نشطت حركة تحقيق ونشر التراث العربي المخطوط نشاطا ملحوظا في العقود الأخيرة، وبفضلها تم إماطة اللثام عن عدة مخطوطات كشفت عن جوانب مجهولة من التراث أو على الأقل غير معروفة جيدا، ومنها مخطوطة ” نقد الطالب لزغل المناصب ” لابن طولون الدمشقي، وهي تندرج ضمن ما يسمى الكتابات النقدية لأن صاحبها تناول بالنقد كافة المناصب والمهن الموجودة في عصره، وهو ما يبرهن أن قواعد النقد الحديث ليست من وضع الغرب كما يتوهم البعض، وأن المسلمين كانوا أسبق إلى ممارسة النقد والتنظير له.

ابن طولون الدمشقي: حياته ومؤلفاته

هو محمد بن علي بن طولون الصالحي الدمشقي  (ت: 953هـ/ 1546م) المؤرخ المعروف الذي عاصر أواخر العصر المملوكي وأوائل العصر العثماني، يعود بنسبه إلى مؤسس الدولة الطولونية بمصر والشام، ولد بصالحية دمشق عام 880ه، ولد لأسرة ميسورة تعمل بالتجارة واشتغل نفر من أبنائها بالعلوم الشرعية كعمه جمال الدين بن طولون الذي شغل منصب مفتي دار العدل بدمشق، التحق بعد وفاة والده بالمدرسة الحاجبية، وكان نجيبا فتمكن ولم يتجاوز الرابعة عشر من عمره من حفظ المنار والجزرية و ألفية بن مالك و الأجرومية ، وأجازه شيوخ عصره كزين الدين العيني وابن قاضي عجلون، وتفقه على المذهب الحنفي واعتد به حتى وضع آراؤه في مصنفاته التاريخية والأدبية، كما ألم بمبادئ الطب والحساب والهيئة والطبيعة والهندسة.

انخرط في الحياة العملية فور انتهاء الطلب، وشغل بضع وظائف منها: تدريس العلوم الشرعية بعدد من مدارس دمشق، والإفتاء، والإمامة والخطابة، ونظارة أوقاف بضع زوايا، ومشيخة الخانقاة اليوسفية.

كان غزير التأليف إذ أحصى في ترجمته لنفسه نحو 750 مؤلفا جلها مفقود، وأكثرها ذيوعا مصنفاته التاريخية ومن أمثلتها: (مفاكهة الخلان في حوادث الزمان) وهي تاريخ حولي لمدينة دمشق في عصره، (إعلام الورى بمن ولي نائبا من الأتراك بدمشق الشام الكبرى)، و(الثغر البسام في ذكر من ولي قضاء الشام). وله مصنفات شرعية من مثل (شرح الشاطبية) و(الفهرست الأكبر من المرويات) وكلاهما مفقود، و(إعلام السائلين عن كتب سيد المرسلين)، وله أيضا مصنفات اجتماعية ومنها (تبييض الطرس بما ورد في السمر ليالي العرس)، و(فص الخواتم فيما قيل في الولائم)، و(نقد الطالب لزغل المناصب) وهو كتاب فريد في بابه لأنه سجل للمهن والحرف في عصره جليلها وحقيرها، وفيه يذكر واجبات صاحب كل مهنة وما يدخل عليه من تقصير وفساد، وهو بهذا المعنى يعد وثيقة تاريخية تصور كيف كان الناس يحيون في ذلك العصر وكيف كانوا يشتغلون ويتعاملون مع بعضهم البعض وهو ما يتعذر استخلاصه من مصنفات التاريخ العامة.

منهج الكتاب وتقسيماته

ليس هناك معلومات وافية عن الكتاب الذي حقق ونشر للمرة الأولى عام 1992، فمؤلفه لم يضمنه مقدمة توضح البواعث التي حملته على تأليفه، ومتى كان ذلك، ومنهجه في الكتابة، غير أننا نرجح أن كتب في مطلع العصر العثماني من بعض عباراته التي يظهر منها تحسر سلاطين وأمراء المماليك على زوال ملكهم، كما يتراءى لنا أنه اقتفى نهج السبكي في كتابه (معيد النعم) الذي سبقه في انتقاد ما يطرأ على كل مهنة من الخلل، ونقل عنه في في مواضع عدة.

اشتمل كتاب نقد الطالب على 121 مهنة ومنصب كانت موجودة أواخر العصر المملوكي وأوائل العصر العثماني، بعضها اندثر ولم يعد له وجود كالمهمندارية الذي يتولى أمور رسل الملوك، والدوادوارية أي حامل المحبرة للسلطان، وبعضها لم يزل موجودا كالإفتاء والوعظ والخطابة، وهذه المهن لم يقدم لها ابن طولون تصنيفا محددا وإنما سردها على نحو متسلسل كل واحدة تتلو الأخرى دون فواصل، غير أنه يمكننا تصنيفها إلى الفئات التالية:

  • المناصب العليا: وتضم الخلافة والسلطنة والولاة ونواب الولاة والوزراء والقضاء والحسبة وعمال الزكاة.
  • المناصب المساعدة: وهم القائمون على معاونة أولي الأمر: كالجقمدارية والدوادارية والبشمقدارية وغيرهم.
  • المناصب الحربية: وهم من يتولون أمر الدفاع عن البلاد من مثل: أمير العلم أي حامل العلم في الحروب، ومقدم المماليك، والجنود وما إلى ذلك.
  • المناصب القضائية: وتشمل مساعدي القضاة، وجميع العاملين في سلك القضاء ككاتب القاضي وحاجب القاضي ونقيب القاضي ووكلاء دار القاضي والشهود العدول، وتتسع أيضا لتشمل نظار الوقف ووكلاء بيت المال ممن تقع أعمالهم تحت مراقبة القضاة.
  • المناصب الفكرية أو أرباب القلم: ويدخل في عدادها المؤرخين والمحدثين والفقهاء والنحاة والعروضيين والمناطقة وحكماء الإسلام.
  • المناصب التعليمية: وضمن هذا الإطار يتحدث عن المدرس والمعيد والمفيد والمنتهى من الفقهاء، وفقهاء المدرسة وضابط الأسماء.
  • الحرف اليدوية: وهي الفئة الأخيرة وخص بها أرباب الحرف اليدوية ومن أمثلتها، صاحب الزرع والبنّاء ومشد العمائر والحائك والمزين والدهان والحمامي والكحال والمكاري والسجان وغيرهم.

نماذج من انتقادات الكتاب

قدم ابن طولون من خلال كتابه نقدا للعصر الذي عاش فيه حيث انتقد ولاة الأمر وأصحاب الرأي مثلما انتقد العامة والزعر، وهو ما يحملنا على استنتاج أمرين:

 الأول، أن ابن طولون كان مدفوعا بغاية أخلاقية هي إصلاح المجتمع وتقويم أفراده تطبيقا للهدي القرآني “ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر”. والثاني، أن مناخ من الحرية كان سائدا في ذلك العهد، إذ لا يتصور انتقاده ولاة الأمر لولا شيوع الحرية، وعدم الخشية من البطش والتنكيل.

  • نقده لولاة الأمر: أجمل ابن طولون انتقاده للسلاطين في وجوه منها: ظلمهم الناس وأخذهم أموالهم بغير حق، وتفريقهم الإقطاعات [الضياع] على مماليك اصطفوها وزينوها وسيروها ليتباهوا بهم في مواكبهم، وإهمالهم العناية بشؤون بين المال ووضعهم الأموال في غير مواضعها، وإهمالهم شأن الدين وإقامة الصلوات وغير ذلك من المهام الدينية، أما نواب السلطنة فيجب عليهم مراجعة السلطان إذا أمر بغير المصلحة ” فإن اعتذر نائب السلطنة بأن الزمان لا يمكنه من ذلك قلنا له ولغيره، أنتم مطالبون بكل ما نأمركم به مما تصل إليه قدرتكم فعليكم الجد والاجتهاد والله يعين العباد”. وأما الوالي أو من يعهد إليه أمر اللصوص وقطاع الطرق “فمن حقهم الفحص عن المنكرات من الخمر والحشيش وبنات الخطا… وليس له أن يتجسس على الناس، ويبحث عمن هم فيه من المنكر، ولا كبس بيوتهم بمجرد القيل والقال”، وأما أمراء الجند فمن قبائحهم: ” أنهم لا يوقرون أهل العلم ولا يعرفون لهم حقوقهم، وينكرون عليهم ما هم يرتكبون أضعافه… واستكثارهم الأرزاق وإن قلت على العلماء واستقلالهم الأرزاق على أنفسهم وإن كثرت على أنفسهم…، ومن قبائحهم ما يذهبونه في الأطرزة العريضة والمناطق وغيرها من أنواع الزراكش التي حرمها الله وزخرفة البيوت سقوفها وحيطانها بالذهب….

  •  نقده لأصحاب المراكز الدينية: يحمل ابن طولون على فئة من الناس لقبوا بالألقاب الشريفة ومنهم ” شيخ الإسلام” قائلا إنه قصد بها أول الأمر الشيخان أبو بكر وعمر، ونعت بها بعدهما نفر قليل ” ثم ابتذلت هذه اللفظة فسمي بها على رأس المائة الثامنة وما بعد ذلك ما لا يحصى كثرة، حتى صارت لقبًا لكل من ولي القضاء الأكبر ولو كان عاريا من العلم والسن وغيرهما، بل صار جهلة الموقعين وغيرهم يجمعون جل الأوصاف التي لا توجد الآن في سائر الناس للشخص الواحد، والعجب ممن يقرهم على ذلك، وإنا لله وإنا إليه راجعون”. ويحمل كذلك على القاضي الذي نال منصبه بالرشوة ويرى حرمة ذلك، ويعيب عليه قبول الهدايا ويعتقد أنها شبيهة بالرشوة ولا يجيزها إلا إذا كانت من ذي محرم أو إذا جرت العادة بها، وينتقد أحكامهم الخاطئة التي ربما أتت عن قصور في العلم أو لعدم الاعتداد بالبينة.

  • نقده لأرباب القلم: تابع ابن طولون انتقاداته لأصحاب القلم مثل المشتغلين بعلوم الحديث ممن تسموا باسم المحدثين والحفاظ وهم لم يبلغوا معشار علم الحديث، وحول هذا المعنى يقول” رأيت جماعة من الأروام قصارها النظر في مشارق الأنوار للصغاني، فإن ترفعت ارتفعت إلى مصابيح البغوي، وظن بعضهم أنه وصل بهذا إلى القدر إلى درجة المحدثين والبعض الآخر إلى درجة الحفاظ، وما ذلك إلا لجهلها بالحديث …”، وأما الفقهاء فإن جريرتهم أكبر عنده لأن الحمية للمذهب تأخذهم حتى يمتنع بعضهم من الصلاة خلف بعض، وتأخذهم في الفروع التي يشددون النكير عليها لكنهم ” لا ينكرون المكوس [الضرائب] والمحرمات المجمع عليها، ولا تأخذهم الغيرة لله وإنما تأخذهم الغيرة للشافعي وأبي حنيفة”، وأما المفتين فإن بعضهم يسهل أمر الشرع ويرخص للأمراء والكبراء ما لا يرخص للعامة فأغرى بذلك السِفلة على دين الله وعلى الخلق، وبعضهم الآخر ينكر المنكر ويتشدد فيه ويتوقى مظان التهم لكنه يبالغ ولا يراعي ضعف الأمراء والعامة مما يؤدي إلى نفورهم.

  • نقده لأرباب الحرف اليدوية: يوجه ابن طولون سهام نقده لأصحاب الحرف اليدوية لافتا النظر إلى بعض ما يرتكبونه من أخطاء، فهو ينحو باللائمة على”مشد العمائر” أو رئيس البنائين لأنه يسخر البنائين ويجوعهم ويعطيهم من الأجرة دون حقهم، ويستعملهم فوق طاقتهم، وأما المكارية فإن كثير منهم لا يعجبه إلا أن يكاري الفاجرات من النساء والمغاني لمغالتهن في الكراء، وبعضهم لا يتحرز عن مصاحبة امرأة جميلة ويمشي معها إلى مواضع تخلو من الناس “والذي أراه حكم ذلك حكم الخلوة لا تجوز”، ومثلهم الطوافية أي الحراس الذين يجوبون الطرق ليلا فإن أفعالهم منكرة فهم يجلبون “الخمر لمن يرضيهم بحطام الدنيا فلا ينكرون عليهم المنكر…. وإذا وجدوا قتيلا في مكان نقلوه إلى مكان آخر، فتارة يجدونه في دار بقرب من له عندهم يد، فينقلونه إلى دار من لا يد له عندهم، أو بينه وبينهم شنآن .. دفعا للتهمة عن أنفسهم وإلقاء لغيرهم فيها”.

الخلاصة، أن النقد كان معروفا لدى العلماء المسلمين الذين لم يكتفوا بصوغ أطره وضوابطه النظرية، وإنما مارسوه في كتابات عدة، وكان نقدهم مشفوعا بغايات أخلاقية هي: النصيحة لأولي الأمر والعامة، وإصلاح المجتمع بتقويم ممارسات أفراده، وعدم التعرض لأشخاص معينين وتجريحهم.