المتأمل في حالة الأمة وفي أسباب “الأفول” و”الأزمة” الحضارية التي تعيشها، يلاحظ توافر كثير من العناصر المادية ( الثروات الطبيعية – والبشر المنفذين لفعل النهضة) التي تؤهل لنهوض الأمم وإخراجها من كبوتها، إلا أن النظرة الإمبريقية لحال الأمة الإسلامية تقف عند غياب عامل آخر كان هو المحرك لهذه الأمة، وهو الذي صنع لها تاريخًا وهوية وحضارة بل وصنع لها وجودًا، هذا العامل هو عامل الإيمان الذي أوشك على الانطفاء في حياة الأمة، فرغم المظاهر الشكلية الإيمانية المتعددة، إلا أن الإيمان لا يقاس بمظاهره، ولكن يقاس بفعاليته الواقعية، فماذا يفيد إيمان كامن ذاتي داخل الفرد ليس له تأثير في واقع اجتماعي أو تربوي أو اقتصادي أو سياسي أو أخلاقي..ونحن في البدء لا ننفي عن المسلم المعاصر إيمانه، ولكن ننفي فعالية ذلك الإيمان، ونحفزّه إلى استعادة جذوة ذلك الإيمان مرة أخرى في دورة حضارية جديدة أو عالمية ثانية للأمة، لن يتحقق مرادها إلا باستعادة تلك الجذوة الإيمانية.

إن غياب فعالية الإيمان في واقع المسلم فردًا،  والأمة جماعة، بدأ بوهن الدفعة القرآنية في أعماق الشخصية المسلمة وتكوينها النفسي والفكري والاجتماعي، فالقرآن هو الذي غرس في وجدان المسلم جذوة امتدت ظلال نورها قرون طويلة، والأفكار والقيم والمفاهيم الإيمانية التي تضمنها الوحي هي التي  مثلت عند المسلم في دورته الحضارية الأولى منبع التحضر ، ويقاس بالقرب منها أو البعد عنها حالة المسلم  وتحضره. وعندما انطفأت شعلة هذه “الجذوة القرآنية” وخَمُدت أصيبت الأمة بهذا “الوهن الحضاري “، وتوقفت حركة العالم الإسلامي وضل وجهته، ولم يفلح معه كل المعوضات الزمنية، ولا الطاقات الوضعية، لأنه لا يمكن لأي معوض زمني أن يحل محل الإيمان.

سبيل استعادة مركزية القرآن في الأمة

إن استعادة مركزية القرآن في الأمة وفي نظمها وأخلاقها، لن يتحقق قبل أن يستقيم تعامل المسلم مع القرآن الذي هو الوقود الإلهي، والذي لا يمكن لأي معوض زمني أن يعوضه، ومن هنا كانت الدعوات الإصلاحية وأفكارها تتمحور حول التعامل مع القرآن واستعادة مركزيته في بناء شخصية الإنسان المسلم..حتى يستعيد الهدى الإلهي والنور المفقود …وهو ما يجب أن تتمركز حوله الجهود التربوية من أجل استعادة المركزية القرآنية في بناء الشخصية المسلمة كمكون رئيس ومركزي في بنائها التربوي والقيمي.. ..وتاريخ الإصلاح المعاصر بدأ  بذلك ..

ولكن جاءت فجوة الدولة القطرية وأفسدت ذلك بتقسيم التعليم إلى مدني وديني في إهمال تام لمكانة القرآن ودوره في البناء الحضاري الإسلامي..والحل الذي ندعو  له الآن هو استعادة هذا المسار مرة أخرى – أي مسار تجديد منهجية التعامل مع القرآن- واستئناف نشاطه في برامج التعليم المواز في الأمة.

التدبر: منهجية فعالية القرآن

دائما نذكر أن التعامل مع القرآن لابد وأن يستند إلى ما بداخله من ضوابط وتوجيهات ، وتكون هي الإطار للاجتهاد العقلي لتطوير ذلك التعامل، وهذا أمر بدهي، فالعلوم المعاصرة [ على سبيل المجاز] تشترط فيمن يتعامل معها أن يكون على دراية بقواعدها ومناهجها وأدواتها التي تأسست بداخلها وتطورت معها، وهذا –أيضًا- أمر منطقي وموضوعي، إذ كيف نتعامل مع هذه العلوم دون دراية بأسسها وأصولها وفنون التعامل معها  كما قررتها في مراجعها وكتبها الرائدة.

ذكرت لفظة القرآن في القرآن (50) مرة، أما فيما يتعلق بطريقة التعامل معه فكانت حول أربعة معان:

الأول: (التدبر) وقدر ورد هذا المعنى في موضوعين : { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } [النساء – 82]، {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد – 24] ..ويقصد بالتدبر – كما جاء في المعاجم والقواميس والتفاسير- الفهم، والتفكر أي فهم القرآن، والتفكر فيه ليعرف به المؤمنين الحق من الباطل، و-أيضا- التأمل، وتصرف القلب بالنظر، والتعرف على الحجج والأدلة والتتبع، والتعقب وراء الظاهر، والتبصر، وإدراك المعاني الكامنة.

والمعنى الثاني: (مدكر) وقد ورد هذا المعنى في أربعة مواضع{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [القمر –17، 22، 40،32] . ويقصد ب”مدكر ” الاتعاظ، والعبرة، والتذكر، والدرس، والتعلم.

والمعنى الثالث: (الترتيل) ورد هذا المعنى في:

{كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [٣٢ الفرقان]، {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [٤ المزمل]. بمعنى سهولة الكلمة واستقامتها من الفم، و-أيضا- يعني: الترسل، والتثبت، والتبيين والتفسير.

والمعنى الرابع ( العلم) وقد ورد هذا المعنى في موضوع واحد {عَلَّمَ الْقُرْآنَ}[ الرحمن:2]، والعلم مطلقًا إدراك الشئ على حقيقته، ولا يمكن حصره هنا على القراءة أو تعليم القراءة وفقط كما جاء في بعض التفاسير.

هذه الشبكة من المعان حول طريقة التعامل مع القرآن من داخل القرآن نلاحظ في صدارتها الأفعال العقلية وإعمال العقل عند التعامل مع القرآن : التذكر، والتأمل والتفكر، والتبيين، والتفسير، والتبصر..و..و… كلها من وظائف العقل ويمكن إجمال الطريقة الشاملة لهذه المعان بـ”التدبر” وهو ما عنونَّا به هذه السلسة من المقالات ” منهجية تدبر القرآن.

أهداف طرح منهجية تدبر القرآن

في ضوء ما سبق جاءت فكرة طرح “منهجية تدبر القرآن”،..ويمكن تحديد الغايات النهائية أو الكبرى لهذا المشروع فيما يلي:

1 – تفعيل ” المنظومة القيمية القرآنية” في نموذج حضاري فاعل في حياة المجتمع والأمة، وذلك بتجسدها في الإنسان المسلم.

2 – أن يمتلك العقل المتعامل مع القرآن الأدوات المنهجية والوسائل التي تمكنه من استنهاض ” المنظومة المعرفية القرآنية” لتحقيق مقاصد الاستخلاف، الحرية، والتوحيد، والعدل، والتزكية، والعمران.

3 – استعادة الجذوة التصورية والمعرفية والمنهجية للقرآن في واقع الأمة والواقع الإنساني.

4 – تنشئة نموذج الإنسان المتدبر للقرآن (على مستوى الفرد والجماعة)؛ بما يحقق التعامل الإنساني الرشيد مع القرآن، والتفاعل العميق مع أبعاد التنـزيل.

5 – الوصول بالفرد والجماعة إلى المعرفة التي تؤدي إلى العمل بالمعاني المستفادة من تدبر النص القرآني.

القواعد الكلية للتعامل مع للقرآن

ومن هذا الهدف ننطلق في حلقات طرح جديد – بإذن الله- هو ( مقدمات في منهجية تدبر القرآن)

نطرحها انطلاقًا من قاعدتين أساسيتين هما:

أ – القراءة باسم الله

يحدد القرآن طريقة قراءته وذلك في أول سورة ( العلق) {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ }فهذه المنهجية تحدد أن القراءة يجب أن تكون: أولًا: باسم الله، باسمه هو فقط ..والمترتب على ذلك أن تكون القراءة وفقًا لهذا المحدد مبدئيًا ومطلقًا باسم الله وفقط، وأن منهجية ( القراءة) يجب أن تكون من داخل القرآن ذاته..وأنه لا معنى للمناهج المشوشة والمخالفة التي أرادت أن تقرأ القرآن بغير تلك المنهجية ( أي بغير اسم الله) فسقطت ولم تحصل منه على غايته الأساسية وفائدته المرجوة للبشر وهي ( الهداية) {ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ  فِيهِ  هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [ البقرة:2].

ولهذا فإن المناهج الاستشراقية – التي تعاملت معه باعتباره كتابًا بشريًا لا إلهيًا- التي تعاملت مع القرآن بغير هذا المنهج، أو المناهج المستغربة من داخل الأمة هي كلها مناهج مشوشة،أو حتى تلك المناهج التي رأت في القرآن كتاب (إعجاز علمي) أو كتاب ( أدب) أو (تاريخ)، كلها لم تستطع أن تحصل على هدايات القرآن ولا أن تقدمه على حقيقته باعتباره كتاب هداية للناس..أو نقطة انطلاق لفهم العالم وهدايته.

وهذه القراءة باسم الله تؤدي إلى تحقيق غايات نزول القرآن ذاته وهي أنه يحقق للنفس والمجتمع : الشفاء، الهدى، العلم، الإنسجامية، الإرشاد، الصلاح، العصمة.

 

ب – الشمولية أو الوحدة البنائية أو كل ما هو نقيض القراءة التفتيتية للقرآن

القرآن أنزل جملة واحدة ومرة واحدة ، من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا،{ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}[ البقرة:185 ]، ثم نزل على صدر النبي متفرقًا لحكمة أعلنها الله تعالى{ كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [ الفرقان:32]. وعلى ذلك فالمنهجية الراشد للمسلم هي أن يتعامل مع القرآن جملة واحدة، ولا يتعامل بالطريقة التجزيئية حتى يستطيع الوصول إلى الفهم والتدبر السليم، ولهذا ظهر ما يعرف بالتفسير الموضوعي وهو الذي يحقق كثيرًا من هذا المعنى، فالقرآن يفسر بعضه بعضًا، والقضايا والموضوعات لا يمكن النظر إليها في القرآن إلا بصورة متكاملة، ومن ثم لا يمكن الوقوف على آية أو بضع آيات في حكم ما أو قضية ما والتغاضي عن باقي القرآن في ذات القضية، وكذلك إن هذه النظرة الشاملة للقرآن تجعل العقل المسلم يتجاوز النظرة الفقهية التي ينظر بها البعض للقرآن على أنه كتاب أحكام أو تشريعات وفقط، لتمتد تلك النظرة إلى قضايا التربية والسياسة والثقافة والاجتماع.

إن النظرة الشاملة والكلية للقرآن تساعد في فهم الواقع وإدراك السنن في الكون والطبائع والنفوس، كما أنه يتيح الوصول إلى أطر عامة حاكمة لحركة الإنسان والمجتمع والتاريخ. إن المعاني الكبرى في القرآن لا يمكن الوقوف عليها من خلال القراءة التجزيئية ، فالتوحيد، والاستخلاف، والعمران، والخير والشر، والحسنة والسيئة، والتداول، والنصر والهزيمة، والدعوة، والإصلاح، والإيمان والكفر..هذه المعاني وغيرها لا تؤدي إليها الطريقة المجتزئة المبتسرة للقرآن، فلا بد أن يكون القارئ المتدبر يشبه الطائر المحلق في السماء في التلقي واستقبال المعاني القرآنية من خلال القراءة الواعية الراشدة، التي تحيط بالمعنى البعيد والكامن من خلال الإحاطة بالمضمون الكلي للمعاني القرآنية والغاية الكبرى للقرآن ذاته.