إن ما يعتري المشهد التعليمي اليوم من أعراض التذمر، ولعبة شد الحبل المزمنة بين الفاعلين التربويين والوزارة الوصية، أرخى بظلاله على العلاقة بين المؤسسة التعليمية ومحيطها الاجتماعي. وبدأت الشكوك تساور الآباء وأولياء الأمور حول صدق المدرسة العمومية في التزامها بما يُعلن عنه دوما في الخطاب الرسم، من حيث كونها رافعة للتنمية، وعتبة ضرورية لإيجاد موطئ قدم في سوق الشغل. بل يمكن القول إن هذه الشكوك اتخذت طابعا عمليا ممثلا في تنامي ظاهرة الهدر المدرسي، والإقبال المتزايد على التعليم الخاص
بيد أن القراءة الرصينة للتوتر الحاصل بين المدرسة العمومية والمجتمع، تُحمل هذا الأخير نصيبا من المسؤولية، باعتبار أنها – أي المدرسة – جزء من بنيته الأساسية. فحتى تضطلع المؤسسة التعليمية بأدوارها الرائدة لا بد أن تنفتح على مجتمع “معلم “. وهو الذي اشترط الدكتور حسن شحاتة في إحدى رؤاه المميزة بأن تكون كل مؤسساته وتفاعلاته قوى معلمة: الأسرة والإعلام وموقع العمل والتعامل مع الغير.

هل يمكننا الجزم بوجود مؤازرة فاعلة وجادة من لدن هذه المؤسسات للمدرسة العمومية؟
إن الرد بالإيجاب سينطوي حتما على مجانبة لحقيقة الوضع الهش الذي يسم العلاقة بين الطرفين. لذا فإن الكشف عن مواطن الداء خُطوة ممهدة لتحقيق نوع من المصالحة والتفاعل المثمر بين المؤسسات سالفة الذكر.
تأتي الأسرة في مقدمة القوى “المعلمة” التي يُفترض فيها نسج علاقة متينة مع المدرسة، إلا أن هذه العلاقة لا ينبغي أن تنحصر في هدف أوحد، كما هو حاصل اليوم، قوامه إنجاح المسار الدراسي للطفل بأي وجه كان، حتى لو اقتضى الأمر ردم البناء القيمي!
بل لا بد من التعامل معها باعتبارها كذلك فضاء مكملا للتنشئة الأسرية، ولترسيخ القيم و السلوكيات الإيجابية، وقد تنبه الزعيم المغربي علال الفاسي مبكرا لخطورة هذا الأمر, ودعا في كتابه المميز ” النقد الذاتي” إلى مراعاة التوازن بين كسب الرزق واستكمال تشرب القيم المعنوية “- إن- كسب الرزق مثلا لا يُمكن أن يُهمل في الاعتبار التربوي، لأن تعليم الناس حرفة أو مهنة يستطيعون بها مغالبة الحياة و سد حاجتها أمر ضروري التقدير ،إلا أنه لا يُعقل أن يكون هدفا كاملا للتربية ;لأنا لو جعلنا المثل الأعلى للمدرسة و للبيت هو في تكوين أناس قادرين على الكسب لقضينا على كل القيم المعنوية في النفوس و في المجتمع ،و لأصبحت غاية الجميع هي جمع بعض المال بوسيلة من الوسائل ولو كانت ممنوعة أو دنيئة .

وإن مما يحزن حقا أن نعاين اليوم ما حذر منه الأستاذ علال الفاسي، من حيث السعي المحموم الذي تبذله عدد من الأسر المغربية لتمكين أبنائها من اجتياز الامتحانات والحصول على الشهادات التعليمية، ولو تطلب الأمر الرضوخ لقيم سلبية مدمرة كالغش والرشوة والتزوير واستغلال النفوذ.
وفيما يتعلق بالإعلام، فإن من نافل القول الحديث عن عظم شأنه وخطورة دوره في تطوير الفكر، ورفع منسوب الوعي العام شريطة استكماله لمقوماته وأصوله، وانخراطه الجاد في مهام البناء وتقوية مناعة الأمة. إلا أن الواقع المغربي يكشف عن نموذجين لا يمكن الرهان على أحدهما، أو حتى كليهما، لتفعيل أدوار المجتمع المعلم كما نصبو إليه.
يتمثل النموذج الأول في الإعلام الرسمي الذي لا يكف عن الكيل بمكيالين في تعامله مع المدرسة العمومية. فمن جهة يحرص على تلميع سياسته التعليمية، وترويج خطاب مغرق في التفاؤل عبر الاتكاء على المعطى الكمي ولغة الإحصاءات والأرقام. ومن جهة أخرى يُحملها عبء التصدي للمشاكل والمآزق والأزمات الاجتماعية مما يوحي للمتتبع بأنها المتهم الرئيسي في ملف شيوع الانحرافات والظواهر السلبية!
أما النموذج الثاني فهو الإعلام التغريبي الخادم لأجندة مناوئة لهوية الأمة ومعتقدها وقيمها الراسخة. فلا هم له سوى تسطيح الفكر، وتفتيت منظومة القيم، والزج بالمجتمع في هوامش إلهاء بغيضة تشل القدرات وتؤجج الصراعات. وإعلام من هذه الطينة لا يُمكن أن يُشكل قوة معلمة، بل هو معول هدم وإطاحة بما تجهد المدرسة في بنائه وتثبيته!
لذا فإن الحاجة ملحة لنموذج إعلامي بديل، يضع المرفق التعليمي في صلب الانشغال اليومي، ويُؤسس لمنظور جديد في التعامل مع المدرسة كمدخل حيوي للبناء الحضاري.
ولكي تصبح قطاعات العمل والإنتاج قوى “معلمة” ينبغي أن تحد من تعاملها مع المدرسة العمومية كتجمع للمستهلكين الصغار، وأن تسهم بشكل فاعل في دعم المرفق التعليمي مما يحسن من كفاءة المخرجات التعليمية التي ستتولى آجلا إدارة عجلة الاقتصاد.
وإنا لنغبط التجربة اليابانية التي تُجسد فيها المصانع والشركات قوى معلمة بالغة الأثر. فمن المعلوم أن اليابان في طليعة الدول التي استثمرت في الرأسمال البشري من منطلق أن أعظم اكتشاف هو الإنسان ذاته. ووجهت كل مكونات المجتمع، بما فيها الاقتصاد، لغرس عناصر الطموح و التحدي و تفجير القدرات الخلاقة للإنسان الياباني .ولعل من ثمار هذا الاهتمام البالغ ما صرح به الاقتصادي الياباني ” دوكو” ، عندما سُئل عن عبقرية الإنسان الياباني و علاقته بالصناعة, قائلا “إن المصانع ليست إلا أسرة، إنها حياة العائلة الواحدة ، بكل ما في كلمة العائلة من معنى ريفي قديم، فالمصنع عائلة مرتبطة تماما , وعمال المصنع قد وُلدوا ليموتوا في داخله .

و إذا ترك الواحد منهم هذا المصنع، فإنه لن يذهب مطلقا إلى مصنع منافس , وإذا حاول أحد عمال هذه المصانع أن يذهب إلى مصنع منافس ، فإن المصنع لن يقبله لأن العائلات أسرار، و العائلات اليابانية تتنافس ولكنها لا تتصارع ،إنما تتفوق على المصانع الأوربية و الأمريكية، من أجل عظم ورفاهية الشعب الياباني كله.
وحتى تصبح هيئات المجتمع المدني قوى معلمة يجدر بها أن تنخرط إلى جانب المؤسسة التعليمية في تعزيز التطبيق الفعال لحقوق الإنسان، واتخاذها شريكا أساسيا في التطوير المنسق للبرامج والقدرات، لا مجرد فضاء للدعاية الفجة.
وقس على ذلك ما يهم قطاع الرياضة والفنون وغيرها.
إن الاكتفاء بما تبذله المؤسسة التعليمية وحدها لمواجهة أشكال الفوضى الاجتماعية والخلل الوظيفي داخل الأسرة لن يعيد للبناء الاجتماعي تماسكه، ولن يُحقق الاستقرار الضروري لإنجاح المشاريع والمبادرات الرامية إلى تطوير فرص العيش في عالم متقلب. لذا فإن اندماج المجتمع بمختلف مكوناته كشريك في العملية التربوية لهو أمر لا مناص منه لمواجهة عوائق الإصلاح والنهوض الحضاري.