كان ينبغي علينا أن تتجاوز هذا التساؤل- في الوقت الراهن- لأن العلماء ليسوا بحاجة إلى من يذكرهم بمهمتهم، لأنهم يشعرون بمسؤوليتهم تجاه هذه الأمة- وهذا أقل واجباتهم- وكان ينبغي علينا أن نتحدث حول “مهمة الناس وواجباتهم تجاه الأمة”، ولكن بلاد الإسلام الآن تعود إلى نقطة الصفر في كل شئ، والتنازع فيها على أشده، وأصبح كثير ممن امتلكوا العلم الشرعي أو بعضًا منه في يد السلطان، وتخلوا عن مهمتهم نحو الناس ونحو الأمة، وكثير من هؤلاء -أيضًا- ارتبط وجودهم عضويًا بأهل السلطة وتقلباتها، وانقلبت عندهم المفاهيم وتبدلت المهمة من التبليغ إلى الناس وكشف حقائق الإسلام، والقيادة الشعبية نحو الحرية التي تمكن للإسلام وللإنسان، إلى مهمة التخدير، وإخضاع الناس لشتى صور الاستبداد المعاصر والاستعباد.

وسوف نتناول في عدة حلقات دراسة وتبويبًا لما كتبه كما يراها علال الفاسي (1910-1974)[1]في القرن الماضي حول هذه المهمة الوجودية للعلماء، نحاول أن نستخلص مما كتبه الأدوار والمهمات الرئيسة والوظائف الأمتية للعلماء نحو الأمة والإنسانية وكذلك نحو الإنسان.[2]

 

مركزية الرسالة

العلماء امتدادًا للأنبياء في الوظيفة لا النبوة

إن مهمة العلماء قديمًا وحديثًا واحدة، فهي مستمدة من طبيعة الدعوة التي جاء بها للنبي صلى الله عليه وسلم، كما أن الثقافة التي يستعملونها لتقويم المعوج من الإنسانية ووصلها بالقيمة المثلى، هي من طبيعة تلك الدعوة، لأنها تجلية لها ودفاع عنها. وبهذا الاعتبار صح للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: العلماء ورثة الأنبياء أن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهما وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر.

يؤكد الفاسي على مركزية مهمة العلماء وأنها امتداد للنبوة في الوظيفة لا الوحي بالطبع، الوظيفة في حمل الرسالة الحقة وإبلاغها إلى الناس بل النضال في سبيل ذلك التبليغ “إذا كان الأنبياء قد بلغوا الدين وحملوا الرسالة فمهمة العلماء هي حفظ ذلك الميراث وتبليغه بكل أمانة. والنضال في سبيله بمختلف الوسائل وابتكار  هذه الوسائل نفسها. وذلك ما يقول فيه الرسول: يحمل هذا الدين من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال البطالين وتأويل الجاهلين”[3].

المهام الكبرى للعلماء

يتضح من هذا الحديث الشريف الإطار الشرعي والفكري لمهمة العلماء والتي يستنبطها -الفاسي- في ثلاثة دوائر كبرى، الدائرة الأولى: هي دائرة التخلية وهي “إزالة كل انحراف عن الدين مصدره الغلو في العقيدة أو المشادة في الدين”، وهذه الدائرة ترتبط بحالة التراجع التي قد تشدها الأمة وفقًا لمسار السنن الكونية في الصعود والهبوط الحضاري، هذه السنن التي لا تحابي أحدًا )كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً( [ الإسراء:21 ]،) ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ( [ الأنفال: 53] وهذا يعني أن الواجب الحضاري على العلماء أن يبحثوا عن هذه الإصابات ويشخصوا تلك الأمراض التي تصيب الفكرة الدينية في نفوس حامليها والبحث من ناحية عن حقائق الإسلام، واكتشافها من جديد من أجل تقديمها كعناصر حية لبعث الأمة حين التراجع أو الانحطاط أو التكاسل الحضاري. وهذا يتطلب أن يكون العلماء على مستوى العصر ومسؤولياته العلمية ومناهج البحوث والدراسات الواقعية وينقحوا الأدوات والمناهج المستخدمة من أجل الوصول إلى حقيقة الإشكالات والإصابات والآفات التي تعاني منها الأمة.

أما الدائرة الثانية لمهمة العلماء فهي “دفع انتحالات المبطلين الذين يدخلون في الدين ما ليس منه، وتتسرب إلى أفكارهم من حيث لا يشعرون، مبادئ باطلة لا تتفق وطبيعة التوحيد”. وهذه المهمة عظيمة الأثر والفعالية إذ ليست عوامل الهبوط الحضاري وحدها هي السبب في تشويه الرؤية الكلية لدى المسلمين، أو إصابات الفكرة الدينية، وإنما هناك عوامل مقصودة دخيلة وخارجية أيضًا، ولعل ما مُني به العالم الإسلامي في عصر الاستعمار من روافد غزو ثقافي وفكري لاسيما ما اتصل برافد الاستشراق الذي استهدف الفكرة الدينية وانشغل بالعبث في مصادرها، كانت أحد المسارات أيضًا لانتحالات المبطلين المشار إليها في هذه الدائرة.

أما الدائرة الثالثة فهي “تقويم تأويلات الجاهلين بالدين الذين لا يبالون بالانحلال الذي يصيب عقائدهم متى تذرعوا بما يرضى غرائزهم”، وهذه الدائرة تنظر إلى الداخل وتتأمل فيه حينما يُدخل أهل الإسلام ما ليس في الإسلام أو ينقصون منه ما فيه ولكماله وتمامه، وهذا الأمر يتطلب فعلين للعلماء، الأول: هو اكتشاف التغيرات التي تطرأ على الأفكار في المجتمع وتأثيرها على الإسلام وفيه أو قياسها به قربًا أو ابتعادًا، تجديدًا أو تقليدًا، اجتهادًا أو ابتداعًا، وهذا المقياس. والفعل الثاني هو فعل التقويم والإرشاد والتوجيه للاعوجاج الذي قد يوجد  في مسارات حركة الأمة والمجتمع نتيجة المتغيرات وعوامل الضعف التي تصيب الأمة.

جمود العلماء وتكريس التراجع

يرُد علال الفاسي في رسالته “مهمة علماء الإسلام” حالة الجمود والتراجع في الفكر الإسلامي والذي انعكس بدوره على حركة الأمة العلمية والاجتماعية إلى جمود العلماء أنفسهم وعدم استجابتهم لحاجات الأمة الحقيقية، ويرى “أن قسما من المسؤولية في هذا الأمر-حالة تراجع الأمة وجمودها- يرجع إلى جمود بعض العلماء وعدم قيامهم بواجبهم.

إن التقهقر الذي أصاب الدراسات الإسلامية وانعزال المعاهد الدينية عن مسايرة التطورات الفكرية في الشرق وفي الغرب وعدم استماع العلماء لنصح الناصحين من أمثال عبده وجمال الدين ومحمد إقبال وغيرهم من المفكرين مما أدى إلى حدوث هوة سحيقة بين الدراسات العربية والدينية المحافظة على أساليبها العتيقة ومراكزها غير المجددة وبين الفكر الجديد الذي يتلقفه أبناء المسلمين في معاهد الغرب الكبرى مباشرة أو بواسطة المعاهد العربية الجديدة التي أقصى شرفها أن تردد دروس العلماء الغربيين في غير نقد ولا ملاحظة وإذا استمر الحال على ما هو عليه، ولم تقم المعاهد الأصيلة بواجبها نحو العربية فإنه لا يمر زمن قليل حتى يعم الإلحاد المدن والقرى ويصبح الكل مقلدا للغرب في انزلاقه نحو لا دينية هدامة.

يقول أبو الحسن من علماء الهند[4]: “يجب أن نواجه الحقيقة بفقه ووعي وشجاعة. إن العالم الإسلامي يعاني اليوم ردة دينية وفكرية وثقافية جارفة يجب أن تكون موضوع دراسة جميع من يهمم الإسلام.

كما يستشهد- الفاسي- بنداءات أبو الحسن الندوي في الهند بقوله “…إن الطبقة المثقفة في كل قطر إسلامي مضطربة في العقيدة متحللة في الأخلاق، مادية في التفكير، علمانية في السياسة، وإن كثيرًا من رجالها إن لم أقل أن أكثر رجالها لا يؤمنون بالإسلام كعقيدة ونظام ، والشعوب الإسلامية – وفيها كل خير وكل صلاح وكل استعداد وهي أصلح الكتل البشرية في العالم – خاضعة لهذه الطبقة بحكم ثقافتها وذكائها ونفوذها. وإذا بقى هذا الوضع تسرب الإلحاد والفساد إلى هذه الشعوب وإلى الطبقات التي تعيش في البادية والقرى، وتعمل في المصانع والمزارع وسارت في طريق اللادينية والزندقة. هذا ما وقع في أوربا وهو واقع في الشرق إذا جرت الأمور مجراها الطبيعي، ولم تحل إرادة الله القاهرة”.

وهو -أيضا- ما يؤكده دكتور البهي في مصر[5] “… وتحولت بذلك الحركات التحريرية إلى حركة عزل الإسلام عن الحياة الملية العامة للجماعات المسلمة… إلى أن قال : وبجانب انفصال موضوع الثقافة وعزله عزلا تامًا عن الإسلام الذي هيأ الفكر الغربي السابق، الاستشراقي والمادي، فرصة قبول المثقفين له دون أن يجدوا في ثقافتهم التي يحملونها وفي أنفسهم يناقض هذا الفكر حتى يكون قبولهم إياه نتيجة اقتناع وتأمل، وجد فراغ ما آخر في الحياة التوجيهية العامة وهي حياة الجماهير من العمال والفلاحين وهذا الفراغ سببه عزلة الأزهر عن الحياة الجارية، وهي عزلة رسمت له في ظل الاستعمار أو عاون على بقائها الاستعمار”.

خلاصة هذه المقدمة في القراءة لمهمة علماء الإسلام أن البون شاسع بين المهمة والوظيفة التي يجب أن يمارسها علماء الأمة في واقعها الاجتماعي وبين الممارسة الموجودة في واقع الأمة، وأن هذه الفجوة هي بدورها عامل أساس من عوامل التراجع والجمود في العالم الإسلامي بل أحد أهم أسبابه، وأن الحل الذي يراه – الفاسي- هو إصلاح تلك الفئة وهو ما سنتناوله في الحلقة القادمة من هذه القراءة.


[1] علال الفاسي (1910-1974) مفكر مغربي انشغل بالتجديد والاستقلال الوطني, من أهم ما كتب :مقاصد الشريعة ومكارمها, دفاع عن الشريعة, النقد الذاتي, الإسلام وتحديات العصر, واقع العالم الإسلامي, وغيرهم من الكتابات ذات المنحى التأصيلي والتجديدي.

[2] هذه الرسالة (مهمة علماء الإسلام) التي كتبها علال الفاسي عبارة عن محاضرتين الأولى ألقاها في الندوة التي نظمتها وزارة التربية الوطنية للعلماء بالمغرب في شهر أكتوبر 1959, والثانية ألقاها بدار الحديث الحسنية في مايو 1973.

[3] عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم ” يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ، ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين”  رواه البيهقي .

[4] مجلة “المسلمون”، عدد 5، م6، ص7.

[5] الفكر الإسلامي، ص461.