شغل سؤال التعلم أذهان المفكرين الإسلاميين منذ أوائل القرن الثالث الهجري تقريبا، ومن أوائل من كتب فيه محمد بن سحنون في كتابه (آداب المعلمين) وتبعه آخرون في الشرق والغرب كالإمام الغزالي في (أيها الولد)، والزرنوجي في (تعليم المتعلم طرق التعلم) وابن حزم الأندلسي في رسالته (مراتب العلوم) والتي صاغ خلالها معالم نظريته حول التعلم وكيف يكون.
في السطور التالية سنبسط القول في هذه الرسالة لسببين:
الأول: ندرة كتابات ابن حزم في المجال التربوي حتى لتكاد تنحصر في هذه الرسالة وقسم من كتاب (التقريب لحد المنطق)، على حين جاءت كتاباته غزيرة في مجالات معرفية أخرى كالفقه والأدب ومقارنة الأديان والمناظرة.
الثاني: الأهمية المعرفية لهذه الرسالة التي تجمع ما بين النظر الفلسفي وبخاصة في الشق المتعلق بالحديث عن ماهية العلم وتقسيم العلوم ومراتبها، والإجراءات العملية الواقعية التي يقدمها ابن حزم لتلاميذه الذين سألوه عن طرائق التعلم.
أقسام العلوم ومراتبها
العلم هو كل ما عُلِم كما يقول ابن حزم فيدخل في ذلك التجارة والخياطة وتدبير السفن وفلاحة الأرض، وبهذا المعنى فالعلوم متعددة ومتشعبة ومن ثم يحاول تصنيفها من جهتين هما عدد العلوم وما يجوز تعلمه وما لا يجوز، وأما العدد فهو يرجح أن العلوم في كل أمة وفي كل عصر من العصور سبعة علوم هي: ثلاثة علوم خاصة ويقصد بها علم شريعة كل أمة -إذ لابد لكل أمة من عقيدة تعتقدها-وعلم أخبارها وعلم لغتها، وأربعة علوم تشترك فيها الأمم جميعا وهي: علم النجوم وعلم العدد وعلم الطب وعلم الفلسفة.
وأما من جهة جواز التعلم والنفع فالعلوم لديه قسمان: قسم ينبغي تعلمه ويشمل علوم الشريعة والعلوم التي يحتاجها الناس في معاشهم وينتفع بها في الوقت كالتجارة والطب والفلاحة، وقسم آخر يحظر تعلمه والاشتغال به إما لأنها علوم اندثرت ولم يعد ينتفع بها كالسحر والموسيقى أو لأنها تورث صاحبها الخسران الأخروي كالاشتغال بالنجوم لمعرفة الغيب أو لأنها من قبيل التحيل لاغتصاب أموال الناس كعلم الكيمياء الذي يحيل جوهر ما إلى جوهر آخر الذي هو ليس بعلم ولم يكن له وجود على الإطلاق.
ويلاحظ أن ابن حزم لم ينح إلى اقتفاء أثر سابقيه في الفكر اليوناني أو الإسلامي إذ لا نجد لديه تأثرا بتقسيم أرسطوطاليس اليوناني الذي قسم العلوم إلى علوم نظرية وأخرى عملية ثم عاد وقسم العلوم النظرية إلى : العلم الرياضي، والعلم الطبيعي، والعلم الإلهي (لمتافيزيقا)، كما لا نعثر على أثر للتقسيم الثنائي علوم الدنيا وعلوم الآخرة، ذلك أنه يرى جواز الاشتغال بأي علم كان شريطة إضمار النية أن يكون وسيلة لنيل الثواب الأخروي.
وبحسب ابن حزم فإن على المرء تحصيل قدر من العلوم الدينية وألا يقتصر على العلوم الدنيوية وحجته أن “للمرء داران دار الدنيا ودار معاده إذا فارق الدنيا، وبيقين ندري أن مدة المقام في هذه الدار إنما هي أيام قلائل، وإجهاد المرء نفسه فيما لا ينتفع به إلا في هذه الدار من العلوم رأي فائل، وسعي خاسر”،ومن ثم يخلص إلى أن أفضل العلوم هو “ما أدى إلى الخلاص في دار الخلود ووصل إلى الفوز في دار البقاء” ولكن هذا لا يعني الحط من شأن العلوم الدنيوية لأن العلوم “يتعلق بعضها ببعض ولا يستغني منها علم عن غيره” وبهذا القول يكون ابن حزم من أوائل من توصلوا إلى مبدأ “التكامل المعرفي”.
مراحل طلب العلم
لا يتوصل إلى العلم إلا بالطلب “ولا يكون الطلب إلا بسماع وقراءة وكتاب، لابد من هذه الثلاث خصال وإلا فلا سبيل دونها إلى شيء من العلوم البتة”، ويبدأ الطلب منذ الصغر في حدود الخامسة على يد “مؤدب الصبيان”، ولهذا الطلب مراحل أفاض فيها ابن حزم وجعلها لب رسالته لكنه لم يفصح أهي متعاقبة أم متزامنة يمكن أن تتداخل إلا أننا نرجح كونها على التعاقب لأنه يشترط بلوغ المتعلم الحد المعرفي لكل مرحلة حتى ينتقل إلى ما سواها، وقد استخرجها الدكتور إحسان عباس وأحصاها فجاءت على سبع مراحل:
- المرحلة الأولى: وهي مرحلة تمهيدية يكتفى فيها بتعلم الخط والقراءة، وغايتها كتابة خط قائم الحرف وإجادة القراءة وحفظ كتاب الله تعالى، والكتاب المقرر فيها القرآن الكريم.
- المرحلة الثانية: وتعنى بعلوم اللغة من نحو وبلاغة وشعر، ومرادها إتقان الإعراب وامتلاك ناصية الكتابة ومعرفة الكتب المتداولة وكتب الشعر، والكتب المقررة فيها الغريب المصنف لأبي عبيد، ومختصر العين للزبيدي.
- المرحلة الثالثة: وتختص بدراسة علم العدد وهدفها إتقان العمليات الحسابية المختلفة ثم توظيف المعرفة الرياضية في معرفة دوران الكواكب والفلك، والكتب المقررة فيها مؤلفات إقليدس والمجسطي لبطليموس.
- المرحلة الرابعة: ويدرس فيها المنطق والطبيعيات كالجو والحيوان والمعارف، وغايتها معرفة البرهان وكيفية الاستدلال على القضايا والإلمام بمبادئ العلوم الطبيعية، ومنذ هذه المرحلة يتوقف ابن حزم عن ترشيح بعض القراءات ويترك الأمر للدارس باعتبارها مرحلة متقدمة نسبيا.
- المرحلة الخامسة: وتعنى بدراسة أخبار الأمم السابقة أو التاريخ، وغايتها معرفة تواريخ الأمم المختلفة وحوادثها، وأصحها تاريخ الأمة الإسلامية يتلوه تاريخ بني إسرائيل، ثم أخبار الروم وأخبار الفرس.
- –المرحلة السادسة: وهي مرحلة متقدمة يدرس خلالها الدارس القضايا الانطولوجية -الوجوديةمثل: هل العالم محدث أم أزلي؟ ما إمكانية حدوث النبوات، وكيف يمكن التدليل عليها.
- المرحلة السابعة: وهي أرقى المراحل وتعنى بدراسة علوم الشريعة، ومرادها التمكن من علوم الشريعة الرئيسة وهي: علوم القرآن، الحديث، الفقه، علم الكلام بتفريعاته.
كيفية طلب العلم وآدابه
لم يكتف ابن حزم بصوغ المراحل المختلفة للتعلم وإنما أوضح الكيفية التي يطلب بها العلم فذكر أن “الواجب أن يتهمهم المرء بالعلوم الممكن تعلمها التي ينتفع بها في الوقت، وأن يؤثر منها بالتقديم ما لا يتوصل إلى سائره إلا به، ثم الأهم فالأهم والأنفع فالأنفع”، وصاغ جملة من الإجراءات العملية التي تسهل عملية الطلب وتصل بها إلى غايتها في مدة وجيزة، وهي على النحو التالي:
- السكن في البلدة التي تعرف بأنها حاضرة علم ويكثر فيها العلماء، إذ لا يتصور طلب علب في بلدة تخلو من العلماء.
- يقصد المتعلم العلم لذاته دون سائر أعراض الدنيا من اللذات والمال والصوت (الشهرة).
- يتنقل المتعلم بين مجالس العلماء ويقيد ما يسمع ويجمعه في أوراق، وليس له أن يتقيد بالحضور عند عالم واحد فهو في هذه الحالة كمن شرب من بئر واحدة طيلة حياته ولعله ترك العذبة وآثر المالحة.
- عدم الاقتصار على علم واحد، فمن تعلق بعلم واحد أوشك أن يكون “ضحكة” فما خفي عليه من العلم يفوق ما اقتصر عليه لارتباط العلوم بعضها ببعض.
- تعذر الإحاطة الكلية بجميع العلوم، فمن يطلب جميع لن يتحصل على فائدة ولن يربح شيئا ذا بال إذ العمر يقصر عن إدراك تلك الغاية.
- يأخذ المتعلم من كل علم بنصيب، وليبدأ بأعراض ذلك العلم ثم ما به ضرورة إلى ما لابد منه، ويستكثر من العلم الذي يجد له ميلا له بقلبه وطبعه وبحيلته (بقدراته الذاتية) وليكن ذلك في علمين أو ثلاث على الأكثر.
- اقتناء الكتب وخزانتها فلولا الكتب لفنيت العلوم كما يقول إذ لن يخلو كتاب من فائدة وزيادة علم يجدها فيه صاحبه إن احتاج إليها.
- المداومة على طلب العلم وعدم الانقطاع وملازمة المحبرة والكتب في الإقامة والترحال.
- الفصل بين المعرفي والسياسي، وقد وقف أمامه ابن حزم طويلا وشدد على ضرورة تجنب طالب العلم السلطان ورجال السياسة “فمن ابتلي بصحبة سلطان فقد ابتلي بعظيم البلايا”.
- وأخيرا ليس على المتعلم أن يذم علما يجهله وأن يعجب بما علمه، وليس له أن يحسد من يفوقه علمًا لأن ذلك من رذائل التعلم.
وبالجملة لقد أفلح ابن حزم في أن يضع إطارا نظريا متكاملا بين خلاله ما هي العلوم الواجب تعلمها وما هي مراتبها، وكيف يكون الطلب ومراحله وآدابه.