لم يبقَ من ذكرى الخليفة العباسي المستنصر بالله سوى مدرسته الخالدة المعروفة بالمستنصرية، والتي تُعد من أقدم الجامعات الإسلامية ومن أعظم الأعمال الحضارية التي قامت بها الخلافة العباسية في أخريات أيامها، وشاء لها القدر أن تظل الأثر الوحيد الذي بقيت بعض أجزائه قائمة حتى يومنا من معاهد العلم العباسية في بغداد على كثرتها واختلاف طابعها.

وصاحب هذا العمل الحضاري هو الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور المستنصر بالله بن محمد الظاهر تولى الخلافة يوم وفاة أبيه في (14 من رجب 623 هـ = 11 من يوليو 1226م) فنهض بها أحسن نهوض، وكان مثل أبيه عادلا يريد أن يعيد للأمة بعضا من أخلاقها التي اختفت تحت قبضة الظلم والطغيان وشهوة الحكم والاستبداد، وإذا كان أبوه قد مكث في الخلافة تسعة أشهر وأربعة عشر يوما، سلك في أثنائها سنن العدل والإحسان، وبلغ من عزمه في التطبيق وإخلاصه في المضي فيه أن جعل المؤرخ الكبير ابن الأثير يقول: فلو قيل إنه لم يتول الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز مثله لكان القائل صادقا؛ فإنه أعاد من الأموال المغصوبة في أيام أبيه وقبله شيئا كثيرًا…

وإذا كان القدر لم يمهله حتى يرى الناس ثمار غرسه، فإن ابنه استكمل الطريق وسار على الضرب؛ فنودي في بغداد أن من كانت له حاجة أو مظلمة يطالع بها، تُقضى حاجته وتُكشف مظلمته.

وكان في الخليفة المستنصر بالله نزوع إلى الخير، ورغبة في إقامة المنشآت النافعة من القناطر والخانات والربط ودور الضيافة وغيرها، وقد طالت مدة خلافته 17 سنة إلا شهرًا؛ حيث توفي في (20 من جمادى الآخرة 640 هـ= 5 من ديسمبر 1243م).

إنشاء مدرسة

شرع الخليفة المستنصر بالله العباسي في بناء المدرسة ببغداد على شط دجلة سنة (625 هـ= 1227م)، وقام على بنائها وتشييدها أستاذ دار الخلافة محمد بن العلقمي، وبلغ ما أنفقه عليها 700 ألف دينار، وافتتحت للدراسة في (5 من رجب 631 هـ = 6 من إبريل 1233م) وكان يوما مشهودا أقيم فيه احتفال كبير بهذه المناسبة، خلع فيه الخليفة العباسي على محمد بن العلقمي وأخيه أحمد، وهما اللذان أشرفا على بنائها، أموالا كثيرة وذُبِحَ ألفا رأس من الغنم، وعملت الحلوى صفوفا، وأقيم سماط عظيم في صحن المدرسة كان عليه صفوف شتى وألوان مختلفة من الأطعمة الفاخرة، أكل منه الحاضرون وحُمل منه إلى سائر دروب بغداد.

المستنصرية جامعة كبرى

وقد عنيت هذه المدرسة العظيمة بدراسة علوم القرآن والسنة النبوية والفقه والطب والرياضيات على نحو لم يسبق من قبل، فقد خصص الخليفة المستنصر لدراسة الفقه الإسلامي بناية خاصة، تدرس فيها المذاهب الفقهية الأربعة مجتمعة لأول مرة في تاريخ المدارس الإسلامية، وجعل للطب بناية خاصة، ثم أضاف إلى مدرستي الفقه والطب دارين أخريين: دارًا للقرآن ودارًاًا للسنة، وبذلك جمع الخليفة النابه المذاهب الفقهية الأربعة وعلوم القرآن والسنة النبوية وعلم الطب والعربية والرياضيات والفرائض وجعلها في مكان واحد تتألف من أبنية متعددة أطلق عليها اسم المستنصرية، وكان قبل ذلك تبنى مدارس مستقلة لكل فرع من تلك الفروع؛ فيدرس الطب في مدارس مستقلة به بعيدًا عن مدارس الحديث، التي هي الأخرى مستقلة عن دور القرآن.

وقد سن الخليفة المستنصر بالله سُنة حسنة بدراسة الفقه بمذاهبه الأربعة في مدرسة واحدة، فلم يكد يمضي عشر سنوات على افتتاح المستنصرية؛ حتى أقدم الملك الصالح نجم الدين أيوب بإنشاء المدرسة الصالحية بالقاهرة سنة (641هـ= 1243م) لتدريس المذاهب الأربعة، ثم قامت زوجة الخليفة المستعصم آخر الخلفاء العباسيين المعروفة باسم “باب بشير” ببناء المدرسة البشيرية في سنة (649هـ = 1251م) بالجانب الغربي من بغداد وجعلتها وقفا على المذاهب الأربعة على قاعدة المدرسة المستنصرية، وافتتحت للدراسة في 13 من جمادى الآخرة سنة 653هـ، ثم توالى بعد ذلك إنشاء المدارس التي انتهجت هذا النهج في تدريس الفقه بمذاهبه الأربعة.

النظام الإداري

وكان يتولى إدارة المدرسة المستنصرية ناظر يختار من بين كبار موظفي الدولة يعاونه عدد من المساعدين، يأتي في مقدمتهم المشرف وهو كالمراقب المالي أو المفتش المالي والكاتب والخازن، وعدد من المستخدمين يقومون على خدمة المدرسين والطلاب، ويعد عبد الرحمن التكريتي أول من تولى منصب نظارة المدرسة المستنصرية؛ حيث عين في اليوم التاسع من رجب سنة (631 هـ = 1233م).

النظام الدراسي

اختير للتدريس بالمستنصرية كبار الشيوخ وأئمة العلم في العراق والشام ومصر وغيرها ممن حصلوا على إسناد عال، أو انتهت إليهم رئاسة العلم أو عرفوا بالبحث والدرس العميق، ويعاون هؤلاء المدرسين معيدون نابغون. أما الطلاب فكان يدقق في اختيارهم من بين الطلاب النابهين، وكان لكل مذهب من المذاهب الفقهية مدرس يعاونه أربعة معيدين، وفي القسم المخصص لكل مذهب يجلس الشيخ على مقعد مفروش بالسجاد، وقد ارتدى حلة سوداء وإلى يمينه معيدان، وعن يساره مثلهما لإعادة ما يمليه الشيخ من الدروس.

الوسائل المعينة على الدرس

وكانت المدرسة مجهزة بما يعين الطلاب على الدرس والتحصيل ويساعد الأساتذة على الشرح والتوضيح؛ فألحق بالمدرسة مكتبة عامرة أهداها الخليفة المستنصر إليها، وكانت تضم ثمانين ألف كتاب بالإضافة إلى ما حُمل عليها بعد ذلك، وكانت دار الكتب هذه يقوم عليها خزنة من العلماء الأفذاذ والمؤرخين المشهورين، وتضم عددا من الناسخين والمناولين للكتب الذين يقومون على خدمة الطلاب.

وضمت المدرسة مستشفى يدرس فيه الطب؛ حيث تقترن الدراسة النظرية بالتطبيق ومعالجة الحالات المرضية، وإجراء الفحوص والتجارب.

التفرغ للدرس والتحصيل

وأوقف الخليفة المستنصر علي مدرسته وقفا كبيرا؛ حتى يتفرغ القائمون عليها والملتحقون بها للدراسة والتحصيل، لا تشغلهم أعباء الحياة عن مواصلة البحث ولا يلههم التفكير في لقمة العيش عن متابعة التحصيل، فقد خصص لنظارها وشيوخها ومدرسيها ومعيديها وأطبائها وطلابها وكل العاملين بها ما يكفيهم من الطعام والشراب والنفقات، ورتّب لهم البيوت والمساكن، وكانت الأطعمة توزع يوميا مطبوخة على طلابها المثبتين في المدرسة، بالإضافة إلى ما كان يجهز لهم من الحصر والسراج والزيت والورق والحبر والأقلام، وكان يقدم لهم في الصيف الماء البارد وفي الشتاء الماء الساخن، وكان رجال الإدارة والتدريس يوزع عليهم كميات كبيرة من الخبز واللحم والخضراوات التي تكفيهم وتكفي ضيوفهم، بالإضافة إلى ما كانوا ينالونه من هبات وعطايا.

وكانت الأراضي والضياع التي أوقفت على المدرسة تدر دخلا يكفي للنهوض بها والقيام برسالتها، حتى قيل: إن قيمة ما وقف عليها يساوي ألف ألف دينار، وإن واردات هذه الأوقاف بلغت نيفا وسبعين ألف مثقال من الذهب في السنة، وكان القائمون على وقف المستنصرية يتقاضون في كل شهر مرتبات نقدية من الدنانير الذهبية تختلف باختلاف منازلهم وأقدارهم.

الدراسة المستنصرية

ظل التدريس قائما بالمدرسة المستنصرية أربعة قرون منذ أن افتتحت في سنة (631هـ= 1233م) حتى سنة (1048هـ= 1638م)، وإن تخلل ذلك فترات انقطاع، كانت الأولى في أثناء الاحتلال المغولي لبغداد سنة (656هـ= 1258م)، وتعطلت الدراسة فيها قليلا، ثم عاد إليها نشاطها من جديد؛ حيث استؤنفت الدراسة سنة (656 هـ= 1259م)، وظلت الدراسة قائمة بالمستنصرية بانتظام بعد سقوط بغداد نحو قرن ونصف قرن.

ثم تعطلت الدراسة بها وبغيرها من مدارس بغداد؛ بسبب تدمير تيمورلنك لبغداد مرتين، الأولى سنة (795هـ= 1392م)، والأخرى في سنة (803هـ= 1400م)؛ حيث قضى تيمورلنك على مدارس بغداد، ونكّل بعلمائها، وأخذ معه إلى سمرقند كثيرًا من الأدباء والمهندسين والمعماريين، كما هجر بغداد عدد كبير من العلماء إلى مصر والشام وغيرهما من البلاد الإسلامية، وفقدت المستنصرية في هذه الهجمة الشرسة مكتبتها العامرة بآلاف الكتب وأصبحت أثرا بعد عين، وظلت الدراسة متوقفة بعد غزو تيمورلنك نحو قرنين من الزمان حتى افتتحت للدراسة سنة (998هـ = 1589م)، ولكن لم تدم بها طويلا فعادت وأغلقت أبوابها سنة (1048هـ= 1638م).

إحياء المستنصرية

بعد توقف الدراسة بالمستنصرية اتخذت لأغراض أخرى؛ فاستعلمت تكية ودار للمكوس والضرائب وخانا للمسافرين ومسكنا لجنود إحدى الكتائب، وامتدت إليها يد الإهمال؛ فضاع كثير من بهائها ورونقها، واختفت أجزاء من مبانيها، وظل الأمر على هذا النحو من الإهمال والنسيان، حتى استطاعت مديرية الآثار العراقية أن تضع يدها على المبنى وتوليه عنايتها وتعيد إليه رونقه وجماله، وافتتح للزيارة باعتباره أثرًا في سنة (1380هـ= 1960م).


من مصادر الدراسة:

ابن الأثير – الكامل في التاريخ- دار صادر – بيروت.
محمد الخضري- محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية – المكتبة التجارية الكبرى – القاهرة – 1959م.
ناجى معروف – تاريخ علماء المستنصرية – دار الشعب – القاهرة – 1975م.
سليم زبال – أنا المستنصرية – مجلة العربي – العدد 65- (1383 – 1964م).