من مظاهر إحسان وتيسير الله سبحانه عز جل، الإحسان و التيسير فى أحكام الصيام، فإذا نظرنا فى عبادة الصيام نجد بعض المشقة في ظاهرها، ولكن نجد الرفق كامناً بداخلها.
وكلما قلبنا النظر فى شعائر الإسلام وأحكامه تأكد لدينا إحسان الله علينا بأن يسر لنا هذا الدين، ووجدنا فى قلب التكاليف الرحمة كامنة. وما يمارس الإنسان عبادة من العبادات يوجد حرجاً ذات مرة أو مشقة إلا ويجد يد الإحسان اليسر تمتد إليه ورفع الحرج تخفف عنه بقدر حرجه.
وفقد خفف الله سبحانه عن أصحاب الأعذارفي رمضان وأباح لهم الفطر على هذا التفصيل:
المسافر والمريض: يقول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}(البقرة:183-184).
ويقول تعالى:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(البقرة:185).
في أحكام الصيام، والذي عليه الجمهور أن المرض الذي يرخص للمسلم أن يفطر فى رمضان، هو المرض الذى يبيح له التيمم مع وجود الماء، وهو ما إذا خاف على نفسه لو تمادى على الصوم أو خاف على عضو من أعضائه، أو زيادة فى المرض الذى بدأ به، أو تمادى فيه. وعن ابن سيرين: “متى حصل للإنسان حالة يستحق بها اسم المرض فله أن يفطر”(نقلاً عن ابن حجر:فتح الباري).
كذلك رخصة الفطر للصائم المسافر: إنما يقصد به السفر الذى تقصر فيه الصلاة، وفي مسألة أحكام الصيام لم ينص ﷺ على اشتراط المشقة فى إباحة الإفطار، وفى الحديث عن جابر رضى الله عنهما أن رسول الله ﷺ خرج عام الفتح إلى مكة فى رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه فشرب. ثم قيل له بعد ذلك: “إن بعض الناس قد صام. فقال: أولئك العصاة، أولئك العصاة”.
وفى لفظ: “فقيل له. إن الناس قد شق عليهم الصيام وإنما ينظرون فيما فعلت، فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب”(متفق عليه).
والتعبير – هنا – بقوله ﷺ (أولئك العصاة) إنما هو لمخالفتهم لأمره بالإفطار، وقد تعين عليهم، ويبنى ذلك على أن فعله يقتضى الوجوب ﷺ.
ويبين لنا الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله آثار الإحسان في الصيام في الدعوة فيقول: لما كان المقصود من الصيام حبس النفس عن الشهوات، وفطامها عن المألوفات، وتعديل قوتها الشهوانية؛ لتستعدَّ لطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها،وقبول ما تزكو به مما فيه حياتها الأبدية،ويكسِر الجوع والظمأ من حدتها وسَوْرتها، ويذكّرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين،وتضيق مجاري الشيطان من العبد بتضييق مجاري الطعام والشراب،وتحبس قُوى الأعضاء عن استرسالها لحكم الطبيعة فيما يضرها في معاشها ومعادها،ويُسكِّن كلَّ عضو منها وكل قوة عن جماحه، وتلجم بلجامه، فهو لجام المتقين،وجُنة المحاربين، ورياضة الأبرار والمقربين، وهو لرب العالمين من بين سائر الأعمال، فإن الصائم لا يفعل شيئاً، وإنما يترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده، فهو ترك محبوبات النفس وتلذذاتها إيثاراً لمحبة الله ومرضاته، وهو سرٌّ بين العبد وربه لا يطَّلِع عليه سواه، والعباد قد يطَّلِعون منه على ترك المفطرات الظاهرة، وأما كونه ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل معبوده، فهو أمر لا يطلع عليه بشر، وذلك حقيقة الصوم.
وعند الحديث عن أحكام الصيام، نجد أن للصوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة، والقوى الباطنة، وحميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة التي إذا استولت عليها أفسدتها، واستفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صحتها، فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها، ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات، فهو من أكبر العون على التقوى كما قال تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون}(البقرة:183).
وقال النبي ﷺ: “الصوم جنة“، وأمر من اشتدت عليه شهوة النكاح، ولا قدرة له عليه بالصيام، وجعله وِجاءَ هذه الشهوة.
والمقصود: أن مصالح الصوم لما كانت مشهودة بالعقول السليمة، والفطر المستقيمة، شرعه الله لعباده رحمةً بهم، وإحساناً إليهم، وحُميةً لهم وجُنّة.
ومن آثار الإحسان في الصيام وفي الدعوة ماروي في الحديث الصحيح عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالت: “كان ﷺ يحب من العمل أدومه.
وفى المأثور: قليل دائم خير من كثير منقطع.
من هذه النصوص يتضح لنا أن الدوام على الطاعة من أفضل العبادات، وأفضل القرب التى يتقرب بها العبد إلى ربه.
وكان النبى ﷺ نموذجاً تطبيقياً لهذا المعنى فى عباداته. ولأن هذا هو المنهج الذى يتناسب مع النفوس البشرية وطبائع الخلق، فقد بين النبي ﷺ، أن استخدام منهج التشديد على النفس، أو الناس فد يصيب النفس بالملل فتنقطع جملة واحدة عن الأعمال، فيخسر الإنسان الحد الأدنى من الطاعات، وتعظم خسارته لو طال به الحال على هذه الوتيرة ثم فاجأه الموت فلا هو أراح نفسه ولا هو بلغ فى الآخرة بغيته. وهذا ما نص عليه النبي ﷺ: “فإن المنبت لا أرضاً قطعاً ولا ظهراً أبقى”. ونرى ذلك واضحاً في نهى النبي ﷺ لعبد الله بن عمر عن الصيام الدائم، وإرشاده إلى الحد الأقصى من الصيام كراهة الملالة، فيقول : “أحب الصيام إلى الله صيام داود كان يصوم يوماً ويفطر يوماً”.
وأمر عبد الله بن عمر بصيام ثلاثة أيام فى كل شهر. فقال: أنا استطيع فاخذ يتدرج معه حتى أمره بصيام كصيام داود. “صم يوماً وأفطر يوماً”. ثم وضع له الحد الفاصل فقال: “ولا تزد”. لأنه بهذه الزيادة ينتقل بنفسه.