يظن البعض أن الإلحاد عقلاني، وقادر على الحجاج المنطقي، وأن براهينه، وأدلته علمية، ومنهجيته صارمة، في حين أن الإيمان مجموعة من المسلمات واليقينات القلبية ينقصها الدليل وتعوزها الحجة، ويغيب عنها برهان العقل وأنواره، لكن العدد السابع من مجلة”الاستغراب” يبدد هذا الوهم، مبرهنا أن الإلحاد لا عقل له، ومسلك غير علمي، ويعتريه العوار المنهجي، فهو كاليد الواهية الصغيرة التي تظن أن في مقدورها حجب الشمس الساطعة عن الأرض الفسيحة.
ناقشت “الاستغراب” الإلحاد المعاصر، وكشفت أن ذلك الإلحاد كرر مقولات الملحدين السابقين، ولم يأت بجديد، لكن الملمح الأبرز فيه هو أن العلم والتقدم التكنولوجي والمعلوماتي خلق نرجسية للإنسان وغرورا كبيرا؛ فظن أنه “إله” في الكون، وأنه يستطيع أن يستغني عن “الله”، لذا انتقل ذلك الإلحاد من إنكار وجود الله إلى نفي أي دور لله في الوجود، وهو ما نقل الإلحاد من الوثنية القديمة إلى النرجسية المعاصرة، المغترة بالعلم، والمتضخمة في ذاتها، والظانة أنها بالعلم قادرة على فعل أي شيء مادام الخالق منعزلا عن الوجود ومفوضا صلاحياته للإنسان.
ومن هنا فإن مناقشة ذلك الإلحاد وحجاجه لا تكون إلا بكسر غرور ذلك الإنسان المتعالى بما أوتي من العلم، وإقناعه بالحقيقة التي لا يريد أن يستوعبها وهي “وما أوتيتم من العلم إلا قليلا”، وأن خبرة الإنسان تؤكد أن اتساع معرفته جعلته يشعر بمقدار جهله بنفسه وبالكون، فالمعرفة لم تكن زيادة العلم بقدر ادارك الإنسان عظم المجهول.
ويلاحظ أن الحداثة الغربية نشأت مضادة للإيمان، وأنها ساعية للسيطرة على الإنسان بعد تفريغه من الإيمان وجعل قلبه خواء فارغا، فالخواء هو سمة الإلحاد، ومبعث قلق الملحد وتوتره، فالإلحاد لا يخلق طمأنينة، فالملحد يدحض يقين المؤمن طلبا ليقين يفتقده، فالحداثة جعلت البشر يقفون ضد خالقهم، وهو ما أدى تدمير حقيقي للإنسان، وإيجاد عبودية كاملة للمادة والأوهام، لذا كانت الثقافة الغربية في “خواء قلبي” فموت الإله عند المفكر الألماني نيتشه هوى به إلى قلق وجودي انتهي بجنون طويل.
الإلحاد وهشاشة العقلانية
الإلحاد في الرؤية الغربية يعرض عما ليس تحت سيطرة الحواس، فالملحد كل سؤال لا تجيب عليه العين والحواس لا معنى له، كما أن الملحد لا يعرف الحقائق المتعالية المتجاوزة، والإلحاد بنى يقينه على فرضيات شديدة الهشاشة ومنها: أن العلم قادر على الإجابة على التساؤلات، وقادر على تقديم الحقائق، وأن كل شيء يجب أن يخضع لقوانين الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا، أما الروحانيات فيرى الإلحاد أنها متغيرات في كيمياء المخ، كذلك يعتقد الملحد أن العلم هو القادر على التحكم في الكون واستغلال الطبيعة وجلب المنفعة، وبالتالي فالمقدس ليس له حضور، رغم أن حقيقة الإنسان تشير أنه لا يمكن أن يعيش إلا في عالم ذو معنى، فللغيب جاذبية طاغية في حياة الإنسان.
ومن هنا تصبح المقولات التي يطلقها الإلحاد بوجود تناقض بين العقل والإيمان أشبه بقنابل الدخان التي تشوش رؤية العقل ولا تنصفه، فالإيمان لو كان يناقض العقل لما سعى إلى تأكيد إنسانية الإنسان، وما العقل إلا جزء من الإنسان، لذا فالعقل الخلاق هو العقل الجامع للإيمان بالله والمعترف بالإنسانية، وفي هذه الحالة يصير العقل شرطا تأسيسيا للإيمان، وعندها يصبح مقام الإيمان هو نفسه مقام العقل.
وهنا يأتي نموذج العالم البريطاني “ريتشارد دوكينز” أحد كبار المفكرين الإلحاديين في العالم، وصاحب الأفكار الأكثر شيوعا وسط الشباب خاصة كتابه “وهم الإله”، فلم يستطع الكتاب وحججه الواهية أن تطمس الإيمان، فمنذ الستينيات من القرن الماضي وكثير من العلماء الملحدين ينتظرون انتهاء الدين وموت الإله، إلا أن المشاهد أن الأصوليات انبعثت من جديد في جميع الأديان، تعلن أن الإله موجود ويريد أن تكون لكلمته السطوة على حياة الناس، وهي حقيقة اعترف بها “مايكل شرمر” في عام 1999 في مجلة “المشكك” من أنه على مر التاريخ لم توجد هذه النسبة العالية من السكان في الأمريكان الذين يؤمنون بالله، بل وفي استطلاع الرأي الذي أجرته مؤسسة غالوب عام 2015، وشارك فيه (64) ألف شخص، فكشف أن 11% ممن شملهم الاستطلاع أجابوا ملحد بقناعة، وفي عام 2008 أجرت BBC استطلاعا عن الإلحاد في العام وخرجت بنتيجة أنه 8%، كان أغلبها في أوروبا والصين، أي أن الإلحاد يتضاءل وينحصر ويتركز في مناطق جغرافية بعينها.
أما دوكينز فيؤمن بأن العلوم الطبيعية هي الطريق السريع للإلحاد، لذا يرفض أي دليل لا يلائم مع حجته، ويتعامل مع البراهين ببساطة، فيصور الدين بأسوأ كلمات، فيذكر أن تربية الأطفال على الإيمان بمعتقد ديني شكل من أشكال الاعتداء على الطفولة، لكن الغريب أنه لا يتفق مع نهج الاتحاد السوفيتي في تربية الأطفال على الإلحاد في مدارسه إبان الفترة الشيوعية!
ويصر دوكينز على تأكيد إلحاده والتدليل عليه بنموذج البيولوجيا للطيور في بريطانيا، لكن العالم والمخلوقات ليسوا طيورا إنجليزية!
ويعلن دوكينز أن الإيمان غير منطقي، لكن هل الإلحاد منطقي؟! كما يعلن أن الإيمان بالله مستحيلا، وأن الإيمان نوع من المرض العقلي، وآفة كونية، وثقة عمياء بلا دليل، وشيء طفولي، لكن الكلام السابق لدوكينز يخلو من أي حجة منطقية أو دليل علمي، وإنما هو نثر عاطفي بليد لا يثير الوجدان، والغريب أن الإلحاد مقتنع بصوابية أفكاره بدرجة تحولها إلى أصولية دينية.
نرجسية الإلحاد
نرجسية الإلحاد تعلن تأليه الإنسان، فهي ذات وجهين، إنكار للإيمان، وإنكار للمؤسسة الدينية ودورها في رعاية الإيمان، والتأسيس الفلسفي للنزعة الفردية في الحداثة الغربية يكشف نزوعها لتأليه الإنسان، بمقولات منها: “فكري هو كنيستي”، ومقولة جان جاك روسو”دين الإنسان لا يعرف الهياكل ولا المذابح ولا الطقوس”، فهذه المقولات تجعل الإنسان شيئا وتنزع عنه روحه ويقينه.
ومن هنا فقد ارتبطت ظاهرة الإلحاد بتطور العلوم، فقد جاءت الثورة الصناعية في القرن السابع عشر والتطور العلمي بعد صراع عنيف وكبير مع الكنيسة، وعندها بدأت ظاهرة الإلحاد في البروز بقوة وانتشرت موجات الإلحاد، وتعمقت مع ظهور النظرية الداروينية في التطور، وظهور فلاسفة يضعون الأسس النظرية في الإلحاد، ومحاربة الدين مثل شوبنهور وماركس ونيتشة وفرويد والتقى هؤلاء على عدم حاجة البشرية للإله أو الدين، بل إن وجود “الإله” يخلق أزمات، لذا من الأفضل غيابه، لذا أصبح الدين هامشيا في حياة ووجدان الإنسان الغربي، لكن انتظر الإلحاد الغربي قرونا ظنا منه أن الإله سيزول، لكن مرور القرون أثبتت حياة الإله ، وأنه حاضر على المستوى الخاص والعام.
والحقيقة أن إيمان الملحدين يهتز، وهذا القلق الإلحادي ينعكس في حجج الملحدين التي باتت تغترف من الماضي البعيد، وباتت مفتقرة للأسلوب العلمي والجدالي في تقديم حججها وتيسير إقناعها، وتحولت حججها إلى هجمات كلامية شرسة على الدين في محاولة لإلحاق أي ضرر به، ظنا من الإلحاد أن هذا يثبت حججه المصاغة في صورة نمطية تضادية (العلم حسن، والدين سيء)، فالملحدون بلا حجج، وبصوت عال، وثقة تقترب من الغطرسة أنهم على حق، وهو ما يقنع جماهير كبيرة بأن الإلحاد وهم كبير.
الإلحاد جريمة في حق الإنسان
البحث عن بديل للنص الديني وما يقدمه من إجابات عن الإنسان ووجوده وغايته ومصيره، ربما قاد إلى اللجوء لاستقصاء المعرفة بشؤون الطبيعة والمادة، حيث طبق بعض العلماء المنهجيات العلمية الصارمة للمادة على المجتمعات والإنسان، ومن هنا جرى النظر للإنسان على أنه شيء وهو ما نزل بمرتبة الإنسان الوجودية في الكون، بل جعل الإنسان منقطع الصلة بالخالق سبحانه وتعالى، ومن ثم انغمس البحث العلمي في القشرة الخارجية للظاهرة، وأهمل جوهرها وحقيقتها وارتباطها بالمنظومة الكونية، وخالقها سبحانه، ومن ثم انفتح الباب أمام الإلحاد بسبب هذه المنهجيات القاصرة، وأصبحت انشغالات الإنسان وسط ركام المادة وحدودها، ولم يلتفت إلى الوجود الإلهي في الكون، فنظرة الإلحاد سطحية ومادية.
وتذهب بعض الرؤى الإلحادية أن الخالق موجود، لكنه غير مؤثر في الكون، منعزل عنه بعدما فوض الإنسان في إدارته تفويضا كاملا، وهو كلام متهافت، فالبعد الغيبي موجود في الظواهر الاجتماعية والمادية لكن عين الإلحاد العمياء لا تريد أن تبصره، فكثرة من المخلوقات التي تزيد أنواعها على ثمانية ملايين نوع من حيوانية ونباتية تنفي العبثية عن الكون، وتنفي عزلة الخالق عن مخلوقاته، لكن يبدو أن نظرة الإلحاد المادية ربما يكون من أهدافها هي صرف الإنسان عن أن يكون له هدف وغاية يضعها له الخالق وفق تعاليم مقدسة.
والانشغالات العلمية بالمادة فاقت الثمانية آلاف تخصص، لكنها ارتبطت جميعها بالمادة، دون أن يجمعها رباط برؤية كلية، فحين يغرق العقل في التفاصيل والجزئيات يبتعد عن الرؤية الكلية، ويصبح أسير اللحظة، ولعل الحقيقة البارزة أن جعل الإنسان شيء، وربطه بالمادة وفصله عن السماء وعلوها تدخل في مجال السيطرة عليه وتوجيهه حسب الرؤى المادية، وحتى لا يثور ذلك الإنسان تغلف تلك السيطرة بأغلفة وهمية من الموضوعية والعلمية يوفرها الإلحاد، الذي ينكر الفطرة، وينظر إلى الروح على أنها مرتبطة بالجسد تموت بموته، وهذا ما سبب قصورا مخيفا في إدراك جوهر الإنسان، وأوجد جهلا كبيرا بتأثير الجوانب الروحية على حياة الإنسان وجسده.
والحقيقة أن تغييب المعتقد أوجد فراغا روحيا عميقا في حياة الأفراد والمجتمعات، ولم تستطع المادة ومناهجها أن تملأ هذا الخواء الروحي، ولم تستطع مقولة ديكارت الشهيرة “أنا أفكر إذن أنا موجود” أن تؤسس لاستقلالية الإنسان بذاته عن خالقه، فرغم أنها لم تصدر عن خلفية إلحادية إلا أن جاءت في سياق اشتداد الصراع مع الكنيسة المسيطرة في فرنسا، فشرعت لاستقلالية الإنسان رغم اعترافها بوجود الإله، لكن هدفها كان تفويضيا، وخلق مساحات لا يتدخل فيها الخالق وتتعطل فيها قيوميته وربانيته، لذا تأسست العلوم في تلك الفترة وهي تنكر ارتباط الإنسان بالخالق سبحانه، وهنا انتقل الإلحاد من الإله غير الموجود إلى الإله غير الفاعل في الوجود.