لابد لنا أن نفرق تفريقا جليا بين معنى أزمة القيم في الدوائر الثقافية المتعددة، فأزمة القيم في الغرب تعني أن الإنسان لم يعد يعرف ما الذي يعنيه بكلمة القيم، خاصة بعد سيادة ثقافة النّهايات، نهاية الإلزام الديني ثم نهاية الإلزام العقلي، فأزمة القيم هنا تعني أن الغرب يعيش زمن تلاشي المرجعيات وسيولة المعايير، أزمة القيم في صميمها تعني الفراغ الأخلاقي وفقدان الأسس، وفي هذا السياق يقول ميشيل ميتايير أحد فلاسفة الأخلاق المعاصرين ” نحن نَعيش في حقبة، باتت فيها القيم الأخلاقية تثير أسئلة صعبة، ونشهد أيضا تحولات اجتماعية وثقافية كبيرة، تُغرقنا في اللاّيقين، يجب علينا رفع هذه التحدّيات ومواجهة المشكلات الخفية، ومع هذا كلّه، فإنّه لا يلوح لنا من أجل تحقيق ذلك (أي رفع التحديات ومواجهة المشكلات) أنّ بحوزتنا نظاما في القيم الأخلاقية صَلبا ومتناسقا.

ومؤدى هذا الإقرار فيما يخص أزمة القيم، فقدان القيم العليا قيمتها، والإقبال على ثقافة المُتعية والنَّرجسية وإدمان اللّذات وفقدان القدرة على التحرر منها . أما أزمة القيم في سياقنا الثقافي، فهي تعني تمزق العلاقة بين القيم والواقع، فيما يمكن القول أنه أشبه بتعطيل القيم، التي لازالت ساكنة في علم المعنى و لم تنتقل إلى عالم الواقع، إن الأزمة لم تلامس القيم باعتبارها قيما هادية و سامية، وإنما تتمظهر في الانفصال بين القيمة و الواقع ، لأننا كما يقول المفكر الجزائري مالك بن نبي في تشخيصه للأزمة، أنَّ أزمتنا ليست جوهرية، أي تلامس روح الثقافة وقيمة القيم العليا، وإنّما أسابها ظرفية ترجع إلى التاريخ، أما الغرب فأسبابه جوهرية و ليست تاريخية.

هذا هو معنى أزمة القيم : فقدان القيم قيمتها في السياق الغربي، وانفصال القيم عن حركة الواقع و التاريخ في السياق الثقافي العربي الإسلامي . وإذ تقرر هذا، فإنه يجدر بنا صرف السعي إلى القول بأن أزمة القيم كما يعيشها الغرب قد انعكست علينا، وباتت ثقافتنا تعيش لحظة “الامتصاص الثقافي “، أي رغبة قطاع من قطاعات المجتمع في أن يكون مثل الشباب الغربي في زيه ونحلته وسائر عوائده، و علّة هذه الرغبة، نتلحَّظه في ثورة الإعلام و الاتصال، التي حوَّلت الإنسان الغربي إلى إنسان رحَّال أو إلى مثال خلقي ونموذج ذهني، إن أزمة القيم كما يعرفها الغرب تتسلل لواذا إلى ثقافتنا، وتزحف كي تدمر القيم العليا التي هي عنوان الإنسانية الحقيقي، إن علاج أزمة القيم عندما يكون متعددا ومتراتبا: القيمة مثل البذرة تغرس في تربة الوجدان من الطفولة، ويجب أن تُتَعَهَّد بالإنماء والتقوية، ولكل مرحلة عمرية منظومة قيم خاصة بها، لأن الإنسان إذا أهمل في بداياته، فمن الصَّعب أن يتحقَّق بالقيم في مراحله العمرية مستقبلا، إن القيم الأخلاقية تنمو وتقوى وتثبت وترسخ بالعمل والفعل، و ليس بالقول و الكلام الذي لا ينتج أثرا، الغرب يعمل بالقيم المنفعية التي هي عماد فلسفته في الحياة، يعمل بها لأنها ضرورية وعماد نجاحه .

أما نحن فنعيش أزمة حادة بين قولنا وفعلنا، بينما الحقيقة هي أن الفعل ولو كان قليلا فإنه أجمل بكثير من اي مشروع نظري بقي في دائرة الإمكان، لقد غلبت الأهواء النفسانية على قلوبنا، فبتنا غير قادرين على الفعل و الحركة و النُّهوض، الفعل هو منطلق الحضارة ، وإذا ارتقى الفعل إلى مستوى أن يكون قيميا، فهو قد دخل المعنى الكمالي للإنسان، نحن لا نفعل أو لا نعمل بالقيم، لاعتقادنا بأنها غير ممكنة التحقق، ولا نريد أن نكابد ونبذل الجهد لأجل ذلك، ومن يعتقد أنه يأتي يومك تصبح فيه القيم شيئا يسيرا فعله من غير جهد أو إرادة، فإن ذلك النَّوع من الفعل لم يظهر في التَّاريخ ولم يخلقه الله أبدا، الوجود تنافس إما في طريق الخير، وإما في طريق الشر، ونحن ننتمي إلى ثقافة تجعل من قطبها البحث عن الحقيقة وإرادة الخير.

وبالتالي، فخليق بنا دوما بذل الجهد ونفي الفشل وإثبات الإرادة . ويجدر القول بعد هذا، إلى أزمة القيم كما باتت تظهر في وسائل التواصل الاجتماعي، افتقدنا أخلاقيات التواصل والتعامل والتعارف عبر الإنترنيت، باتت وسائل الاجتماعي تبث العنف وتشجع على الكراهية وتخلق التكتلات الثقافية التي لا نجني منها شيئا، فقد تعود بنا إلى نقاط الصفر التي لا تثمر شيئا. وأمام هذا، فإنه جدير بنا تعليم القيم، ليس القيم بعامة وإنما قيم التواصل الاجتماعي بأن نعيد العلاقة الممزقة بين القيمة و الكلام، فالكلمة مقدسة وحاملة لمضامين روحية ترتفع بالإنسان ، و ليست الكلمة مجرد ألفاظ أو كلام خال معنى المعنى وخال من المعاني الروحية الجليلة مثل : المحبة والتعارف والإحسان و الرحمة وغيرها . وأن نعيد أيضا في سياق إصلاح أعطاب هذه الحداثة الفائقة، نعيد لكلمة الحقيقة قيمتها، لأن السائد هو الاصطناع والخداع والزيف، فاستحال الواقع إلى إرادات قوى لا تبتغي الحقيقة، بل تبتغي القوة و الهيمنة.