجتهاده الفقهي والفكري أنضح وأقرب للصواب، وهذا هو المشهود له في القرون السابقة واللاحقة.

ولعلنا هنا مراعاة للعصر لا نقصد الإحاطة بالعلوم كلها، بل نقصد به معرفة الوصول إلى المعلومات في تلك العلوم في المسألة المجتهد فيها باعتبارها نوعا من الاجتهاد الجزئي، مع معرفة الأصول العامة لأساسيات العلم.

وقد أدرك الأقدمون ذلك، فقد كتب عمر إلى أبي موسى: أما بعد، فتفقهوا في السنة وتفقهوا في العربية “. وقال الشعبي: «النحو في العلم كالملح في الطعام لا يستغنى عنه»  وقال شعبة: «مثل الذي يتعلم الحديث ولا يتعلم اللحن مثل برنس لا رأس له» [21]

ويحكى عن الفراء النحوي؛ أنه قال: من برع في علم واحد سهل عليه كل علم. فقال له محمد بن الحسن القاضي, وكان حاضرا في مجلسه ذلك، وكان ابن خالة الفراء: فأنت قد برعت في علمك، فخذ مسألة أسألك عنها من غير علمك: ما تقول فيمن سها في صلاته, ثم سجد لسهوه فسها في سجوده أيضا؟

قال الفراء: لا شيء عليه. قال: وكيف؟ قال: لأن التصغير عندنا لا يصغر؛ فكذلك السهو في سجود السهو لا يسجد له؛ لأنه بمنزلة تصغير التصغير؛ فالسجود للسهو هو جبر للصلاة، والجبر لا يجبر، كما أن التصغير لا يصغر. فقال القاضي: ما حسبت أن النساء يلدن مثلك.

و كمسألة الكسائي مع أبي يوسف القاضي بحضرة الرشيد

روي أن أبا يوسف دخل على الرشيد، والكسائي يداعبه ويمازحه؛ فقال له أبو يوسف: هذا الكوفي قد استفرغك وغلب عليك. فقال: يا أبا يوسف! إنه ليأتيني بأشياء يشتمل عليها قلبي. فأقبل الكسائي على أبي يوسف، فقال: يا أبا يوسف! هل لك في مسألة؟ فقال: نحو أم فقه؟ قال: بل فقه. فضحك الرشيد حتى فحص برجله، ثم قال: تلقي على أبي يوسف فقها؟ قال: نعم. قال: يا أبا يوسف! ما تقول في رجل قال لامرأته: أنت طالق إن دخلت الدار، وفتح أن؟ قال: إذا دخلت طلقت.قال: أخطأت يا أبا يوسف. فضحك الرشيد، ثم قال: كيف الصواب؟ قال: إذا قال “أن”؛ فقد وجب الفعل ووقع الطلاق، وإن قال: “إن”؛ فلم يجب ولم يقع الطلاق. قال: فكان أبو يوسف بعدها لا يدع أن يأتي الكسائي [22].


[1] – التفكير الناقد ودوره في التعلم الفعال، محمد إسماعيل محمد اللباني، ، ص3.

[2]  مهارات التفكير الإيجابي في المدرسة الأساسية، د/ محمد حمد عقيل الطيطــــي، ص17. ورقة مقدمة للمؤتمر العلمي العربي الثالث لرعاية الموهوبين والمتفوقين 19 – 21 تموز 2003م، 19 – 21 جمادى الأولى 1424هـ، فندق هوليدي إن/ عمّــان،

[3] – المدخل إلى مذهب الإمام أحمد لابن بدران (ص: 485)، وما زالت هذه الطريقة موجودة في بعض المساجد الكبرى في العالم العربي، خاصة عند شرح الكتب القديمة.

[4] – جامع بيان العلم وفضله (2/ 998)

[5] – [الأنبياء: 79]

[6] – [النساء: 83]

[7] – رواه البخاري 6 / 422 ومسلم رقم (2493)

[8] – سنن الدارمي، المقدمة باب تغيير الزمان وما يحدث فيه (ص 58 ح 91، 92) . وانظر جامع بيان العلم لابن عبد البر (1/188)

[9] – الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي: (1/ 87)، تحقيق: د. محمود الطحان، مكتبة المعارف – الرياض

[10] – تاريخ ابن خلدون (1/ 545)

[11] – مازالت هذه الطريقة موجودة ملحوظة في المعاهد الدينية في عدد من البلاد العربية، بل مازالت موجودة في بلاد الأعاجم عند دراستهم للكتب القديمة.

[12] – راجع:  الموافقات (1/ 145-149)

[13] – تاريخ ابن خلدون (1/ 734)

[14] – من ذلك: الأمثال في القرآن لابن القيم، والأمثال في القرآن الكريم، د. محمد جابر الفياض، وهو رسالة ماجستير، طبع المعهد العالمي للفكر الإسلامي، والأمثال في القرآن الكريم، د. حمد بن عبد الله المنصور، وأمثال القرآن وصور من أدبه، للشيخ: عبد الرحمن حبنكة، وغيرها.

[15] – طبقات الشافعية الكبرى للسبكي، (2/ 99) تحقيق: د. محمود محمد الطناحي د. عبد الفتاح محمد الحلو، هجر للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة: الثانية، 1413هـ

[16] – طبقات فقهاء اليمن، عمر بن سمرة الجعدي، (ص/ 178) . تحقيق: فؤاد سيد، دار القلم، بيروت

[17] – كتاب التعليم والإرشاد، محمد بدر النعساني،ص:226

[18] – ” تاريخ ابن خلدون” (1/ 507- 508)، تحقيق: خليل شحادة، دار الفكر، بيروت، الطبعة: الثانية، 1408 هـ – 1988 م

[19] – فرض طلب العلم، محمد بن حسين الآجري، ، ص:162-165، دار المعارف، الطبعة الأولى: 1431هـ =2010م

[20] – جامع بيان العلم وفضله (2/ 1129). من الأسف أن يتساهل عدد من المعاصرين في عدم اشتراط حفظ القرآن لمن اشتغل بصنعة الاجتهاد الفقهي.

[21] – جامع بيان العلم وفضله (2/ 1133-1134)

[22] –  الموافقات (1/ 116-119)