ما مصير مكتبات العلماء بعد رحيل أصحابها كان السؤال الذي شغل الباحث الأردني أحمد العلاونة في كتابه ( مكتبات العلماء العرب المعاصرون ومآلاتها) الذي تحدث فيه عن مكتبات الكتاب والمفكرين العرب وبين مصائرها  بعد رحيل أصحابها.

صدر الكتاب عام 2011 عن دار البشائر الإسلامية بالكويت في 304 صفحة، وهو مصنف على هيئة تراجم، بحيث رتبت أسماء العلماء على الحروف الأبجدية بحيث يشار إلى الحرف ثم الأسماء المنضوية تحته، وبهذا المعنى فإن المؤلف عزف عن الترتيب الموضوعي الذي يكون إما حسب التخصص العلمي، أو الأصل الجغرافي، أو المعتقد الديني أو الجنس وآثر الترتيب الأبجدي متبعا في ذلك طريقة التأليف التراثية العريقة.

لماذا الاهتمام بمكتبات العلماء ؟

افتتح الكتاب بمقدمة أوضح فيها المؤلف طبيعة مكتبات العلماء ميزاتها وآفاتها، وأجاب خلالها عن دواعي اهتمامه بمكتبات العلماء وهل تستحق أن يفرد لها كتابا، وذكر في ذلك أن “مكتبات العلماء ليست كبقية المكتبات فكُتبها منتقاة بعناية، ويتخير لتجليدها أفخم أنواع التجليد، وإذا كان للكتاب أكثر من نسخة فغالبا ما تجد فيها أفضلها، ثم إنها تضم نفائس الكتب المطبوعة والمخطوطة …. وإن أهم شيء يميز مكتبات العلماء تعليقات وحواشي كتبها التي تكون تعبيرا عن رأيهم العلمي سواء أكان ذلك نقدا أم شرحا أم أضافة أم توضيحا… فبعض الكتب -خصوصا دواوين الشعر القديمة- قد قامت على تصحيحات العلماء وتعليقاتهم التي قيدوها، وأي خدمة للكتاب أفضل من التعليقات؟ فالتعليقات نوع من التأليف”.

أما آفة هذه المكتبات -كما يوضح- فتظهر بعد وفاة أصحابها حيث تلقى إهمالا من الورثة الذين يتخلصون منها بشكل مهين أو يبيعونها لتجار الكتب، ويصل الأمر في بعض الحالات إلى تقطيع أوصال المكتبة بتوزيعها على الورثة، ولأجل هذا يدعو المؤلف كل عالم أن يقرر بنفسه مصير مكتبته لئلا تبدد بعد وفاته، كأن توقف على جهة بر أو تهدى لمؤسسة علمية أو تتاح لعموم القراء. 

 خطة الكتاب

أشار المؤلف -في أسطر معدودات من المقدمة- إلى خطته في إعداد الكتاب وهي البدء بترجمة صاحب المكتبة، ووصف مكتبته وما تحويه- إن تيسر له ذلك- ثم ذكر مآل المكتبة، واستطرد أن بحثه يقتصر على المكتبات التي أوقفت أو أهديت أو بيعت ولها وجود أو احتفظ الورثة بها ولم تزل موجودة، أما المكتبات التي تفرقت أو اندثرت أو لا يعلم مصيرها فلا تدخل في نطاق بحثه.

ورغم وضوح خطة الكتاب فإننا نعتقد أن الأستاذ العلاونة كان عليه أن يقدم المزيد حول الكتاب، فهو لا يشير إلى عدد المكتبات التي تتبعها، ولا يوضح معايير اختيار العلماء وبعبارة أدق ما هو تعريفه للعلماء، لأن بعض من شملهم الكتاب ليسوا علماء مثل الفنان فتوح نشاطي وهو ممثل ومخرج مسرحي مصري، وحسين بيكار فنان ورسام مصري، والأستاذ عوني عبد الهادي وهو سياسي أردني، وأخيرا فإنه لا يشير إلى النطاق الزمني الذي يندرج في إطاره الكتاب، وماذا يعني لفظ ” المعاصرون” على وجه الدقة لأن بعضهم رحل منذ ما يربو على قرنين، وإزاء هذا فإننا سنقوم بتقديم معلومات وتحليلات حول مادة الكتاب.

  • تناول الكتاب 290 مكتبة، وبعضها يخص مكتبات رموز تيار النهضة الإسلامية الطهطاوي ومحمد عبده وجمال الدين القاسمي وطاهر الجزائري وعلال الفاسي وغيرهم، وبعضها يخص مكتبات أدباء مثل المازني ويحيى حقي، وبعضها يخص علماء شريعة أمثال الأشياخ محمد بخيت المطيعي وحسونة النواوي والفاضل بن عاشور، ومكتبات محققين ومؤرخين مثل عبد السلام هارون وعيسى المعلوف.
  • مراعاة التنوع، فالكتاب يشير إلى مكتبات أربع عالمات هن: بنت الشاطئ، سكينة الشهابي، نجلاء أبو عز الدين، سلمى الحفار، وهو يضم شخصيات من المشرق والمغرب على السواء، ومكتبات لأشخاص من عقائد مختلفة مسلمين (سنة وشيعة ودروز) ومسيحيين (أرثوذكس وكاثوليك وسريان ..).
  • الإطار الزمني للكتاب يمتد لأكثر من قرنين، وأقدم المكتبات تعود إلى السيد عمر مكرم المتوفى عام 1822م، غير أنه من الصعب تحديد المدى الزمني بدقة لأن المؤلف أدرج علماء لم يتوفاهم الله ضمن القائمة مثل الأستاذ المحقق بشار عواد معروف.

مكتبات العلماء ومصائرها

عرف الكتاب بعدد ضخم من مكتبات العلماء الشخصية وأوضح بعضا من المصير الذي لاقته المكتبات، ويمكن أن نتخير من بينها النماذج التالية:

  • مكتبة رفاعة الطهطاوي: وهي مكتبة زاخرة بالمخطوط والمطبوع، وفيها نوادر وفرائد من المخطوط مثل (الفصيح) لثعلب، كتب عام (389ه) وهو من أقدم المخطوطات في العالم، وتحوي مؤلفات كتبت بخطوط مؤلفيها مثل منظومة (الجامع الكبير لابن إسحاق)، وقصيدة (ذات الحلل) للسخاوي، و(فوات الوفيات) لابن شاكر الكتبي، وفيها نوادر من المخطوطات يصعب وجود نسخة أخرى منها مثل (مجموعة رسائل محمد بن يوسف الأنطاكي) و(تاج العروس) لابن عطاء الله السكندري، وقد أهداها حفيده عام 1958 إلى مدينة سوهاج ووضعت في مبنى خاص كتب عليه (مكتبة رفاعة الطهطاوي)، وأعد لها يوسف زيدان فهرسا في ثلاث مجلدات.
  • مكتبة طاهر الجزائري: جمع الشيخ خزانة كتب عظيمة حوت بضعة آلاف مجلد، ضمت أمهات ونفائس ومعظمها مخطوط، نقل أغلبها إلى القاهرة عندما رحل إليها، واشتراها منه أحمد تيمور باشا صاحب الخزانة التيمورية، ولعل الشيخ كان في حاجة إلى بعض المال بعد تضييق السلطات عليه بالشام، أما القسم المتبقي منها بدمشق فقد آل إلى الخزانة الظاهرية ومنها إلى مكتبة الأسد، ويوجد بها 28 دفترا كتبه بخطه فيها مذكرات وتراجم وفوائد مما رآه ودونه ولم ينشر. 
  • مكتبة الطاهر بن عاشور، وهي مكتبة عامرة ورث الشيخ بعضها عن جده لأمه محمد عبد العزيز بوعتور، وزاد عليها هو وابنه محمد الفاضل حتى فاق عددها الأربعة آلاف كتاب منها نحو مائة وألف مخطوط، وبعضها يحمل إهداءات أصحابها أو تعليقاته عليها، وقد أعد لها الشيخ فهرسا بخطه، وآلت المكتبة بعد وفاته إلى ابنيه عبد الملك وعبد العزيز، وهما يفتحان المكتبة أمام الراغبين في الاطلاع.
  • مكتبة فيليب دي طرازي، وهو مؤرخ لبناني مرموق أرخ لبدايات الصحافة العربية، كان مولعا باقتناء الكتب والدوريات وجمع مكتبة ضخمة ضمت نحو عشرين ألف كتاب وثلاثة آلاف مخطوط ونسخ من أوائل الدوريات العربية، أهدى مكتبته إلى الدولة اللبنانية فكانت نواة مكتبة بيروت الكبرى التي أسسها عام (1921)، وصارت (دار الكتب اللبنانية) فيما بعد وتم تعيينه أمينا عاما لها، بيد أن المكتبة تضررت من الحرب الأهلية اللبنانية حيث نهبت خلالها بعض محتوياتها من المخطوطات وأوائل الدوريات.
  • مكتبة رمضان عبد التواب: وهو عالم لغويات ومحقق مصري، كانت له مكتبة تضم بضع آلاف من الكتب تمتاز بالطبعات الأولى الأصلية، وعلى بعضها إهداءات مؤلفيها أو محققيها، وقد بيعت مكتبته بعد وفاته إلى مكتبة ابن القيم بالرياض وهي مكتبة تجارية، وقد اشترت منها مكتبة الملك فهد الوطنية الكتب الأجنبية والرسائل الجامعية التي أشرف عليها ومدون بها ملاحظاته وتعليقاته، وتبلغ نحو 250 رسالة.
  • مكتبة محمد حسين كاشف الغطاء، وهو مجتهد شيعي عراقي جمع مكتبة ضخمة أوقفها على مدرسة كاشف الغطاء بالنجف، ومن أشهر ما احتوت عليه هذه المكتبة (الأنوار النبوية في صحاح الأخبار المصطفوية) للحسن بن محمد الصاغاني مخطوط يرجع خطه إلى سنة 692 هـ، و(شرح المعالم) في أصول الدين لمؤلفه فخر الدين الرازي مخطوط سنة 801هـ.
  • مكتبة عبد السلام هارون: وهو علم من أعلام تحقيق التراث، كانت له مكتبة ضخمة حافلة بالتعليقات والتصحيحات، تدل على أنه كان يقرأ بتمعن، وكانت له عناية فائقة بالمحافظة على الكتب النادرة وتجليدها واختيار الألوان المناسبة، وتضم المكتبة آلافا من المصنفات التراثية الباكرة والكتب التي حققها المستشرقون الأوائل، وعلى كثير من كتبها إهداءات بأقلام مؤلفيها، ابتاعتها بعد وفاته مكتبة الملك فهد.
  • مكتبة المحدث ناصر الدين الألباني، كان الشيخ كلفا بالكتب وجمع مكتبة حوت نحو سبعة آلاف كتاب، أوقفها على الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ووضعت في مكان خاص، وجمع الدكتور جمال عزون الإهداءات على كتب مكتبته في كتاب (حصول التهاني بالكتب المهداة إلى محدث الشام الألباني) وأعد الدكتور مشهور حسن تعليقاته على الكتب في مجلدين.
  • مكتبة عادل جبر، وهو صحفي فلسطيني أسس جريدة الحياة عام 1930، وكانت له مكتبة استولى عليها اليهود بعد النكبة وآلت إلى الجامعة العبرية بالقدس.
  • مكتبة الحبيب اللمسي، صاحب دار الغرب الإسلامي، كان جماعة للكتب جمع مكتبة نفيسة قل نظيرها فيها نوادر المطبوعات الأوروبية للكتب العربية، وفيها نوادر الدوريات العربية بكامل أعدادها، وقيل إن مكتبته تربو عن السبعين ألف مجلد جميعها نسخ أصلية وليست مصورات، وهب مكتبته لدار الكتب الوطنية التونسية ونقلت إليها عام 2017 في احتفال نقلته وسائل الإعلام الرسمية التونسية.

تبين هذه النماذج بعضا من حفاوة العلماء العرب بمكتباتهم التي حوت نوادر ونفائس، وأوضحت اختلاف مصائرها، فبعض المكتبات صارت جزءا من المكتبات الوطنية عن طريق الإهداء، والبعض أوقف على طلبة العلم، والبعض باعه الورثة مقابل مبلغ من المال قل أو كثر، والبعض احتفظ به الأهل بعد الوفاة.