موسى بن عمران من سلالة يعقوب بن إسحق بن إبراهيم عليهم السلام، أحد أولي العزم من الرسل، ومن المقربين إلى الله تعالى، فضله الله تعالى وخصه بأعلى مراتب الوحي، وهو الكلام المباشر دون وساطة الملائكة، فإن موسى عليه السلام كليم الله، ناداه الله تعالى وكلمه بالنبوة والوحي، قال الله تعالى: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ [النساء: 164]، إذ سمع كلاما من عند الله مباشرة دون مبلغ أو غيره، وجاء التأكيد لإثبات حقيقة الكلام المباشر، وذلك حين نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة من جانب الطور الأيمن [القصص: 30]. وما خص الله به موسى من بين الأنبياء غير نبينا محمد ﷺ من الكلام المباشر وقع لنبينا، فقد كلَّم الله سبحانه وتعالى محمَّدا ﷺ كذلك بدون وساطة جبريل ليلة الإِسراءِ والمعراج.
جمع الله تعالى لنبيه موسى عليه السلام فضائل منها النبوة والرسالة والتكليم والتقريب، ومنّ الله عليه بأن جعل أخاه هارون نبيا ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (٥١) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (٥٢) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا﴾ [مريم: 51-53]. وهذا من مظاهر الرحمة والتفضيل الذي منحها الله تعالى لنبيه موسى عليه السلام.
وما ذكره الله- تعالى- هنا مجملا عن ندائه لموسى من جانب الطور الأيمن، قد جاء مفصلا في مواطن أخرى منها قوله- تعالى-: ﴿فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ، فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ، أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ﴾ [القصص: 30]. ونداء الله لنبيه موسى عليه السلام كان بداية بعثته بالنبوة، واختياره بالرسالة إلى بني إسرائيل، وذلك حين بلغ الأشد.
وبسط ابن عاشور وجه وصف موسى عليه السلام بكونه (مخلصا) [مريم: 51] في الآية الكريمة، وهو خاصية أخرى إلى جانب ماذكر من الأوصاف السابقة، قال ابن عاشور: «وخص موسى بعنوان (المخلص) على الوجهين:
1- لأن ذلك مزيته، فإنه أخلص في الدعوة إلى الله فاستخف بأعظم جبار وهو فرعون، وجادله مجادلة الأكفاء، كما حكى الله عنه في قوله تعالى في سورة الشعراء [18، 19] : ﴿قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ [الشعراء: 18-19] إلى قوله: ﴿قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ﴾ [الشعراء: 30]. وكذلك ما حكاه الله عنه بقوله: ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ﴾ [القصص: 17]، فكان الإخلاص في أداء أمانة الله تعالى ميزته.
2- ولأن الله اصطفاه لكلامه مباشرة قبل أن يرسل إليه الملك بالوحي، فكان مخلصا بذلك، أي مصطفى، لأن ذلك مزيته قال تعالى: ﴿وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾ [طه: 41]»[1].
منهج القرآن في عرض قصة موسى عليه السلام؟
ويكفينا في تقديم قصة موسى ما جاء في سورة القصص لأسباب منها:
- سورة القصص جاءت بتفصيل ما أجمل في سورة النمل، حيث شرحت مفصلا كيف كانت تربية فرعون لموسى عليه السلام كما بينت السورة سبب زوال ملك فرعون.
- أكثر من نصف سورة القصص في الحديث عن قصة موسى عليه السلام، فهي تبدأ بقوله تعالى: ﴿طسم (١) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [القصص: 1-3]
- ثم تحدثت السورة الكريمة بعد ذلك، عما ألهم الله تعالى به أم موسى بعد ولادتها له، وعن حالتها النفسية بعد أن عرفت أن ابنها قد التقطه من اليم أعداؤها. وعما قالته لأخته، وعن فضل الله تعالى عليها ورحمته بها، حيث أعاد إليها ابنها موسى، قال الله تعالى: ﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [القصص: 13][2].
- تلخص مظاهر فساد فرعون وقومه في حكمه وتدبير شؤون مصر وأهلها. وما ترتب على ذلك الظلم الصارخ من العواقب الوخيمة التي حلت به وبأتباعه وملائه وأشياعه.
- 5. كما تعقد المقارنة بين حالة فرعون وإعراضه عن قبول الدعوة واضطهاده لبني إسرائيل الذين هم أكبر معارضيه بكفار قريش وممارستهم أنواع التشديد والتنكيل بالمستضعفين من المسلمين في مكة المكرمة، إلى أن قال الطنطاوي: «سورة القصص على رأس السور المكية، التي حضت المؤمنين على الثبات والصبر، وساقت لهم من أخبار السابقين، ما يزيدهم إيمانا على إيمانهم. ويقينا على يقينهم، بأن الله- تعالى- سيجعل العاقبة لهم»[3].
من هو فرعون ملك مصر؟
ويقول ابن عاشور: وفرعون هذا هو (رعمسيس) الثاني وهو الملك الثالث من ملوك العائلة التاسعة عشرة في اصطلاح المؤرخين للفراعنة، وكان فاتحا كبيرا شديد السطوة وهو الذي ولد موسى عليه السلام في زمانه على التحقيق.
أما مفاسد فرعون فإن القرآن الكريم ذكر مظاهرها في بداية سورة القصص يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: 4]، كل نقطة منها تعد جريمة في ذاتها، وفسادا عارما، تستوجب العقوبة والتبكيت، وتفصيلها كما يأتي:
1 – ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ﴾ أي تكبر فيها وطغى، من العلو بمعنى الارتفاع. والمقصود أنه جاوز كل حد في غروره وظلمه وعدوانه، وأعرض عن طاعة الله الأعلى، بل ادعى الربوبية. والمراد بالأرض: أرض مصر وما يتبعها من بلاد.
قال الخالدي: علو فرعون في الأرض هو إصابته بأعراض مرض “الفرعونية” فلما رأى نفسه حاكما نسي أنه مخلوق عبد عاجز، ونسي أن الله ابتلاه بالحكم ليخدم قومه ويسعدهم، فانتفشت نفسه ورأى نفسه إلها، فتأله ودعا قومه إلى عبادته!
2 – ﴿وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا﴾ وهذا هو المظهخر الصثانمي لفساد حكم فرعون، وهو نتيجة لاستكباره في الأرض وعلوه فيها، والمراد منه: أن فرعون قسم رعيته إلى أقسام وفرق وأحزاب مختلفة متعارضة، وكل فرقة تنصره وتعادي الأخرى، وهذا من بلاغة القرآن الكريم استخدام كلمة الشيع ليفيد التفريق انتصار كل فريق منهم لفرعون. قال ابن عاشور: جعل أهل بلاد القبط فرقا ذات نزعات تتشيع كل فرقة إليه وتعادي الفرقة الأخرى ليتم لهم ضرب بعضهم ببعض، وقد أغرى بينهم العداوة ليأمن تألبهم عليه كما يقال «فرق تحكم» وهي سياسة لا تليق إلا بالمكر بالضد والعدو ولا تليق بسياسة ولي أمر الأمة الواحدة.
وقال ابن عاشور، وهو يبين أوجه الفساد التي أحدثها فرعون، فقال: “جعل أهل المملكة شيعا وفرقهم أقساما وجعل منهم شيعا مقربين منه ويفهم منه أنه جعل بعضهم بضد ذلك وذلك فساد في الأمة لأنه يثير بينها التحاسد
والتباغض، ويجعل بعضها يتربص الدوائر ببعض، فتكون الفرق المحظوظة عنده متطاولة على الفرق الأخرى، وتكدح الفرق الأخرى لتزحزح المحظوظين عن حظوتهم بإلقاء النميمة والوشايات الكاذبة فيحلوا محل الآخرين. وهكذا يذهب الزمان في مكائد بعضهم لبعض فيكون بعضهم لبعض فتنة”.
3- ﴿يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ ﴾ والطائفة المستضعفة هم بنو إسرائيل الذين هم من سلالة نبي الله يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الله. وكانوا إذ ذاك خيار أهل الأرض، وقد سلط الله عليهم هذا الملك الظالم الغاشم الكافر الفاجر، يستعبدهم ويستخدمهم في أخس الصنائع والحرف، وأردئها، وأدناها[5]. وكان من مقاصد بعثة موسى عليه السلام نبيا لتخليص بني إسرائيل من بطش فرعون ونكاله.
زاد ابن عاشور فقال: إن فرعون كان يستضعف طائفة من أهل مملكته فيجعلها محقرة مهضومة الجانب لا مساواة بينها وبين فرق أخرى ولا عدل في معاملتها بما يعامل به الفرق الأخرى، في حين أن لها من الحق في الأرض ما لغيرها لأن الأرض لأهلها وسكانها الذين استوطنوها ونشأوا فيها.
4- ﴿ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ نتيجة جرائم فرعون الفظيعة في استضعاف شعب بني إسرائيل أنه كان يأمر بذبح أبناء بني إسرائيل الذكور، ويترك نساء بني إسرائيل يعشن في مهانة وضعف ومذلة، لا معيل لهن من الرجال.
ولعل الحامل له على هذا الصنيع القبيح، أن بني إسرائيل كانوا يتدارسون فيما بينهم ما كانوا يأثرونه عن إبراهيم الخليل، عليه السلام، من أنه سيخرج من ذريته غلام يكون هلاك ملك مصر على يديه، فلهذا أمر بقتل الغلمان وترك النسوان[6].
إضافة إلى هذا السبب، فإن استضعاف طائفة بني إسرائيل في أرض مصر استوجب عليه قطع منافذ القوة والسيطرة والمقاومة، وهذا لا يقوم إلا بالرجال فكان أدعى للأمر بقتلهم وإزهاق أرواحهم.
وقد احترز كل الاحتراز أن لا يوجد هذا الغلام حتى جعل رجالا وقوابل يدورون على الحبالى، ويعلمون ميقات وضعهن، فلا تلد امرأة ذكرا إلا ذبحه أولئك الذباحون من ساعته.
ولادة موسى عليه السلام ورعاية الله إياه
ومن لطف الله بعباده المستضعفين من بني إسرائيل أن حالتهم هذه لم تستمر فكانت البشارة في قول الله تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ [القصص: 5]، فكان من تمام نعمة الله على بني إسرائيل خروجهم من عذاب فرعون وتأييدهم بإرسال نبي من بينهم، وهو موسى عليه السلام.
قال في الوسيط: ونريد بإرسال موسى عليه السلام أن ننعم علي بني إسرائيل الذين استضعفهم فرعون وقومه في أرض مصر، وأن ننقلهم من الشرك إلى عبادة الله – تعالى – ونجعلهم بذلك أئمة في الدين يقتدى بهم المشركون من حولهم، ونجعلهم مستقرين في أرض فلسطين استقرارا يشبه الميراث، وأن نمكن لهم في الأرض التي أسكناهم فيها ونسلطهم عليها فتكون تحت سلطانهم وحكمهم ما داموا عاملين بشرعنا، وأن نرى فرعون ووزيره هامان وجنودهما ما كانوا يخافونه من الهلاك على يد رجل من بني إسرائيل، حيث أغرقناهم في اليم أجمعين[7].
قال ابن كثير: أراد فرعون بحوله وقوته، أن ينجو من موسى، فما نفعه ذلك، بل نفذ الله تعالى حكمه. بأن يكون إهلاك فرعون على يد موسى، بل يكون هذا الغلام الذي احترزت من وجوده يا فرعون!، وقتلت بسببه ألوفا من الولدان، إنما منشؤه ومرباه على فراشك وفي دارك … وهلاكك وهلاك جندك على يديه، لتعلم أن رب السموات العلا، هو القاهر الغالب العظيم، الذي ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن[8].
ثم فصل الله سبحانه الحديث عن ولادة موسى عليه السلام، فذكر ما ألهمه لأمه عند ولادته. وما قالته امرأة فرعون له عند التقاط آل فرعون لموسى، وما كانت عليه أم موسى من حيرة وقلق، وما قالته لأخته، وكيف رد الله- تعالى- بفضله وكرمه موسى إلى أمه، يقول الله تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [القصص: 7] وما بعدها من الآيات.
ومما ذكر المفسرون أن الجواري التقطنه من البحر في تابوت مغلق عليه، فلم يتجاسرن على فتحه، حتى وضعنه بين يدي امرأة فرعون آسية بنت مزاحم بن عبيد بن الريان بن الوليد، الذي كان فرعون مصر في زمن يوسف. وقيل: إنها كانت من بني إسرائيل من سبط موسى. وقيل: بل كانت عمته[9].
نسب موسى عليه السلام
وأما نسب موسى عليه السلام، فاسمه موسى بن عمران، والدليل على أن اسم أبيه عمران ما جاء في صحيح مسلم عن ابن عباس رؤضي الله عنهما عن رسول الله ﷺ قال: “مررت ليلة أسري على موسى بن عمران”.
ومن الآيات حول ولادة موسى عليه السلام والمنن الربانية التي اختنصه الله بها كثيرة، من وقت الولادة حتى فترة بعثته رسولا، مجملة في سورة طه، وجاء تفصيلها في سورة القصص، ونشير إلى سياقها في سورة طه: ﴿وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (٣٧) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (٣٩) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَامُوسَى (٤٠) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١)﴾ [طه: 37-41].
وقد اشتملت هذه الآيات الكريمة على جوانب من المنن الربانية التي أفاضها الله على موسى عليه السلام:
1. الوحي إلى أم موسى وأمرها بوضع رضيعها موسى في التابوت ثم إلقائه في البحر وهو نيل مصر، ثم يأتي على الساحل ليأخذه عدو الله فرعون، وهذا كله في رعاية الله وأمره وتدبيره.
2. وقوله سبحانه (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) أي: أنه لا يراه أحد إلا أحبه، وهذه المحبة حالة كونها مني- لا من غيرى- وقد زرعتها في القلوب، فكل من رآك أحبك كما قال الآلوسي.
وكان من آثار هذه المحبة: عطف امرأة فرعون عليه، وطلبها منه عدم قتله، وطلبها منه كذلك أن يتخذه ولدا.
وكان من آثار هذه المحبة أن يعيش موسى في صغره معززا مكرما في بيت فرعون مع أنه في المستقبل سيكون عدوا له. وهكذا رعاية الله تعالى ومحبته لموسى جعلته يعيش بين قوى الشر والطغيان آمنا مطمئنا[10].
3. وقوله {ولتصنع على عيني} [طه: 39] وهذه المنة الثالثة، قال قتادة، وغير واحد من السلف: أي تطعم وترفه وتغذى بأطيب المآكل، وتلبس أحسن الملابس بمرأى مني، وذلك كله بحفظي وكلاءتي لك فيما صنعت بك ولك، وقدرته من الأمور التي لا يقدر عليها غيري.
وهذا ما حدث لموسى فعلا، فقد عاش في طفولته تحت عين فرعون، وهو عدو لله- تعالى- ومع ذلك لم تستطع عين فرعون أن تمتد بسوء إلى موسى، لأن عين الله- تعالى- كانت ترعاه وتحميه من بطش فرعون وشيعته.
فالجملة الكريمة فيها من الرفق بموسى- عليه السلام- ومن الرعاية له، ما يعجز القلم عن وصفه. وكيف يستطيع القلم وصف حال إنسان قال الله في شأنه: وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي؟
4. المنة الرابعة على موسى فقال: (إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ، فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ….)
وكان ذلك بعد أن التقط آل فرعون موسى من فوق الشاطئ، وبعد أن امتنع عن الرضاعة من أي امرأة سوى أمه، فأبصرتك في بيت فرعون وأنت تمتنع عن الرضاعة من أى امرأة، فقالت أختك لفرعون وامرأته: (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ)
5. المنة الخامسة فقال: (وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ) وكان ذلك عند ما استنصر به رجل من قومه على رجل من أعدائه وهو القبطي، عند ما استعان بك عليه الإسرائيلى فنجيناك من الغم الذي نزل بك بسبب هذا القتل. قال الآلوسى: وقد حل له هذا الغم من وجهين: خوف عقاب الله تعالى حيث لم يقع القتل بأمره سبحانه، وخوف القصاص، وقد نجاه الله من ذلك بالمغفرة حين قال: (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ)، وبالمهاجرة إلى مدين[11].
6. وقوله عز وجل: (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) بيان للمنة السادسة التي امتن الله تعالى بها على موسى عليه السلام. والمعنى: واختبرناك وابتليناك- يا موسى- بألوان من الفتن والمحن. ونظم سبحانه هذا الفتن والاختبار في سلك المنن، باعتبار أن الله ابتلاه بالفتن ثم نجاه منها، ونجاه من شرورها.
وقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية حديثا طويلا سماه بحديث الفتون، ذكر فيه قصة مولد موسى، وإلقائه في اليم، وتربيته في بيت فرعون، وقتله للقبطي، وهروبه إلى مدين، وعودته منها إلى مصر. وتكليف الله- تعالى- له بالذهاب الى فرعون، ودعوته إلى عبادة الله وحده[12].
7. وقوله تعالى: (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى) أى: فلبثت عشر سنين في قرية أهل مدين، تعمل كأجير عند الرجل الصالح. ثم جئت بعد ذلك إلى المكان الذي ناديتك فيه عَلى قَدَرٍ أى على وفق الوقت الذي قدرناه لمجيئك، وحددناه لتكليمك واستنبائك، دون أن تتقدم أو تتأخر، لأن كل شيء عندنا محدد ومقدر بوقت لا يتخلف عنه.
8. ثم حكى الله سبحانه المنة الثامنة: فقال: (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) أى: وجعلتك محل صنيعتي وإحسانى، حيث اخترتك واصطفيتك لحمل رسالتي وتبليغها إلى فرعون وقومه، وإلى قومك بنى إسرائيل.
قال الطنطاوي: الآية الكريمة تكريم عظيم لموسى عليه السلام اختاره الله تعالى واجتباه من بين خلقه لحمل رسالته إلى فرعون وبنى إسرائيل. هذه ثماني منن ساقها الله تعالى في سورة طه مجملة، وقد ساقها سبحانه في سورة القصص بصورة أكثر تفصيلا[13].
بعثة موسى عليه السلام
تقدم أن حماية الله أحاطت بالنبي موسى عليه السلام منذ ولادته حتى فترة خروجه من مصر خائف متربصا من قتل القبطي القتل الخطأ، ثم ما لحقه من عناية الله تعالى حين توجه تلقاء مدين، وما لقي هناك من الإيواء والإيناس عند الرجل الصالح، ثم قيامه على رعي غنم الرجل لعشر سنوات كاملة مقابل الزواج بإحدى ابنتيه، وقد جاء في الحديث الصحيح عند الإمام البخاري: عن سعيد بن جبير، قال: سألني يهودي من أهل الحيرة: أي الأجلين قضى موسى؟ فقلت: لا أدري، حتى أقدم على حبر العرب فأسأله. فقدمت، فسألت ابن عباس، فقال: قضى أكثرهما وأطيبهما، إن رسول الله إذا قال فعل[14].
فلما أنهى موسى عليه السلام الأجل المتفق عليه للعمل عند صهره، وسار بأهله من عند صهره ذاهبا، وذكر غير واحد من المفسرين، أنه اشتاق إلى أهله، فقصد زيارتهم ببلاد مصر، في صورة مختف، فلما سار بأهله، ومعه ولدان منهم، وغنم قد استفادها مدة مقامه. قالوا: واتفق ذلك في ليلة مظلمة باردة، وتاهوا في طريقهم، فلم يهتدوا إلى الطريق المألوف. وجعل يوري زناده فلا يوري شيئا، واشتد الظلام والبرد.
فبينما هو كذلك إذ أبصر عن بعد نارا تأجج في جانب الطور، وهو الجبل الغربي منه عن يمينه، فقال لأهله: {امكثوا إني آنست نارا} [القصص: 29] وكأنه – والله أعلم – رآها دونهم، لأن هذه النار هي نور في الحقيقة، ولا تصلح رؤيتها لكل أحد {لعلي آتيكم منها بخبر} [القصص: 29] أي; لعلي أستعلم من عندها عن الطريق {أو جذوة من النار لعلكم تصطلون} [القصص: 29] فدل على أنهم كانوا قد تاهوا عن الطريق في ليلة باردة ومظلمة; لقوله في الآية الأخرى: {وهل أتاك حديث موسى – إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى} [طه: 9 – 10]، فدل على وجود الظلام، وكونهم تاهوا عن الطريق.
وجمع الكل في سورة ” النمل ” في قوله تعالى: إذ {قال موسى لأهله إني آنست نارا سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون} [النمل: 7] . وقد أتاهم منها بخبر، وأي خبر؟ ووجد عندها هدى، وأي هدى؟ واقتبس منها نورا، وأي نور؟[15].
وكان موسى في واد اسمه طوى، فكان موسى مستقبل القبلة، وتلك الشجرة عن يمينه من ناحية الغرب، فناداه ربه بالواد المقدس طوى، فأمر أولا بخلع نعليه; تعظيما وتكريما وتوقيرا لتلك البقعة المباركة.
ثم خاطبه تعالى كما يشاء قائلا له: (إني أنا الله رب العالمين) [القصص: 30]، (إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري) أي; أنا الله رب العالمين، الذي لا إله إلا هو الذي لا تصلح العبادة وإقامة الصلاة إلا له. وهنا أوحى الله إليه بأمور وأرسله إلى فرعون فإنه قد طغى وخالف أمر الله، وادعى الربوبية.
موسى عليه السلام ودعوته فرعون وقومه
وقام موسى عليه السلام بما وجب عليه من الرسالة والتبليغ، ودعا فرعون وقومه إلى عبادة الله الخالصة ونبذ الشرك والفساد في الأرض والظلم، وقد سجل لنا القرآن ما دار بين موسى وفرعون من المحاورة والمحاججة والمجادلة حتى استدعى المباراة، يقول الله تعالى: (فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَاّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40)
وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) [القصص].
وفي هذه الآيات الكريمة يخبر تعالى عن شقاء فرعون وكثرة جهله وقلة عقله في تكذيبه بآيات الله، واستكباره عن اتباعها، وقوله لموسى: إن هذا الذي جئت به سحر ونحن نعارضك بمثله. ثم طلب من موسى أن يواعده إلى وقت معلوم ومكان معلوم، وكان هذا من أكبر مقاصد موسى، عليه السلام; أن يظهر آيات الله وحججه وبراهينه جهرة بحضرة الناس ولهذا قال: {موعدكم يوم الزينة} [طه: 59] وكان يوم عيد من أعيادهم، ومجتمع لهم {وأن يحشر الناس ضحى} [طه: 59] أي; من أول النهار، في وقت اشتداد ضياء الشمس، فيكون الحق أظهر وأجلى. ولم يطلب أن يكون ذلك ليلا في ظلام، كيما يروج عليهم محالا وباطلا، بل طلب أن يكون نهارا جهرة لأنه على بصيرة من ربه، ويقين أن الله سيظهر كلمته ودينه وإن رغمت أنوف القبط.
قال الله تعالى: {فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى – قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى – فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى – قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى – فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى} [طه: 60 – 64]
[طه: 60 – 64] . يخبر تعالى عن فرعون أنه ذهب، فجمع من كان ببلاده من السحرة، وكانت بلاد مصر في ذلك الزمان مملوءة سحرة، فضلاء، في فنهم غاية فجمعوا له من كل بلد، ومن كل مكان، فاجتمع منهم خلق كثير وجم غفير.
لما اصطف السحرة ووقف موسى وهارون، عليهما السلام، تجاههم، قالوا له: إما أن تلقي قبلنا، وإما أن نلقي قبلك. قال: بل ألقوا أنتم. وكانوا قد عمدوا إلى حبال وعصي فأودعوها الزئبق وغيره من الآلات التي تضطرب بسببها تلك الحبال والعصي اضطرابا يخيل للرائي أنها تسعى باختيارها، وإنما تتحرك بسبب ذلك، فعند ذلك سحروا أعين الناس واسترهبوهم، وألقوا حبالهم وعصيهم وهم يقولون: {بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون} [الشعراء: 44] . وخاف موسى على الناس أن يفتتنوا بسحرهم قبل أن يلقي ما في يده، فإنه لا يضع شيئا قبل أن يؤمر، فأوحى الله إليه في الساعة الراهنة: {لا تخف إنك أنت الأعلى – وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى} [طه: 68 – 69] فعند ذلك ألقى موسى عصاه وقال: {ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين – ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون} [يونس: 81 – 82] ولما تقدم موسى عليه السلام وألقاها صارت حية عظيمة ذات قوائم – فيما ذكره غير واحد من علماء السلف – وعنق عظيم، وشكل هائل مزعج، بحيث إن الناس انحازوا منها، وهربوا سراعا، وتأخروا عن مكانها وأقبلت هي على ما ألقوه من الحبال والعصي، فجعلت تلقفه واحدا واحدا، في أسرع ما يكون من الحركة، فألقي السحرة سجدا وأسلموا لرب العالمين.