يستعرض الباحث التونسي الدكتور نور الدين الخادمي في كتابه “حقوق الإنسان مقاصد الشريعة” جملة من القضايا التي تكشف عن طبيعة العلاقة بين حقوق الإنسان ومقاصد الشريعة الإسلامية، وقد استطاع الدكتور الخادمي من خلال هذه الدراسة أن يسلط الضوء على الإطارات المتعددة لحقوق الإنسان، كالإطار الشرعي والثقافي، والإطار السياسي، والإطار الاقتصادي والاجتماعي، والإطار التربوي والمستقبلي.

وإذا أردنا تنزيل كتاب “حقوق الإنسان مقاصد الشريعة” في سياق محدد، فيمكن أن نقول إنه يأتي في سياق ضرورة استحضار مقاصد الشريعة في مقاربة موضوع حقوق الإنسان، لأن استحضار المقاصد الشرعية سيمكّن من أمور عديدة منها: اختبار ما يتبلور من مفاهيم وقيم عالمياً، وبلورة حقوق مؤسسة على الإسلام وقيمه السمحة تواكب التطورات الحاصلة في حياة المسلمين، ولا شك أن هذا الأمر يكشف عن قيمة هذا الكتاب الذي يأخذ أهميته من كونه يُعنى بقضية حقول الإنسان وكافة جوانب العلمية والتاريخية والواقعية والمستقبلية، ويدعو إلى استدعاء مقاصد الشريعة لمعالجة هذه القضية وكافة مشكلاتها وتداعياتها.

وما دمنا يمكن أن نقول بكل عز ووضوح إن مقاصد الشريعة الإسلامية تحمل الخير والرحمة والحرية والعدل والمساواة والسعادة للناس على اختلاف ألوانهم وأعراقهم ولغاتهم وبيئاتهم، فهل نستطيع أن نقول إن قوانين حقوق الإنسان تحمل الخير إلى البشر وتهدف إلى إسعادهم بطريقة أو بأخرى؟ وهل يمكن الجزم بتقاطع حقوق الإنسان مع مقاصد الشريعة؟ وهل تُشكّل حقوق الإنسان تطوراً إيجابياً في تاريخ البشرية؟ وهل الأولوية لإنسانية الإنسان أم لحقوق الإنسان؟ هذا ما نحاول الإجابة عليه من خلال هذه المقالة.

البعد المقاصدي لحقوق الإنسان

إن أول نقطة أساسية ينبغي نقاشها في سياق الحديث عن الإطار المفهومي لقضايا مقاصد الشريعة وحقوق الإنسان هي البعد المقاصدي لحقوق الإنسان والعلاقة ونوع الارتباط بين المقاصد والحقوق ومدى إحكامه، والحقيقة أن الناظر في مقاصد الشريعة وحقوق الإنسان يلاحظ أن هناك ارتباطاً شديداً وتلازماً واضحاً “بينهما وجوداً وعدماً، فالحقوق تدور مع المقاصد وجوداً وعدماً، وحيثما توجد المقاصد توجد الحقوق، وحيثما تنعدم هذه المقاصد تنعدم هذه الحقوق”، حسب تعبير نور الدين الخادمي. 

ومن هنا يمكن القول إن حقوق الإنسان تشكل تطوراً إيجابياً في تاريخ البشرية التي تهفو إلى الحرية وترنو إلى العدالة والمساواة والمآخاة منذ أمدٍ بعيد، وقد ذكر الدكتور أحمد الريسوني في دراسة له بعنوان: “إنسانية الإنسان قبل حقوق الإنسان” أن “الوضع الطبيعي والسوي هو أن تكون العناية بالإنسان -من حيث هو إنسان- أسبق وأكثر من العناية بحقوق الإنسان، لأن هذه الحقوق إنما أضيفت للإنسان واستحقها لكونه إنساناً.

ورغم أن حقوق الإنسان تفتقر إلى بعض المرتكزات الثابتة والأهداف الواضحة، إلا أنها تتقاطع مع مقاصد الشريعة بل تستمد منها بشكل مباشر أو غير مباشر، “فالمقاصد الشرعية إطار فكري معرفي إسلامي تتأطر فيه الحقوق الإنسانية، وتتفرع عنه تفصيلاتها، وتُعالج بموجبه مشكلاتها، وتُرسم على وفقه مآلاتها وآفاقها”، والحق أن هذا الأمر ينبغي أن يدفعنا إلى العمل الجاد حتى تصبح المقاصد -نظرياً وعملياً- إطاراً شرعياً مرجعياً لحقوق الإنسان بكل أبعادها وقضاياها وتطوراتها.

وإذا تساءل القارئ عن كيفية اعتماد مرجعية المقاصد لحقوق الإنسان ومعناها، فيمكننا أن نشير هنا إلى أن المؤلف ذكر أن المراد بهذه الكيفية اعتماد أمرين اثنين في تقرير المقاصد لحقوق الإنسان، يتمثل الأول في إرجاع كل مقولة حقوقية إلى المقولة المقاصدية بضرب من ضروب الإلحاق والتفريع والموازنة والاستخلاص والتقرير، في حين يتمثل الثاني في استحداث المقولة المقاصدية الجديدة لاستيعاب المقولة الحقوقية، وهناك أمثلة على هذا الاستحداث منها: إضافة كلية جديدة توسم بكلية الحرية، وكلية جديدة توسم بكلية الحقوق الإنسانية، وكلية جديدة توسم بكلية حفظ البيئة، وكلية جديدة توسم بكلية حفظ العدالة والقيم الأخلاقية.

ويبدو أن اعتماد مرجعية المقاصد لحقوق الإنسان له مجموعة من المتطلبات، منها المتطلبات المتعلقة بالمعرفة العلمية الشرعية والمقاصدية، والمتطلبات المتعلقة بالواقع الحقوقي الإنساني، والمتطلبات المتعلقة بكيفية تنزيل المقاصد على الحقوق الإنسانية، بالإضافة إلى المتطلبات المتعلقة بالجهة القائمة بالاجتهاد والتنزيل، وكل هذه المتطلبات تحتاج منا دراسة واستحضاراً لكي تبقى المقاصد الشرعية مؤطرة لحقوق الإنسان بشكل واضح ونافع ومستمر.

الإطار التاريخي لحقوق الإنسان

ليس من المبالغة القول إن حقوق الإنسان تعكس تاريخ الإنسان منذ القرون الغابرة، فقد ولدت حقوق الإنسان معه منذ وجوده على هذه الأرض وستبقى معه حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً، وانطلاقاً من هذه الفرضية سيكون من الصعب إعطاء صورة دقيقة وشاملة عن الإطار الشرعي والثقافي والتاريخي لحقوق الإنسان، ولكن حسبنا أن نحاول تسليط الضوء على واقع حقوق الإنسان في بعض الحضارات القديمة، لنكتشف طبيعة العلاقة الموجودة بين حقوق الإنسان ومقاصد الشريعة، ومدى حاجة الإنسان إلى تأطير حقوقه الإنسانية المختلفة داخل حقل المقاصد الشرعية.

إن الحديث عن الإطار الشرعي والثقافي والتاريخي لحقوق الإنسان يستلزم جملة أمور منها الانطلاق من مستويات معنية تنطلق من مقاصد الشارع التي من أهمها: إفراد الله بالعبادة وإسعاد الإنسان في الدنيا والآخرة، والظاهر أننا إذا نظرنا إلى هذه المقاصد فإننا سنجدها تؤطر حقوق الإنسان وتحتويها وتحميها، فإذا كان موضوع مقاصد الشريعة جلب المصالح ودرء المفاسد فإن هذه هي الغاية الكبرى لحقوق الإنسان أو كهذا يفترض، وإذا كان هدف المقاصد الشرعية حفظ الكليات الخمس (الدين والنفس والعقل والنسل والماء) فإن حقوق الإنسان تحاول السير على هذا المنهاج، رغم الفرق الشاسع بينهما بالطبع.    

وهكذا يبدو أننا إذا نظرنا مثلاً إلى حضارات بلاد ما بين النهرين في العراق القديم، سنجد أنها حثت على احترام حقوق الإنسان بل قامت بوضع قوانين لحماية هذه الحقوق، ولعل من أشهر تلك القوانين قانون حمورابي الذي حكم الدولة البابلية فترة طويلة، وقد جاء في ديباجته: “أنا حمورابي الأمير الأعلى عابد الآلهة كي أنشر العدالة في العالم وأقضي على الأشرار والآثمين، وأمنع الأقوياء أن يظلموا الضعفاء، وأرعى مصالح الخلق”.

أما إذا ألقينا نظرة سريعة على تاريخ الحضارة الهندية، فسنجد أنها أيضاً قد اعتنت بحقوق الإنسان وقسمت حقوق الطبقات وواجباتها إلى: طبقة البراهما، وطبقة الكشتريا، وطبقة المنبوذين، وعلى هذا المنوال سارت الديانة البوذية التي يبدو أنها قد اعتنت بالحقوق وقامت في أول عهدها بثورة ضد نظام الطبقات الذي أقرته الديانة الهندوسية، واعتمدت الحضارة الصينية في بداية عهدها على “القانون الأخلاقي”، وهلم جرا.

ولم يغفل المجتمع العربي قبل الإسلام موضوع حقوق الإنسان، فقد ظهرت فيه وثيقة الفضلين التي تُعدُّ من أقدم الوثائق التاريخية التي اهتمت بحقوق الإنسان، وكانت هذه الوثيقة تنظم حقوق المواطنين المقيمين بمكة وأطرافها، وأقرّت معاني الكرامة والحرية والسلام والعدالة والمساواة بين الأفراد، وقد تميز اهتمام العرب بحقوق الإنسان بالتوارث حيث توارثوا معاني القيم الحقوقية، ومع بزوغ فجر الإسلام ظهرت رسالة الإسلام العالمية والحقوقية والإنسانية والحضارية لتنشر قيم الإخوة والحرية والعدالة والمساواة في وقت كانت في مجتمعات أخرى تعاني من الظلم الاستبداد والأذى إزاء حقوقها.  

نلاحظ الحرص الواضح على العمل على إيجاد حماية قانونية لحقوق الإنسان والحث على إسعاده وحفظ كرامته ونفسه وماله وعرضه، ولعل من أبزر الأمثلة على ذلك المحور الذي خصصه الدكتور نور الدين الخادمي للحديث عن مخاطر الاعتداء على حقوق الإنسان، حيث أكد على أن الاعتداء على حقوق الإنسان يمثل إجراماً خطيراً ومحظوراً عظيماً ومخالفة صريحة لنصوص الشرع ومقاصده ومراده.

ويبدو جلياً أن الاعتداء على الحقوق الإنسانية يرتبط دائماً بأغراض وأطماع مختلفة سواء كانت اقتصادية أو تكنولوجية أو لها علاقة بالأهواء الخاصة والعامة، ويسعى إلى أهداف عديدة منها: إدامة فعل الاعتداء وتحقيق استمراره، وإضفاء المشروعية والمعقولية والقانونية على ظاهرة الاعتداء وأنواعها وصورها، وكسب أصوات إضافية لمشروع الاعتداء، وكل هذه الأهداف مرفوضة ومخالفة لمقاصد الشريعة لأنها مُضرّة بحقوق الإنسان في كل زمان ومكان.

وإذا أردنا محاولة الكشف عن نظرة مقاصد الشريعة الإسلامية إلى الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، فسنجد أنها تتحد في عدة مستويات وتختلف من مستوى إلى مستوى، ومنها: مستوى جلب المصالح ودرء المفاسد، ومستوى حفظ الكليات الخمس، ومستوى وسائل المقاصد، ومستوى مقاصد المكلف، وحين ننظر إلى الميثاق العالمي لحقوق الإنسان سنجد أنه غير فاعل بالكيفية المطلوبة اللازمة -في بعض المجالات والأحوال- رغم حسناته وأفعاله الحقوقية والإنسانية المتعددة، وهنا تتأكد أهمية استحضار مقاصد الشريعة وتفعيلها حين مقاربة حقوق الإنسان، لكي نؤسس إطاراً مرجعياً ناجحاً يعتمد على المبادئ الشرعية الفعَّالة ليفيد البشرية جمعاء وينقذها من براثين الضياع والظلم والأذى.

الإطار الاقتصادي لحقوق الإنسان

أما عندما ننتقل إلى الإطار الاقتصادي والاجتماعي لحقوق الإنسان، فلا شك أننا سنجد ميادين عديدة يمكن أن نكتشف من خلالها العلاقة بين مقاصد الشريعة وحقوق الإنسان، ودعونا هنا نأخذ الأمن الغذائي كمثال وسنتوصّل إلى مبررات عديدة لارتباط الأمن الغذائي بحقوق الإنسان وبالتالي مقاصد الشريعة، ومنها: الشواهد الواقعية التي كان غياب الغذاء فيها أو قلته بوابة لانتهاك حقوق الإنسان أو تقليلها وإضعافها، والتجارب الاقتصادية والغذائية الواقعة في مجال الهندسة الوراثية بوجه عام، هذا بالإضافة إلى الأعمال والسياسات الواقعة في مجال البيئة التي كان بعضها مهدداً لحق كل إنسان في البيئة السليمة من التلوث.

ولكي نوضح الأمر أكثر، يمكننا أن نستعير من الدكتور الخادمي قوله إن “الأمن الغذائي طريق إلى تحقيق مقاصد الشريعة أو هو مقصود شرعي بحد ذاته، أي أن الشارع قد أراد تأمين الغذاء لعباده كأحد مقصوداته المرادة له من الخلق والتكليف.. كما أن الأمن الغذائي هو طريق تحقيق الحقوق الإنسانية أو هو حق إنساني بحد ذاته”، وهكذا يبدو جلياً أن “الأمن الغذائي تتجاذبه مقاصد الشريعة وحقوق الإنسان، وتتوارد عليه حقيقتهما ومفرداتهما”.

وما دمنا أخذنا الأمن الغذائي كنموذج على العلاقة الموجودة بين مقاصد الشريعة وحقوق الإنسان، فيمكننا أن نضيف مثالاً آخر يتمثل في الأمن الاجتماعي ودوره في بناء حقوق الإنسان، إذ من المعروف أن الأمن الاجتماعي فرع من فروع الأمن العام ويُعدُّ من ثمار أمن الغذاء وحق المواطنة، وقد احتفت الشريعة الإسلامية بعبارة الأمن ومشتقاتها ومعانيها، وسبب ذلك أن الأمن مقصد من مقاصد الشريعة الأساسية.

ومن هنا يمكن أن نكتشف البعد الحقوقي للأمن الاجتماعي، فمن حق الإنسان من الناحيتين الشرعية والحقوقية أن يأمن على وجوده وحياته واستقراره وازدهاره، وأن يكون في مأمن من مهددات الأمن الاجتماعي الكثيرة التي تؤثر على حقوق الإنسان، ومنها: التدخل الأجنبي والتهديد الخارجي، والفساد الإداري والمالي والإعلامي، والقصور القضائي، والحيف الاجتماعي، والظلم الاقتصادي، والتمييز العنصري.

الإطار المستقبلي لحقوق الإنسان

لم يطوِ المؤلف صفحات كتابه “حقوق الإنسان مقاصد الشريعة” قبل أن يخصص صفحات منه للإطار التربوي والمستقبلي لحقوق الإنسان الذي أشار فيه إلى جملة من القضايا المهمة، منها مشكلة العولمة وآثارها المتمثل في تنميط الإنسان وجعله حقيقة مادية وانتهاك الخصوصيات الثقافية، وقد أكد على أن تنميط الإنسان ليس إلا تفويتاً لإنسانية الإنسان وكلياته الخمس (الدين والنفس والعقل والنسل والمال)، وانتهاك الخصوصيات الثقافية ليس إلا دليلاً على البغي والظلم وإكراه الشعوب على أديان وأنظمة غيرها.  

وفي هذا المضمار، قام المؤلف بعرض حقوق الإنسان على العولمة الأجنبية والعالمية الإسلامية، حيث قال إن العولمة الأجنبية -في جانبها السلبي- سوف تأتي على حقوق كثير من الناس والشعوب، في حين أن العالمية الإسلامية ليس من أبعادها وأهدافها الهيمنة على الأديان والأنظمة وحرمانها من خصوصيتها، ولهذا نقرأ في القرآن الكريم النهي على الإكراه بشكل صريح في قول الله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}.

وقد لا نكون في حاجة إلى التأكيد على ضرورة الاستشراف المستقبلي لحقوق الإنسان في ظل مقاصد الشريعة الإسلامية نظراً لاتّساع مفهوم الحقوق وتزايد ظاهرة الانتهاكات الداخلية والخارجية، ولكننا بحاجة إلى الإشارة إلى مستلزمات الاستشراف المستقبلي لحقوق الإنسان، ومن أهمها: إعادة الاعتبار لإنسانية الإنسان، وإعادة الاعتبار للدين والخلق والضمير، وتقرير الخصوصيات الثقافية والحضارية والاجتماعية، بالإضافة إلى بيان التفاصيل التي تحدد المواقف وتضبط الموازنات.

كما أننا بحاجة أيضاً إلى معرفة ومناقشة آليات الاستشراف المستقبلي لحقوق الإنسان التي منها: تخصيص بحوث تُعنى بالحقوق الإنسانية من خلال نصوص الشرع والسيرة والسنة وحياة الخلفاء والصحابة رضوان الله عليهم، وإعداد بحوث تحقق التراث الحقوقي الإسلامي، وإطلاق البرامج الإعلامية والإذاعية والفضائية المتناولة لحقوق الإنسان والشريعة ومقاصدها.

وفي الختام، يجدر بنا أن نؤكد مجدداً على أن الأمة الإسلامية قادرة على تقديم مقاربة إسلامية شاملة للحقوق الإنسانية في الحاضر والمستقبل، فلدينا النصوص القرآنية والحديثية التي تدعو إلى تكريم الإنسان والعمل على سعادته وتحقيق رفاهيته وتوفير أمنه الغذائي والاجتماعي والثقافي، ولهذا وغيره تحتاج الأمة العمل بعزم وحزم حتى تصبح المقاصد الشرعية -نظرياً وعملياً- إطاراً شرعياً مرجعياً لحقوق الإنسان بكل أبعادها وقضاياها وتطوراتها.