بعث النبي صلى الله عليه وسلم ليتمم مكارم الأخلاق ويرشد إلى معالي الأمور، ومن مكارم الأخلاق ومعاليها: الأدب في الخطاب، وتجنب البذاءة وما فيه فحش من القول، وهذا من مظاهر الجمال، ودلائل الكمال، في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وحسن الشريعة التي جاء بها.

قال تعالى: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ التي هِيَ أَحْسَنُ}، سورة الإسراء الآية 53. أي قل أيها الرسول وعلِّم الناس أن يقولوا الكلمة الطيبة، وأن ينطقوا دائما بالحسنى، على وجه الإطلاق وفي كل مجال فيختاروا أحسن ما يقال ليقولوه.

والمتأمل في نصوص السنة يجد الحث على الكلمة الحسنة، والطيبة، واللينة؛ لأن “الكلمة- فى الواقع- ليست مجرد حروف مرسومة، أو أصوات مسموعة، وإنما هي رسل هدى ورحمة وخير، أو شياطين غواية وضلال وبلاء.!

ومن أجل هذا، كان احتفاء الإسلام بالكلمة، وتقديره لها، وحسابه لآثارها ومعطياتها.. فقد عرف الإسلام للكلمة قدرها وخطرها في تفكير الإنسان، وفى سلوكه.. إذ كانت كل ثمرات تفكيره، من مواليد الكلمة، وكان سلوكه، من وحي هذا التفكير ومتطلباته.”[1]

والدليل على ذلك ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: خَبُثَتْ نَفْسي، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: لَقِسَتْ نَفْسِي»[2]

فخبُثت ولقِسَت معناهما واحد، لكن “خبُثت” بها فحش ينافي الحسن، وقبح ينافي الطيب، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم لفظ الخبث؛ لبشاعته، وأرشدهم إلى العدول إلى لفظ هو أحسن منه، وإن كان بمعناه تعليمًا للأدب في المنطق، وإرشادًا إلى استعمال الأحسن، وندبا إلى هجر القبيح من القول، كما أرشدهم إلى ذلك في الأخلاق والأفعال.

فالنبيّ -صلوات الله وسلامه عليه- يأخذ المسلمين بأدب الكلمة، ويحمى ألسنتهم من أن تعلق بها هذه الكلمات السيئة، فتتخلّق منها مشاعر خبيثة.[3]

وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أعف الناس قولاً، وأجملهم منطقاً، قال ابن القيم: ” كان يتخير في خطابه ويختار لأمته أحسن الألفاظ وأجملها، وألطفها، وأبعدها من ألفاظ أهل الجفاء والغلظة والفحش “.[4]

فلينزه المرء عن الألفاظ لسانه، ولا يضيفها إلى نفسه، وليعود لسانه الكلام الحسن كي يكون عادة له وسجية.

والقباحة في اللفظ قد تحدث من استعماله في الموارد القبيحة، كالبليد، فإنه لا يوازي الحمار في الشناعة، مع أن المراد منهما قد يكون واحد ولهذا لو وصفت شخصا بالبلادة أو قلة الفطنة والذكاء ربما لا يغضب منك كغضبه فيما لو قلت له أيها الحمار لأن الوصف بالحمار فيه بشاعة.[5]

وليس المنهي عنه في وصف النفس بالخبث عدم الصدق فيها، بل هو توجيه وإرشاد إلى جمال اللفظ، وحسن التعبير، وعفة المعنى ليكون قول المؤمن حسنا وفعله حسنا. فالكلمة الطيبة تأسُو جراح القلوب، تندي جفافها، وتجمعها على الود الكريم والشيطان يتلمس سقطات فم المرء، وعثرات لسانه، والكلمة الطيبة تسد عليه الثغرات، وتقطع عليه الطريق، “.[6]

وقد قال صلى الله عليه وسلم: «وَالكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ»[7] أي أن المتكلم بالكلام طيب كالمتصدق بالمال. لفضل الكلمة الطيبة عند الله ومنزلتها في الإسلام. وما أقل كلفتها على اللسان.

والكلمات هي الرصيد الذي يملكه الإنسان، وينفق منه.. لهذا كان من تدبير الإسلام حراسة الإنسان، من أن تدخل عليه كلمات السوء، فتسكن فى كيانه، وتتحول إلى كائنات حيّة تعيش معه، وتوجه سلوكه.. فتتخلّق منها مشاعر خبيثة.[8]

وخطاب المرء دليل على شخصيته وينبئ عن مكنونه كما قال زهير بن أبي سلمى:

وَكَائن تَرَى مِنْ صَامِتٍ لَكَ مُعْجِبٍ** زِيَادَتُهُ أَو نَقْصُـــــهُ فِي التَّكَلُّمِ

لِسَانُ الفَتَى نِصْفٌ وَنِصْفٌ فُؤَادُهُ ** فَلَمْ يَبْقَ إَلا صُورَةُ اللَّحْمِ وَالـدَّمِ.

وإنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه، ولأهمية الكلمة واعتبارها مقياسا لمكنون المرء يقول يحيى بن معاذ: ” القلوب كالقدور في الصدور تغلي بما فيها ومغارفها ألسنتها فانتظر الرجل حتى يتكلم فإن لسانه يغترف لك ما في قلبه من بين حلو وحامض وعذب وأجاج يخبرك عن طعم قلبه اغتراف لسانه.[9]

وفي حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ – رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ ».[10]

اعتنى السلف بموضوع “الأدب في الخطاب” وخصصوا له أبوابا في كتبهم ومنهم من أفرده بالتأليف ولذا نجد الإمام مسلم بن الحجاج في كتابه الصحيح عقد كتابا بعنوان “كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها ” ، وألف ابن أبي الدنيا كتابا بعنوان “الصمت وآداب اللسان” ، ومن المتأخرين ألف بكر أبو زيد كتابه  “معجم المناهي اللفظية” وغيرها كثير.


[1] – التفسير القرآني للقرآن عبد الكريم الخطيب 7/176.

[2] – رواه البخاري رقم: (6180)، ومسلم: (2251).

[3] – الطرق الحكمية لابن القيم،  ص: 41.

[4] – زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم:  2/ 352.

[5] – فيض الباري على صحيح البخاري لمحمد أنور شاه 6/174.

[6] – في ظلال القرآن  لسيد قطب 4/ 2234.

[7] – البخاري حديث رقم 2989 – ومسلم حديث رقم : 1009.

[8] – التفسير القرآني للقرآن مصدر سابق.

[9] – حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم 10/63.

[10] – أحمد حديث رقم: 13071. وصَحِيح التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيب حديث رقم: 2554.