تحفل السنة النبوية بالحديث عن أحوال يوم القيامة فالإيمان به أحد أركان الإيمان بالله وقد صوره لنا النبي صلى الله عليه وسلم كأننا نراه ونعايش أحداثه، وما ذلك إلا لكي يستقيم الإنسان ويقاوم نوازع الهوى المهلكة، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم صوت نذير وبشير لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ومن تلكم الأحاديث التي تخبرنا بأحوال الناس يوم القيامة قوله صلى الله عليه وسلم: « لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَا فَعَلَ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَا أَبْلاَهُ ». [سنن الترمذى وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ].

إن الخلق جميعا موقوفون بين يدي الله تعالى ولن ينصرفوا من هذا الموقف العظيم حتى يجيبوا عن أسئلة أربعة تتعلق بما كانوا عليه في الدنيا:

1- يسأل الإنسان عن الوقت الذي هو رأس مال الإنسان، ويجتهد الأذكياء من الخلق في تحويله إلى عنصر من عناصر الإنتاج الذي يعود على صاحبه بالمنفعة في الدنيا والآخرة أو في الدنيا فقط، والعاقل هو الذي يجعل من وقته سلما للمجد، أو يتأهل ليصعد سلم المجد، فهو دائما في حالة من العمل أو البناء الذاتي والرقي الفكري والأخلاقي والنفسي، حتى الأوقات التي يقضيها في الاستراحة ينوي أن يتأهل بعدها لعمل آخر يرفع من مقامه ومكانته وتضييع هذه الثروة التي يصعب تعويضها دليل على جهل بقيمتها وسوء إدارتها وفي ذلك خسارة الدنيا والآخرة.  

2- ويسأل الإنسان عن جسده فيما أبلاه، هذا الجسد الذي خلقه الله في أحسن تقويم وأمده بالعافية وصرف عنه المرض، ولطف به في القضاء ونجاه من كربات كثيرة، يسأل الإنسان ماذا صنعت بكل هذه النعم الناس بين شاكر لربه ساع إلى القيام بحقه سبحانه وتعالى، حريص على نفع المسلمين بما يملك من عافية وقوة، وهناك من يسعى إلى تكوين قوة عضلية بما فيه هلاكه عن طريق المنشطات التي تعطيه قوة كاذبة، ثم بعد ذلك تدمر جسده كل ذلك ليحصل على نظرة إعجاب أو كلمة ثناء يمشي على الأرض، ولسان حاله يقول سأخرق الأرض وسأبلغ الجبال طولا.

وهذه التي أنعم الله تعالى عليها بجمال الجسد، هل تسعى إلى استكمال جمال الروح،  فالأجساد مهما اكتست بالجمال تتغير، وهل شكرت هذه النعمة حق شكرها حين ذكرت ربها فتبتلت إليه وأطعت أمره حين تزينت لمن يحل له أن يراها متزينة، وسترت زينتها عمن لا يحل له أن يراها، أم شاركت إبليس في الغواية حين استمعت لشياطين الإنس والجن الذين يدعونها صباح مساء أن تظهر جمالها وأن تتفاخر به؟

3- ويسأل الإنسان عن علمه ماذا عمل فيه، إن العلم يطلب لكي يضيف إلى فكر الإنسان وخلقه ويعدل من سلوكه ويرقيه في مدارج الكمال ولكي يكون الإنسان داعية للخير بقوله وسلوكه، يتعلم المسلم ويضع نصب عينيه {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ } [البقرة: 44] {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } [هود: 88]

4- ويسأل عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه فإن المال أحد أصدق الاختبارات التي تواجه العبد وتتعدد وسائل الكسب لكن المؤمن يختار منها الحلال لإن الحلال هو الذي يكفي ويغني وإن كان قليلا حيث يضع الله تعالى فيه البركة من لدنه سبحانه.

وبعد هذه الأسئلة  ينقسم الناس إلى أصحاب كفة الحسنات الراجحة أو أصحاب كفة السيئات الراجحة، وحرصا من النبي صلى الله عليه وسلم على هدايتنا لكل ما يثقل موازين الحسنات جاء في الصحيحين عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّارَ، فَتَعَوَّذَ مِنْهَا وَأَشَاحَ بِوَجْهِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ النَّارَ فَتَعَوَّذَ مِنْهَا وَأَشَاحَ بِوَجْهِهِ، – قَالَ شُعْبَةُ: أمَّا مَرَّتَيْنِ فَلاَ أَشُكُّ – ثُمَّ قَالَ: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ»[1]، هذا حث على كل عمل مهما بدا في عرف الناس صغيرا لا قيمة له فمن أقوال نبينا صلى الله عليه وسلم  «لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ»[2].

فكل عمل بالنسبة لك صغير قد يكون له مردود كبير عند الناس، فشق التمرة تسعف مريض السكر، واللقمة تسكن الجوع، وتبسمك في وجه أخيك يعيد إنعاش روحه بعد أن دب إليه اليأس والألم، وتكون هذه الابتسامة وقودا يساعده على تجاوز الأزمات.  

ويحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من الأخذ من المال العام قبل التقسيم حتى لو كان للآخذ حق قال أبو هريرة :افْتَتَحْنَا خَيْبَرَ، وَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا وَلاَ فِضَّةً، إِنَّمَا غَنِمْنَا البَقَرَ وَالإِبِلَ وَالمَتَاعَ وَالحَوَائِطَ [البساتين]، ثُمَّ انْصَرَفْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى وَادِي القُرَى، وَمَعَهُ عَبْدٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ:”مِدْعَمٌ”، أَهْدَاهُ لَهُ أَحَدُ بَنِي الضِّبَابِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَحُطُّ رَحْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ سَهْمٌ عَائِرٌ[لا يعرف من أين خرج]، حَتَّى أَصَابَ ذَلِكَ العَبْدَ، فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَلْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَصَابَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ المَغَانِمِ، لَمْ تُصِبْهَا المَقَاسِمُ [أخذها قبل تقسيم الغنائم على المحاربين]، لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا» فَجَاءَ رَجُلٌ حِينَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشِرَاكٍ[سير النعل على ظهر القدم] أَوْ بِشِرَاكَيْنِ، فَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ كُنْتُ أَصَبْتُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «شِرَاكٌ – أَوْ شِرَاكَانِ – مِنْ نَارٍ»[3] الموت في سبيل الله من أعظم الأعمال الصالحة لكن هذا الرجل ارتكب كبيرة لم يكفرها الموت في قتال المشركين بل حرمه من أن ينال شرف الشهادة وهي أنه أخذ حقه أو جزءا منه من الغنيمة -التي تمثل المال العام – قبل أن يقسمها قائد الجيش فما بالنا بمن أخذ من هذا المال  العام بدون وجه حق كيف تكون جريمته وعقوبته.

ويشير النبي صلى الله عليه وسلم إلى حالة من البؤس تصيب أولئك الذين جمعوا حسنات كثيرة عبر القيام بطاعات متنوعة لكنهم يحرمون منها يوم القيامة مع ما بذلوا فيها من جهود وأوقات عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ قَالُوا الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ فَقَالَ إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ    [صحيح مسلم] حسرات كثيرة تصيبه بسبب فقدان هذه الحسنات مقابل إساءاته للآخرين لكن الحسرة الأكبر يجدها ساعة أن يقف مفلسا وتطرح عليه خطايا الآخرين الذين ظلمهم ثم بعد ذلك يطرح في النار فما أعظمه من تحذير وإنذار لكل صاحب عقل ووعي أن يراجع نفسه قبل أن يعتدي على غيره بأي لون من ألوان الاعتداء

ونختم بصفات يحبها النبي صلى الله عليه وسلم  ويجلس المتصفون بها يوم القيامة  أقرب ما يكونون إليه صلوات الله وسلامه عليه، قَالَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ القِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلاَقًا[4] فحسن الخلق يرفع صاحبه إلى أعلى الدرجات في الدنيا والآخرة  كما يرفعه عند الله وعند الناس.


[1] صحيح البخاري

[2] صحيح مسلم

[3] صحيح البخاري

[4] سنن الترمذي وقال َهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الوَجْهِ