مشروع التأويل هو أحد الظواهر المميزة للحياة الفكرية منذ نهاية القرن الفائت، حيث تمدد أفقيا مع انتشاره في بلدان إسلامية متعددة، ورأسيا بتنوع القضايا أو المداخل وتنوع الاقترابات ومناهج التحليل الذي ينتج معه بالضرورة اختلافا في النتائج، وهذه المشاريع ليست على شاكلة واحدة، وأربابها، وإن اتحدت دوافعهم، ليسوا متفقين على الكيفية المثلى للتأويل وكيف يكون منتجا، وحجتنا الأساسية في ذلك نجدها في الانتقادات المتبادلة بين بعض رواد التأويل، وعلى الأخص انتقادات نصر حامد أبو زيد لبعض المشاريع التأويلية التي صارت تعرف باسم “القراءات المعاصرة.

تصنيف مشاريع التأويل

درس أبو زيد عددا من مشروعات القراءة المعاصرة للتراث، وكتب ملاحظات نقدية بشأنها في بضع مقالات نشرت متفرقة في مجلة الهلال المصرية عامي (1990-1991) وفي مجلة أدب ونقد عام (2006)، ومن خلالها نستخلص أنه ينطلق في تقييمه النقدي لمشروع التأويل من الإقرار بوجود قراءتان في التعامل مع التراث:

–  قراءة تأويلية منتجة: وهي القراءة التي تتوسل بالتاريخانية، فتعمد إلى استنباط الدلالة من خلال العودة إلى السياق، ولا يشير أبو زيد إلى نماذج محددة لهذه القراءة، ولا نعثر على إحالات نصية لها إلا ما دونه في كتابه (مفهوم النص)، ولذا نستنتج أنه يضع ضمن هذه الفئة محاولته، على حين لا يشير إلى محاولات تاريخية أخرى مثل محاولة أركون على سبيل المثال.

–  قراءة تأويلية غير منتجة: وضمن هذه الفئة تقع جل المشاريع القراءات التأويلية التي انحرفت عن جادة التأويل المثمر لدواعي منها: الوقوع في أسر الحداثة أو الأيديولوجيا، أو لتقاعسها عن النقد التاريخي، وما يجمعها أنها قراءات حسنة النية، ومن أمثلتها: محاولة محمود طه، وجمال البنا، وخليل عبد الكريم، ويستثني من هذه المحاولات التأويلية محاولتان كان يؤمل منهما الكثير لكنهما لم تثمرا، وهما محاولة حسن حنفي الذي استفاض في الوحي بوصفه علاقة جدلية بين الإلهي والإنساني، لكنه انشغل عنه بالتجديد في العلوم التراثية، ومحاولة فضل الرحمن الذي أكد الدور الإنساني ضمن عملية الوحي في حديثه عن محورية دور الرسول ، لكنه مثل حنفي شُغل بمسألة أخرى هي التحديث، وعليه ظل سؤال كلام الله وماهيته غائبة عن البحث.

وفي أقصى اليسار من القراءات غير المنتجة نجد ما يسميه أبو زيد ب” القراءة التلوينية المغرضة” التي تتجاهل السياق التاريخي الذي نشأت فيه النصوص وتضفي أيديولوجيتها الخاصة عليها زاعمة أنها الدلالة التي تنطق بها النصوص، وتتميز هذه القراءة بخاصيتين؛ أولهما أنها تسعى إلى “التلفيق” بين طرفين أحدهما صلب وثابت وهو المعرفة الغربية المعاصرة، والآخر هو التراث وهو الطرف الرخو المتحرك أو المتغير، القابل للتشكيل وإعادة التأويل ليوافق الطرف الأول، وثانيهما أنها تصر عمدا على إهدار السياق التاريخي والاجتماعي لكل من الطرفين، ويضرب أبو زيد مثالا لها بمحاولة محمد شحرور في كتابه (القرآن والكتاب).

انتقادات على هامش التأويل

لم يكتف أبو زيد بتوجيه نقد إجمالي لمشروعات القراءة والتأويل، وإنما قدم انتقادات تفصيلية لعدد منها، وهي:

– مشروعمحمود محمد طه: ويتلخص في تمييزه بين رسالتين في الوحي: الرسالة المكية، وهي الأصل والجوهر، والرسالة المدنية، وهي رسالة القرن السابع الهجري في التشريع القانوني، وفي فهم محمود طه أن العرب لما أخفقوا في فهم الرسالة الأولى بسبب بدائيتهم العقلية كانت الرسالة الثانية حتمية حتى يصل الوعي الإنساني إلى الرسالة الأولى، ولكن بما أن الوعي الإنساني بلغ منتهاه في القرن العشرين فإنه صار مؤهلا لاستعادة الرسالة الأولى، ونسخ الرسالة الثانية “المؤقتة التي هي رسالة القرن السابع الموجهة للعرب.

ويلاحظ أبو زيد أن مشروع محمود طه حاد عن التأويلية المنتجة من جهات؛ الأولى أنه التف حول جوهر المشكل الذي يجب على القراءة التأويلية التصدي له، وهو النص الديني وهل هو ذو طبيعة إلهية متعالية أم ذو طبيعة تاريخية كذلك، والثانية اعتماده على علمين من علوم القرآن هما: علم المكي والمدني وعلم الناسخ والمنسوخ، لكنه أعطى لنفسه الحق في فهمهما خارج السياق التاريخي لتشكل العلوم الإسلامية خصوصا ولتاريخ الإسلام عموما، ومن جهة ثالثة لم يقدم تحليلا نقديا للعلوم التي استند إليها ولا للوقائع والحوداث التاريخية. ويفهم من هذا أن الانتقاد الرئيس لأبي زيد هو افتقاد التاريخانية مما أدى إلى أن “تصبح الحداثة مرجعية التأويل” في هذه المحاولة.

–   مشروع جمال البنا: وهو مشروع يبدو لأبي زيد ضحلا حيث يقوم على التمييز الحاد أو بالأحرى الفصل بين الإسلام والمسلمين، حيث الإسلام جوهر ثابت متعال يتمثل في القرآن الكريم والسنة الصحيحة، وهذه المصادر الأصيلة للإسلام لوثها الاختلاط بالأقوام والشعوب الأخرى، وحركة الترجمة، ومؤامرات اليهود والنصارى، وعلوم التصوف والكلام.

ويجمل أبو زيد انتقاده للبنا في مسألتين، الأولى أنه “ينتهي .. بهذا التمييز الحاد بين الإسلام والمسلمين إلى اعتبار الخصوبة الناتجة عن التلاقح الفكري تلوثا يجب إزالته” مستعيدا بذلك دعاوى الحركات الأصولية المتطرفة التي ترفض الإرث الحضاري المشترك، والثانية تعامله الانتقائي مع النصوص، وباعتبارها تخلو من أي سياق إنساني أو تاريخي إلا سياقه هو، وهكذا تغدو “الحداثة هي العدسة الوحيدة التي نرى النصوص من خلالها، لكنها الحداثة المفصلة تفصيلا على قدر منهج قراءة النصوص، بلا أي قدر من معاناة النقد التاريخي”.

–  مشروع خليل عبد الكريم: وهو يبدو منشغلا  بالتاريخانية والنقد التاريخي سواء في كتاباته الأولى (الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية) أو المتأخرة مثل (فترة التكوين في حياة الصادق الأمين) و(النص المؤسس ومجتمعه)، وفي رأي أبو زيد فإن هذا الإنشغال هو انشغال ظاهري وحسب لأنه مارس نقدا تاريخيا هشا للنصوص “لا يكاد يتجاوز منهج “نقد الرواية” في التراث النقدي لعلم الحديث”!! وكأن المحدثين كما يعتقد أبو زيد ما قدموا نقدا جذريا لكل من الرواة ومروياتهم عبر أدواتهم ومناهجهم.

  وأما الانتقاد الجوهري لخليل عبد الكريم فهو إنما يبتغي من وراء مشروعه تقويض سلطة المؤسسة الدينية أو سلطة التقديس كما يسميها وليس له غايات معرفية، ولذلك فهو “يوظف بعض إجراءات منهج النقد التاريخي لغايات براجماتية وأهداف أيديولوجية واضحة، مضحيا دون قصد بالغاية المعرفية، وبذلك يتحول النقد التاريخي عنده إلى الوقوع في إنتقائية واضحة للنصوص التراثية التي تحقق غاياته، متجاهلا أو مهملا التعامل مع النصوص التي تعارض أهدافه، وبعبارة أخرى تبدو النهايات محددة سلفا فيصبح من السهل انتقاء الشواهد النصية التراثية التي تصل بالقارئ إلى هذه النهايات”، ويضرب أبو زيد نموذجا لهذه الانتقائية من كتاب (فترة التكوين) حيث يرى أن خديجة رضي الله عنها كانت المهندس الذي أعد وهيأ المناخ بالمشاركة مع ورقة بن نوفل وآخرين ليكون محمدا هو النبي المنتظر، ولأجل هذا عمد إلى قراءة تضخيمية لبعض الشذرات والأقوال الواردة هنا وهناك، دون أن يدرك أنه “حول محمدا إلى مجرد ألعوبة [حاشاه ذلك] أو صفحة بيضاء كتب فيها آخرون ما يشاءون”، وهي النتيجة التي يستخلصها القارئ من قراءة المؤلف التضخيمية لبعض النصوص مع إهمال تلك التي قد تتناقض مع منظوره.

– مشروع محمد شحرور: وهو واحد من أسوأ مشروعات التأويل من منظور أبو زيد وأكثرها ارباكا، حيث تغلفها هالة من العلمية الزائفة الراجعة إلى كون صاحبها مهندسا يوظف المناهج العلمية الحديثة وعلوم اللغة في دراساته، وقد تصدى أبو زيد لتفنيد مشروع شحرور في مقالين نشرهما بمجلة الهلال المصرية في العقد الأخير من القرن الماضي، واستدعى ذلك ردا من شحرور، والخلاف الجوهري بينهما يتعلق بمسألة التاريخانية، فقد فهم شحرور أن أبا زيد بإصراره على التمسك بالتاريخانية قد جعل القران جزءا من التراث التاريخي ولم يتبق منه إلا الأخلاق فقط  التي يمكن أن نفيد منها في عصرنا الراهن، وهو ما لا ينفيه أبو زيد لكنه يوضح أن التاريخانية التي يدعو إليها لا تعني أن دلالة النص مرهونة بالسياق الاجتماعي والثقافي لعصر التنزيل لأن اللغة لها نظام خاص أو شفرة تنقل بها الدلالة من الخاص إلى العام ومن الجزئي إلى الكلي أو بعبارة أخرى من عصرها إلى العصور التالية، وهو ما لم يفهمه شحرور قط، ويمكن تلخيص انتقادات حامد أبو زيد في النقاط التالية:

أولا: أنه ينطلق من دعوى عريضة فحواها عدم وجود ترادف في اللغة إطلاقا لغة العرب عموما ولغة القرآن تخصيصا، على حين يميز علماء اللغة في دلالة المفردات بين “الدلالة المعجمية” حيث يوجد الترادف، وبين “الدلالة التركيبية” حيث لا يوجد ترادف.

ثانيا: يرتب شحرور على مقولة عدم الترادف دعوى أخرى وهي أن ألفاظ: القرآن، الذكر، السبع المثاني، الفرقان… لا تشير إلى مدلول واحد، وما يهم هو تمييزه بين القرآن والكتاب حيث الأخير تاريخي وقابل للتطور والقرآن ثابت ومحكم ولا يحتاج إلى تأويل، وهذا الكلام أشبه ب”الوثبات اللغوية في الفراغ.. حيث اللغة كائن هلامي بلا معجم ولا دلالة استعمالية”.

ثالثا: وبعيدا عن اللغة يواجه شحرور إشكالية أخرى-كما يعتقد أبو زيد- وهي شمول المعاني الدينية في ظنه من جهة، وصلاحيتها لكل زمان ومكان من جهة أخرى، وليس للشمولية عنده سوى معنى واحد عنده هو تضمن القرآن لكل الحقائق والقوانين الطبيعية والاقتصادية والاجتماعية والإنسانية، وهو ما يجعله أقرب لفكر الإسلام المحافظ التي يدعي إنكاره لها.

الخلاصة، أننصر حامد أبو زيد كان مهموما بفحص وتقويم مشاريع القراءة المعاصرة، ونقده المركزي لها يتخلص في: إهدارها التاريخية، وتغييبها “سؤال كلام الله وطبيعة الوحي وكيفيته” الذي يستدعي بالضرورة تساؤلات أخرى تتعلق بكيفية الجمع والتدوين والمصاحف الأخرى التي استبعدت، وبعبارة أخرى فإن نقد أبو زيد يتلخص في أن هذه المشاريع لم تمس مسألة قداسة النص القرآني وألوهيته وشغلت بمسائل أقل أهمية.