حكى الطبري عن مسألة الروح في تفسيره لآية 85 من سورة الإسراء (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي)، فقال: إن السائلين عن الروح هم قريش، قالت لهم اليهود: سلوه عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح، فإن أخبركم عن اثنيتن وأمسك عن واحدة، فهو نبي؛ فأخبرهم خبر أصحاب الكهف وخبر ذي القرنين، وقال في الروح: قل الروح من أمر ربي، أي من الأمر الذي لا يعلمه إلا الله.

الإنسان منذ أن بدأ يعي ما حوله، وهو في تساؤل واستفسار وبحث مستمر عن ماهية الروح التي بين جنبيه، لا يدري كنهها ولا سرها، وهل كانت قبل الجسد أم خُلقت معه، ثم ماذا بعد فناء هذا الجسد، إلى غير ذلك من أسئلة كثيرة متنوعة، تداولها الفلاسفة وعلماء الأديان قديماً، وانضم إليهم حديثاً مفكرون وعلماء نفس وأطباء وغيرهم كثير.

لأن المجهول والخفي والغامض، أمور تثير فضول الإنسان وتدفعه لكشف الغامض وفك الألغاز والأسرار، ولأن الروح من تلك الأشياء المجهولة أو الألغاز التي لم يصل العلم إلى فكها بعد، تجد المرء منا لا يتوقف عن التساؤل والبحث عن هذا المجهول، وهو أمر جيد ومطلوب، باعتبار أن التفكر في خلق الله لا يقوم به إلا أولو الألباب، أصحاب العقول المفكرة الباحثة.

هل الروح موجودة قبل الجسد؟

تساؤل قديم متجدد، لكن ما أجمع عليه المفسرون أن الأرواح خلقها الله قبل الأجساد بوقت لا نعلمه، مستندين إلى قوله تعالى (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين)، حيث جمع الله في زمن ما وبكيفية لا يعلمها إلا هو سبحانه، ذرية آدم في أول الخلق في صورة أرواح وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، لكن أحداً من بني آدم لا يتذكر هذا الميثاق، ولسنا بصدد التعمق في هذه الحادثة، فالتفاسير متاحة لمن أراد الاستزادة.

الشاهد من الحديث أن الأرواح كانت تعيش بطريقة ما في حياة معينة لها قوانينها، كانت تتعامل مع بعضها البعض بصورة معينة لا ندري كيفيتها، ولسنا مطالبين بمعرفتها، والحديث الصحيح “الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف” (صحيح البخاري) قد يساعدنا على فهم الكثير من هذه المسألة.

إذ ربما عمليات التآلف والتناكر التي تحدث بين البشر في هذه الحياة لها أصل، وأن الحاصل الآن هو امتداد لذلك الأصل، بمعنى أن الأرواح ربما في تلك الحياة، تلاقت وتعارفت مع بعضها البعض في كيفية وطريقة معينة لا نعلمها وتوقفت بسبب ما، بحيث تكتمل تلك العمليات في هذه الحياة الدنيا.

دليل هذا ما يحدث في أي لقاء أول بين أحدنا وآخر في حياتنا الدنيا، حيث يشعر الطرفان بالتآلف والرغبة في التقارب، حتى ربما قبل أن يحدث أي نوع من الحديث، بل ربما أحياناً يحدث ألفة بين شخص وآخر لمجرد أن يسمع أحدهما عن الآخر أخباراً وأحاديث ومن قبل أن يلتقيا، وقد يحدث العكس أيضاً، فيقع التناكر وعدم التآلف حتى قبل التلاقي والتحادث!.

النوم وتلاقي الأرواح

عمليات تلاقي الأرواح لا شك عندي مطلقاً أنها ما زالت مستمرة في حياتنا الدنيا، ولكن وقت المنام، حيث يحدث تلاقي الأرواح بصورة تعبر حواجز العلم ولا تتقيد بقوانين الأرض أو هذه الحياة، حيث يحدث التلاقي مع أرواح الذين توفاهم الله أو من لا يزالون على قيد الحياة، وهو ما نسميه بالأحلام أو الرؤى، ويتضح هذا في قوله تعالى (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) الزمر : 42 ، ذكر الطبري في تفسيره أن الله يقبض الأنفس حين موتها وانقضاء مدة حياتها، ويتوفى أيضاً التي لم تمت في منامها، وذكر أن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام، فيتعارف ما شاء الله منها، فإذا أراد جميعها الرجوع إلى أجسادها، أمسك الله أرواح الأموات عنده وحبسها، وأرسل أرواح الأحياء حتى ترجع إلى أجسادها، إلى أجل مسمى وذلك إلى انقضاء مدة حياتها.

فبصرك اليوم حديد

ضمن سياق الحديث عن الروح، أجد الأمر مناسباً للعروج إلى مسألة أخرى مرتبطة بعالم الروح، من خلال خبر اكتشاف علمي ليس بالجديد، لكنه حدث قبل عامين أو أكثر بقليل، من بعد ملاحظات علمية عديدة لاحظها أطباء كنديون على من يسلمون الروح إلى بارئها، وخلاصتها أن الشحنات الكهربائية لأدمغتهم كانت تشهد نشاطاً كبيراً حتى بعد توقف كافة الأجهزة الداخلية لأحدهم! وقد فسروا ذلك بأن النشاط الكهربائي للدماغ ربما بسبب أمر خفي يحدث للإنسان حين خروج الروح، ويكون من القوة والعمق والتأثير أن يجعل الدماغ نشطاً ولو هُنيهة من الزمن، بالإضافة إلى ملاحظة العين وهي تبقى شاخصة تنظر إلى أعلى، كما لو أنها تتابع شيئاً ما يحدث أمامها!.