“من يفقد القدرة على الصعود، لا يملك الا أن يهوي بتأثير جاذبية الأرض” [1] قاعدة تنطبق على المحسوسات كلها، وكذلك على المعنويات، فالإنسان إذا لم يستطع الصعود إلى أعلى، بما أُودِع فيه من قوة روحية، فإنه يهبط إلى أسفل، إلى المادة بقانونها، وخواصها، والإنسان المعاصر قد يبدو أكثر تحضرا في مظهره ونمط معيشته، لكن روح التحضر وأخلاقه لم تتعمق في ذاته، فغابت أخلاق عن حياته، أهمها الرفق النابع من الداخل، والمتجلي في السلوك والممارسة مع جميع الموجودات.

منذ سنوات سجل تقرير لمنظمة الصحة العالمية تقريرا أن جرائم القتل العمد في العالم، تزيد على (651) ألف جريمة عام 2017، وفي تقارير دولية أخرى تحذيرات من حالات الاعتداء المخيفة على الأشجار واقتلاعها، نتيجة النمط الاستهلاكي المتنامي ، والذي فاق جميع القرون التي مضت من تاريخ البشرية.

وفي العام 2022 وحده أنتج الإنسان نفايات الصلبة قدرت بـ2.01 مليار طن، ويتوقع أن يزيد هذا الرقم إلى 3.4 مليار طن عام 2050، والولايات المتحدة وحدها تنتج 12% من تلك النفايات، رغم أن عدد سكانها لا يتجاوز 5% من سكان العالم، وفي الولايات المتحدة يُقتل حوالي (100) مليون حيوان سنويا في هواية الصيد، وفي دولة “بوتسوانا” يقتل الصياديون حوالي (35) ألف فيل سنويا، وتشير إحصاءات أنه منذ العام 1990 حتى الآن مات (50) مليون حيوان بسبب التعذيب.


عـــدوان التشيؤ

ولكن لماذا غاب الرفق عن الحياة المعاصرة، ومن أن أين تفجرت تلك المنابع من القسوة؟

في العام الماضي طرح مختصان في الفلسفة هما ” مايكل نيلسون” “كاثلين مور” سؤالا : هل دمرت الفلسفة الغربية الأرض؟ وانتقالا من السؤال ليناقشنا حجم التجريف الذي يتعرض لها كوكب الأرض بلا رفق ولا توخي للعواقب، فالأفكار لها عواقبها الوخيمة، وأن الكثير من الفلسفة الغربية، الممتدة من اليونان القديمة حتى اللحظة الراهنة، أنتج شرا لا يوصف، وضربا مثلا بأن ثراء البعض يزداد بتمزيق الأشجار والمعادن في العالم، فهناك تواطؤ بين الصناعة والدول أديا إلى أزمات المناخ.

الثقافة الغربية-التي تهيمن رؤيته على غالبية العالم- أدت إلى تشيؤ الموجودات، فالرجل الأبيض بنظرته المتعالية إلى الآخرين والنظر إليهم كأشياء، جعلته يتمادى في القسوة عليهم، بلا وخز ضميري، وانتقلت تلك الرؤية لتعامله مع الكون فلم ينظر إلى الكائنات الحية نظر اعتبار ورفق، وأنه مخلوق، مثلها، وأن تلك المخلوقات أمم تستوجب الاحترام والرفق والمراعاة، وعدم العدوان.

وأكد الكاتبان أن “أولئك الذين ينتمون إلى النظرة الغربية ، قُدر لهم، أن ينشروا طريقتهم في جميع أنحاء العالم” ومنها أن الثروة سبيل السعادة، وأن الوسائل تبررها الغايات، وأن الاستهلاك سبيل للمتعة ، واندمجت تلك الأفكار مع القوة الميكانيكية للثورة الصناعة، وتحالفت معها، حتى أصبحت القسوة سلوكا اصيلا في التعامل مع كل شي.

و”تشييء الإنسان” [2]، يفقد الشخص القدرة على التمسك بإنسانيته، وبالتالي ُيحرم من غالبية حقوقه، ليصبح شيئا أو رقما، ومن هنا تبدا منابع القسوة في التفجر في التصورات والأفكار والسلوكيات والتعامل مع الإنسان والحيوان والطبيعة، وقد حاولت الفيلسوفة الأمريكية مارثا نوسباوم Martha Nussbaum تحديد مجموعة من الخصائص لحالة “التشيوء”: منها: التعامل مع البشر كأدوات، ورفض فكرة الاستقلال والذاتية، والتملك، والتسليع، أي يصبح لكل شيء مقابل مادي، وتبرير واستخدام العنف.


ومن ثم تصبح القسوة متأصلة في البنى الاجتماعية والثقافية، وكذلك فإن تبرير العنف واستخدامه يُبقي على علاقات الخضوع والاذلال قائمة، لتصبح القسوة وتغييب الرفق هي سمة التفاعل بين الإنسان وجميع الموجودات بما فيهم نظرائه من البشر، ومن مظاهر هذا التشيوء تنامي النزعة الاستهلاكية المفرطة، لتصبح قيمة الإنسان بما يستهلكه ويستخدمه، ومع هذه النقطة تطفو المادية بفلسفتها لتهيمن رؤيتها على الجميع.


فلسفة القسوة

الفلسفة المادية تبرر القسوة، وترى في الرفق منهجا لا يحقق النمو والثراء السريع والمتراكم، كما أنها لا تنظر إلى الضحايا؛ بل ترى أن وقوعهم نتيجة الاستغلال والعنف هو أمر طبيعي ومبرر، وهي بذلك تحمي نفسها من أية مشاعر إنسانية قد تتسرب إلى قلبها مع رؤية الضحايا أو آثار القسوة حوله، وبذلك تبتعد بقدر تبريرها للقسوة عن إنسانيتها ، فيغيب الشعور بالذنب، بعدما شُيدت جدران عالية تحول بين القلب والرحمة، لذلك تلجأ القسوة إلى تفكيك كل ما هو أخلاقي ، لتوقظ الوحش المخيف الذي يتلذذ بالقسوة وممارسة العنف، وهذا المفهوم له امتداداته في التراث الإنساني، وربما عبر عن الوزير العباسي “محمد بن الملك الزيات” بقوله:” ما رحمت أحدا لأن الرحمة خَوَرٌ في الطبع” وكان يوصف بأنه قاسي القلب غليظ الكبد، يتلذذ بالقسوة والتعذيب، ولذلك فغياب الرفق، وحضور القسوة يفسد الشخصية، ويغيب فضيلة التوازن بين الأخلاق في النفس البشرية، لتتحول القسوة إلى مرض لا ينفك عن الشخصية، وهو ما يعرف بـ”السادية” والتلذذ بتعذيب الآخرين، لذك تجد بعض الأشخاص يتلذذون بالإفساد وقتل الطيور وتقطيع الأشجار، وتشويه الجمال في الكون، لتصبح القسوة نزعة داخل النفس تمارس باعتياد وتلذذ وبلا نهاية أو مراجعة ذاتية.

ومع تحول القسوة إلى مرض في الروح، يقضم كل لحظة من إنسانية الإنسان، تتحول إلى مرض بلا علاج، وما أروع التوصيف النبوي لتلك القسوة المترسخة في نفوس البعض، في حديث الترمذي قوله :” لا تُنْزَع الرحمة إلا من شقيّ” وحديث، ” وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي “، وفي الحديث الذي رواه ابن “حبان” أن أعرابيا جاء إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: أتُقبِّلونَ الصِّبيانَ ؟ فما نُقبِّلُهم. فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: “وما أملِكُ لك أنْ نزَع اللهُ الرَّحمةَ مِن قلبِك”، فنزع الرحمة شقاء مبين، يشقى به الإنسان، ويُشقى به من حوله من الموجودات.

سنن الاجتماع الإنساني تؤكد أن أي قسوة لا تمر دون آثار، فتنمية القسوة في المجتمع تعود على المجتمع بالجرائم المروعة، وتنمية الشره الاستهلاكي، ومشاهد تعذيب الحيوان ترجع إلى المجتمع في ممارسات خرقاء مخيفة، لذلك نمى الإسلام نزعة الرفق في المسلم لتصبح منهجها حياتيا، فعندما وجد النبي ، بعض أصحابه أخذ فرخين لطائر، وبدا الذعر على الطائر ، قال :” مَن فجعَ هذِهِ بولدِها ؟ ردُّوا ولدَها إليها ” أي: مَنْ أَحْزَنَها وخوَّفَها بأَخْذِ صِغارِها؟ وهو لفت لنظر المسلمين، إلى أن هذه الطيور والحيوانات، تعرف الفجيعة، ولها عواطف يجب احترامها، وعدم التعدي عليها، والرفق بها، وألا تُستخدم القسوة معها، وأنها ليست مجالا للعبث، ولذلك كان الفيلسوف المغربي “طه عبد الرحمن” يقول أن ” شرف الإنسانية في الإبقاء على ألبستها المعنوية ” ومن ألزم تلك الألبسة بالإنسان هي الرحمة والرفق.


[1] مقولة لمالك بن نبي

[2] (التشييء ) هو مفهوم فلسفي يعني تحول العلاقات بين البشر إلى ما يشبه العلاقات بين الأشياء علاقات آلية غير شخصية ومعاملة الناس باعتبارهم موضعا أشياء مجردة قابلة للتبادل.