الفراغ جاء في القرآن المجيد في آيات معدودة وفي سياقات تعطي دلالة على أن هناك شيئًا كان يحتل أو يملأ حيزا فأفرغ ما فيه في غيره فيقال أصبح فارغًا، وبهذا اللفظ جاء قوله تعالى: ﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا﴾ (القصص:10) فأصبح الفؤاد فارغًا أي فارغًا من الصبر، أو فارغًا من الخوف حين ألقته باليم، المهم كـأن فؤادها لم يعد مشغولًا بشيء ولا يملأه بعد أن ألقت بفلذة كبدها إلى الماء.
ويهدد الله الثقلين بأنه ﴿ سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ﴾ (الرحمن:31)، يريد (جل شأنه) أن يقول للثقلين بأن بعثكم وحشركم وحسابكم، ونعيم البعض منكم وجحيم البعض الآخر كل هذا سيقع ويتم ، لن يشغلني ولله المثل الأعلى شيء عن محاسبتكم فأنا أسرع الحاسبين وسأفصل بينكم وأنا خير الفاصلين، وحين نقول في دعاءنا: “ربنا أفرغ علينا صبرا” نريد بذلك أننا في حاجة إلى إنزال الصبر بوفرة وقوة إلى قلوبنا لئلا يشغلها الخوف والرعب من الأعداء.
ويقول (جل شأنه) لسيدي رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم-: ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ﴾ (الشرح:7) أي فرغت من انشغالك بالناس ودعوتهم وتزكيتهم وتلاوة القرآن عليهم وتعليمهم فلا تخلد إلى الراحة؛ لأنك في حاجة دائمة إلى العون الإلهي فانصب في عبادتك أشغل بها نفسك وقلبك وعقلك ووجدانك فذلك يمنحك القدرة على مواصلة جهودك وتحمل أمانتك وتبليغ رسالتك، وذلك فراغ العاملين والأنبياء والمرسلين.
أما ما يريده الناس بالفراغ اليوم فهو فراغ لا يحمل من هذه المعاني الكثير فهو مفهوم مستعار من أناس قد يعطلون أشغالهم ويوقفون أعمالهم لتفريغ أنفسهم لما يسمى بالإجازات وطلب الراحة والاسترخاء فيعتبر البعض الفراغ ضرورة لأي مشتغل للطالب والمدرس والعامل والفلاح وسوى ذلك.
وهذا أمر نجد رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- يفرغ الناس منه فيقول لبلال عندما يفرغ -عليه الصلاة والسلام- من شؤون الدعوة والقضاء والفتيا وإرسال الرسل وتدبير شؤون الأمة “أرحنا بها يا بلال”، أي أذن ونادي للصلاة فهي موضع راحتنا القلبية لأنها ذكر الله وعبادة تمنح من الطمأنينة أضعاف مضاعفة عما يمنحها الفراغ، فهو غير المفهوم المتداول اليوم ولذلك فوقت المؤمن كله عمل إذا ذكرت الخيرات والإحسان، وكله فراغ إذا ذكرت المعاصي والذنوب والآثام فهو يحرص أن يكون فارغا منها بعيدا عنها منشغلا بطاعة الله (جل شأنه) وذكره والضراعة إليه ودعائه ومناجاته والتعلم واكتساب الخبرات والمعارف والتجارب وقد يسيح في الأرض ويجعل من سياحته علم ومعرفة وفراغًا وفسحة وتجارب جديدة وخبرات يحتاجها ومكاسب يريدها ويرتضيها فكل أكره إلى خير.
لكن هذا الفراغ الذي تعلمناه من حضارات أخرى القائم على نبذ الشغل والإخلاد إلى الدعة والسكون ومحاولة تجديد الطاقات فنحن لا نعرفه بهذا المعنى، ولكننا نعرفه بتوظيف الزمان والمكان والصحة والفراغ والشباب وكل ما لدينا للمهام الصعبة، فقدوتنا رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- حين تلقى الوحي في البداية وذهب يرجف فؤاده مما تلقى وسمع ورأى وقال: “دثروني زملوني” يريد أن يلتقط أنفاسه وأن يهدأ من روعه وأن يستوعب ما رأى وما سمع، نزل عليه قول الله “المدثر المزمل.” فكأنه لفته إن مثلك راحته في ناشئة الليل وسعادته في مناجاة الله ورسالته أن يوصل هذا القرآن إلى كل بشر يستطيع إيصاله إليه.
والقرآن هنا يقدم للمسلمين ولقراء القرآن المتدبرين التالين له حق تلاوته نظرية كاملة إن صح التعبير في الشغل والفراغ، تستوعب ما قدمته الحضارات الأخرى من نظريات وتتجاوزها؛ لتجعل فراغك شغلا وشغلك مثمرا ونجاتك في نشاطك ونشطك رحمة للعالمين.