تعددت دور المدارس ومعاهد العلم في الحضارة الإسلامية فكانت هناك المساجد التي نشأت بها الحلقات العلمية، والكتاتيب المخصصة للأطفال، والدور العلمية كدار الحكمة، والمكتبات وخزائن الكتب، والمدارس التي أنشئت خارج المساجد في أنحاء متفرقة من العالم الإسلامي، ولعبت دورا بارزا في الحياة العلمية، وفيما يلي نعرف بكيفية ظهور المدرسة، وأبرز خصائصها، ونظامها المعرفي.

ظهور المدرسة

متى وكيف ظهرت المدرسة ؟

هناك افتراض شائع أن أول ظهور للمدارس كان في منتصف القرن الخامس الهجري حين أسس نظام الملك السلجوقي المدرسة النظامية في بغداد، غير أن الدراسات الحديثة أثبتت أنها عرفت قبل ذلك التاريخ، ويسوق المستشرق الألماني “فرديناند وستنفلد” عدد من الشواهد في ذلك:

  • شيَّد الإمام أبو حاتم البستي المحدث المشهور (ت: 345ه) مدرسة «دارًا» في بلده بست، وجعل فيها خزانة كتب وغرفًا للطلاب، وخصص مبالغ مالية وأرزاقًا للغرباء من طلاب العلم فيها، وقالوا إنه جمع في تلك الدار جميع مؤلفاته ووقفها فيها ليطالعها الناس، وقد قرئ عليه أكثرها.
  • أقام تلاميذ الإمام النيسابوي (ت: 349ه) من الشافعية مدرسة له بنيسابور.
  • بنى بعض وجهاء طهران مدرسة للإمام الحاتمي (ت: 362ه) على المذهب الشافعي.
  • أسس الإمام المحدث الشيخ أبو علي الحسيني (ت: 393ه) مدرسة لتعليم علوم الحديث وروايته، وقد بلغ عدد طلابها ألف طالب من شتى بقاع الأرض.

وما ذهب إليه وستنفلد في هذه الجزئية يدعمه قول الإمام السبكي في طبقات الشافعية ” كانت المدرسة البيهقية بنيسابور قبل أن يولد نظام الملك، والمدرسة السعيدية بنيسابور أيضًا بناها الأمير نصر بن سبكتكين أخو السلطان محمود لما كان واليًا بنيسابور، والمدرسة الثالثة بنيسابور بناها أبو سعد إسماعيل بن علي بن المثنى الأسترابادي الواعظ الصوفي شيخ الخطيب، ومدرسة رابعة بنيسابور أيضًا بُنيت للأستاذ أبي إسحق الإسفرائيني. وقد قال الحاكم في ترجمة الإسفرائيني: لم يُبْنَ بنيسابور قبلها، وهذا صحيح في أنه بُني قبلها في غيرها”[1]

وهذه الشواهد كلها تقطع أن ظهور المدرسة بمعناها الاصطلاحي المتعارف عليه كان في حوالي منتصف القرن الرابع، وأنها ظهرت في شرق العالم الإسلامي في نيسابور وطهران، وهنا يثور التساؤل حول دواعي إنشاء المدرسة كمؤسسة مستقلة عن المسجد وكيف تميزت عنه.

بين المدرسة والمسجد

كانت رغبة الناس في صدر الإسلام إلى العلم كبيرة، وكلما مضت السنون ازدادت هذه الرغبة حتى ازدحمت المساجد بحلقات العلم، وكان ينبعث من كل منها صوت المدرس أثناء إلقاء الدرس وصوت الطلاب وهم يتباحثون ويسألون شيخهم، وكانت الأصوات الصادرة عن الحلقات تتلاقى محدثة ضجيجا داخل المسجد يمنع العبادة من أن تؤدى على وجهها الأكمل، ولهذا نجد الأزهر يُترك للتدريس ولا يقام به الصلاة إلا الجمعة، وهذا ليس حلا طبيعيا إذ أن مهمة المساجد الأولى هي أن يصلي بها الناس، والعلم مهما عظم فهو في مرتبة تالية.

يضاف لذلك أن العلوم تطورت وبعضها مثل: علم الكلام والمنطق والجدل والمناظرة ذات طبيعة جدلية ويغلب عليها العقل، وكان تدريسها ينافي طبيعة رواد المسجد التي أساسها الورع والزهد وترك الجدل.

وأخيرا، فإن همم الناس وتوقها للعلم في القرون الأولى على أشدهما، وهذه الهمم قد أصابها بعض الفتور منذ القرن الخامس كما يعتقد الأستاذ أسعد طلس فوجب على الدولة أن تعتني بالعلم وأهله وأن تيسر أسبابه لمن يطلبه[2].

بماذا تميزت المدرسة عن المسجد ؟

لقد تميزت المدرسة عن المسجد ببعض خواص لا تتخلف عنها وأهمها:
 الإيوان أو قاعة المحاضرات وفق التعبير الحديث، فما كانت المدرسة تخلو منه فهو أبرز مرافقها.
والمساكن المعدة لسكنى الطلبة والمدرسين وكانت مجهزة بالأثاث والأدوات الضرورية للمعيشة كالأواني والموائد والمصابيح وغيرها.
والمدرسون المعينون من قبل أصحاب المدرسة أو ولاة الأمر لتعليم الطلاب، خلافا للمسجد الذي كان المدرسون يقومون بواجبهم التدريسي تطوعا وبدافع ذاتي من أنفسهم.
وأخيرا يُلاحظ أن أعداد تلاميذ المدارس كان أقل كثيرا من تلاميذ المساجد، وغالبا ما كانت تجري عليهم الأوقاف.

لكن هذه الخواص لا ينبغي أن تصرف أنظارنا عن التشابهات العديدة بين المدرسة والمسجد كأن يعين مدرس في المسجد ويعين مؤذن للمدرسة، وأن أحدهم ربما مارس عمله في المسجد والمدرسة وغير ذلك[3].

المدارس وأنواعها

لم تكن المدارس التي أخذت تنتشر في العالم الإسلامي على شاكلة واحدة وإنما كان هناك مدارس متعددة، وإذا كانت المدارس في عصرنا تصنف إلى مدارس أولية، ومدارس متوسطة، ومدارس ثانوية أو عالية؛ فإن المدارس الإسلامية كانت تصنف وفقا للتخصصات العلمية، فكانت لدينا مدارس فقهية ومدارس قرآنية ومدارس حديثية ومدارس طبية.

  • المدارس الفقهية: وهي المدارس التي تنشأ لغرض دراسة الفقه وأصوله، وهي أكثر المدارس ذيوعا وانتشارا كما يتضح من المصادر الإسلامية، وذلك لأن الفقه يتشابك مع مختلف نواحي الحياة، وهذه المدارس تنقسم بدورها إلى مدارس أحادية تعتمد مذهبا واحدا مثل: مدرسة أبي حنيفة ببغداد التي تدرس الفقه الحنفي، والمدارس الثنائية وهي تجمع بين مذهبين فقهيين مثل: المدرسة الشهابية بالمدينة التي جمعت بين المذهب الشافعي والمذهب الحنبلي، والمدارس الثلاثية التي تجمع بين ثلاثة مذاهب ومن أمثلتها: المدرسة الفخرية بدمشق التي بنيت عام 821 ه وكان بها دروس للفقه الحنفي والمالكي والحنبلي[4]، والمدارس الرباعية التي تُدرس الفقه على المذاهب الأربعة مثل: المدرسة المستنصرية ببغداد.
  • المدارس القرآنية أو دور القرآن: كان المسلمون يتدارسون القرآن في المساجد وفي دور خاصة كما ذكر الواقدي، واستمر ذلك في البلاد المفتوحة حتى القرن الرابع حين أنشئت دور خاصة للقرآن كما أفاد الصفدي والذهبي، كدار الرشائية التي أنشأها بدمشق المقرئ رشأ بن نظيف الدمشقي، وكانت هذه الدور منفصلة عن المساجد.
  • المدارس الحديثية: وتعرف كذلك باسم “دور الحديث”، وهي من مبتكرات نور الدين زنكي فقد ذكر ابن الأثير أنه أول من بنى المدارس الحديثية وأوقف عليها أوقافا كثيرة، وأنشأ بعده الملك الكامل ناصر الدين بن الملك العادل بالقاهرة (المدرسة الكاملية) وهي كما يقرر المقريزي “ثاني دار عملت للحديث”، ويظهر أن المدارس الحديثية كانت تشترك أحيانا مع دور القرآن فتبنى دور مشتركة للقرآن والحديث معا، وتكون مستقلة عن المدارس الفقهية[5].
  • المدارس الطبية: كان الطب يدرس داخل المساجد ثم انتقل إلى البيمارستانات، وأول من شيدها الوليد بن عبد الملك عام 88 ه وجعل فيها الأطباء وأجرى عليهم الجرايات وبنى دورا للضيافة، ثم صاروا يودعون بها العقاقير والآلات الطبية، وربما أنشأوا بجوارها مدرسة لتعليم الطب فإذا ما أراد الطبيب المعلم الانتقال من الدراسة النظرية إلى التطبيقية تيسر عليه ذلك، وممن عمل ذلك الخليفة المستنصر فإنه جعل بالمدرسة المستنصرية مدرسة لتدريس الطب وعلوم الصيدلة، وكذلك فعل المنصور قلاوون بالقاهرة فإنه بنى البيمارستان المنصوري الكبير وجعل بداخله مدرسة جمعت بين تدريس العلوم الطبية والعلوم الشرعية فكان بها دروس التفسير والحديث والفقه، ولذلك امتدح الإمام البوصيري المنصور قلاوون بقوله:
أنشأت مدرسة ومارستانا لتصحح الأديان والأبدان[6]    

لكن هذا لا ينفي أن المساجد ظلت تدرس شيئا من الطب في حلقاتها، كما ذكر عبد اللطيف البغدادي حيث كان الأزهر يُلقى به درسا في الطب منتصف النهار من كل يوم، ومن العسير الجزم بسبب ذلك لكننا نرجح أنه لم يكن بغرض تأهيل أطباء لممارسة المهنة وإنما كان يستهدف تزويد طلاب الشريعة بالمعلومات الأولية التي يمكنهم الإفادة منها في العلوم الفقهية أو الممارسات القضائية وخصوصا الجنايات منها.

المستوى العلمي للمدارس: المدرسة المستنصرية نموذجا

حتى نتبين المستوى العلمي للمدارس الإسلامية يحسن أن نخصص الحديث عن إحداها كي لا نقع في فخ التعميم، وقد وقع اختيارنا على المدرسة المستنصرية ببغداد، التي بناها الخليفة العباسي المستنصر عام 631 ه، وألحقت بها مدرسة قرآنية ومدرسة حديثية ومدرسة طبية.

والمستنصرية مدرسة داخلية يدرس بها الطالب ويقيم فيها ولا يغادرها إلى منزله إلا في الإجازات أو بعد مدة انتهاء الطلب، وتتولى إدارة المدرسة الإنفاق عليه وتمنحه ملبسا وطعاما ومبلغا قدره ديناران شهريا، علاوة على ما يحصل عليه من الفاكهة والحلوى والصابون والزيت وما إلى ذلك، وهي تتألف المدرسة من 78 غرفة مخصصة لسكن الطلبة، كل غرفة مخصصة لأربعة طلاب، وساحة فسيحة تزينها ساعة ضخمة، وعدد من الأواوين أو قاعات التدريس، وخزانة كتب تضم ألاف الكتب من مختلف التخصصات.

وأما نظام الدراسة فهو على المذاهب الأربعة، وقد جعل لكل مذهب مدرس من أكابر المدرسين وأربعة معيدين من المشهود لهم بالعلم والتصنيف المتقن، وكان الخليفة يشارك في اختيارهم بنفسه، وروعي في اختيارهم السمعة الحسنة والدراية التامة بقواعد المذهب وفروعه، وكان المدرس يحصل على اثني عشر دينارا شهريا وبعض المخصصات العينية كي لا ينشغل بغير العلم، ومن عادته أن يجلس أثناء التدريس على كرسي من الجريد مرتديا السواد على حين يقف أحد مساعده على يمينه والآخر على يساره، ولم يكن هناك نظام للإحالة على المعاش بالنسبة للأستاذ وإنما يظل يدرس طالما كان قادرا على التدريس.

وكان الطلبة بدورهم ينقسمون إلى فئتين: الصبيان الذين يدرسون في المدارس القرآنية الواقعة خارج المدرسة، والبالغين الذين يقيمون داخلها ويدرسون علوم الشريعة واللغة والطب والرياضيات [7]، وقد كان عددهم عند افتتاحها 248 طالبا وبلغ عدد المدرسين والمعيدين 20 فكأن نسبة هؤلاء إلى أولئك هي 1 إلى 12.4 طالب الأمر الذي يدل على مدى العناية التي يحصل عليها الطلاب من مدرسيهم، يضاف لذلك أنه توفرت للطلاب بعض الوسائل التي تساعدهم على التحصيل من مثل وجود دار كتب ضخمة تبلغ ثمانين ألف كتاب في مختلف التخصصات، ومستشفى مجهزة بأحدث المعدات وما إلى ذلك من وسائل علمية.

إذا علمنا ما كانت عليه المدرسة المستنصرية أدركنا المستوى العلمي الذي بلغته هذه المدرسة، وغيرها من المدارس الإسلامية في العصر الإسلامي، والدور الثقافي الذي كانت تؤديه في المجتمع.