قال تعالى : { يوسف أيها الصديق أفۡتنا فی سبۡع بقر ٰ⁠تࣲ سمانࣲ یأۡكلهن سبۡع عجافࣱ وسبۡع سنۢبلٰت خضۡرࣲ وأخر یابسٰتࣲ لعلیۤ أرۡجع إلى ٱلناس لعلهمۡ یعۡلمون } (يوسف : 46 )

من روائع القرآن الكريم، ومن قلائل السور التي تقرأها دفعة واحدة، أو بدون توقف. فيها قصة كاملة، بطلها النبي الكريم يوسف – عليه السلام – الذي يمر بمشاهد متنوعة، تدور أحداثها في منطقة جغرافية محدودة، لكنها بلا حدود من الدروس والعبر والعظات. ومهما كتبت عنها، فإنك تجد المزيد مما يمكن الحديث عنه في كل مرة تعاود الكتابة عنها.

في هذه السورة تجد نفوساً بشرية متنوعة، هي نفسها التي تتكرر منذ بدء التناسل البشري، بدءاً بقصة ابني آدم هابيل وقابيل، كنفس قابيل الحاسدة وما بعدها من نفوس أخرى، ستظهر تباعاً على مدار التاريخ إلى يوم الناس هذا.. تجد مثلاً في سورة يوسف شخصيات عديدة، كل شخصية صاحبة نفسية معينة. فهناك النفس الطيبة، والنفس الحقودة، وثالثة شريرة، ورابعة ساكنة، وأخرى قلقة، إلى آخر قائمة النفوس البشرية المختلفة.

الحسد، مثلما أنه دفع بقابيل لقتل أخيه هابيل، والسُنّة السيئة التي سنّها بداية العهد البشري وما يعني ذلك من تبعات سيحملها على ظهره يوم الدين، فإنه الحسد نفسه أو مشهد الغيرة الزائدة عن الحد، يدفع بـ إخوة يوسف، وهم رجال بالغون ناضجون ومدركون، للخضوع أمام أهواء ورغبات نفوسهم غير السوية في تلكم اللحظات، والتي أشعل الحسد نيران قلوبهم ليدفعهم إلى تخطيط متسرع مليء بالثغرات، لا لشيء، سوى وضع حد لميل الأب الشيخ تجاه يوسف الصغير أكثر منهم، وهم الكبار، سنده وسواعده. فلماذا كل هذا الحب والميل إليه وليس لهم بالمثل؟ هكذا حدّثتهم نفوسهم، فكان التخطيط لقتل أخيهم، من بعد أن زيّن الشيطان لهم أعمالهم، فرأوه مقنعاً صائباً !

نفسية الشيخ الكبير الوقور، نبي الله يعقوب – عليه السلام – بدا عليها الاضطراب التدريجي وهو ينصت لابنه يوسف يروي ما رآه، فشعر أنها رؤية غير عادية قد يلعب الشيطان لعبته في عائلته، ما دفعه أن يطلب من يوسف كتمان ذلك عن إخوته.

ربما دافعه إلى ذلك هو احتمالية ما لاحظه من ذي قبل من لدن أبنائه الكبار، وإبداء بعض الانزعاج والامتعاض تجاه ميله الأبوي الفطري، وهو شيخ كبير، نحو صغيره يوسف. وبالتالي ربما هذا ما دفعه ليطلب من يوسف كتم رؤيته، ولا يقصها عليهم. لكن هل ذلك الكتمان غيّر من الأمر شيئا؟ بالطبع لا، لم يتغير شيء. خطة الإخوة الكبار أمست جاهزة، والنيات قد عقدت عزمها على التنفيذ، والجميع بانتظار ساعة الصفر.

الحسد وما يفعل

كمية حسد غير مفهومة في تلك النفوس ظهرت لنا من خلال مشاهد القصة. كميةٌ تدفعهم لارتكاب جريمة قابيل تارة أخرى، وقتل أقرب الناس إليهم. لتبدأ المشاهد تترى. بدءاً من مشاهد التودد للشيخ الكبير، وطلب موافقته لاصطحاب أخيهم الصغير في رحلة صيد، ثم مشهد خشية الشيخ من الذئاب، وانتهاء بمشهد الموافقة على خروج يوسف معه، بعد أن استودعه الله.

اقتربت ساعة الجريمة وكادت تنتهي بما تم الاتفاق عليه، لولا تلك النفس القلقة عند أحدهم، والتي غيّرت في اللحظات الأخيرة جزئية مهمة في الخطة، فكان الإلقاء في الجُب أو البئر، بدلاً من القتل، كي يموت الفتى الصغير بعيداً عن أعينهم، فذلك أخف وطأة على نفوسهم، أو هكذا بدا الأمرُ، كما لو أن بعض جزيئات الرحمة والشفقة اختلطت بأرواحهم في تلك اللحظات العصيبة، فقرروا إثر ذلك إلقاءه في الجب، بدلاً من رؤية أخيهم مخنوقاً أو مذبوحاً مسفوك الدم أمام أعينهم.

في ذلك إشارة مهمة لنا خلاصتها أن الخير لا يختفي أبداً، وإن تعمْلق وتعاظم الشر، بل إن الخير ليخرج من رحم الشر أيضاً. هذا ما حدث مع إخوة يوسف لحظة تغيير بعض تفصيلات الخطة، وليس إلغاءها. فالنية والعزم هو التخلص من أخيهم وإزهاق روحه، لكن أسلوب الخلاص تغير، وبهذا التغيير الذي هو لطفٌ من الله ربما بسبب دعوات الأب، تغير القدر أيضاً، ليعيش يوسف – عليه السلام – أعواماً مديدة، ستتغير أثناءها أمور أكثر، وتقع أحداث أ كبر.

محنة تحمل منحة

يخرج الصغير يوسف من كيد أو محنة الإخوة، ليدخل في محنة الرق وما سيتعرض له من بائعي الرقيق في مصر. حتى إذا خرج من محنة البيع في سوق الرقيق بعد حين من الدهر لم يطل، وجدته يدخل أجواء محنة جديدة هي العبودية، وإن كانت راقية، لكنها ضمن نطاق ليست لك حرية التصرف فيه كما لو كنت حراً طليقاً.

عاش في بيئة فاخرة مرفهة لكن بنفسية المغترب، التي تتطلب الكثير من الحذر والأدب والأخلاق الراقية في التعامل، لاسيما أنه بدأ يخدم في قصر عزيز مصر، أو رئيس الوزراء حينذاك، حيث الأجواء المخملية الغالبة على القصور بشكل عام. فيعيش يوسف سنوات شبابه ما بين أوامر: افعل ولا تفعل، وهات وخذ. ونفسه حزينة قلقة. حزينةٌ على ما كان من إخوته، وفراقه عن أبيه. وقلقةٌ مما ينتظره في قادم الأيام وهو بعيد عن أهله ووطنه، وهو لا يدري أن القادم أعظم وأشد على نفسه مما مضى.

تبدأ بعد ذلك محنة كيد النساء في مشاهدها المختلفة، ليعيش أوقاتاً صعبة وجدها لا تنتهي إلا بما هو أصعب. ليخرج من حياة القصور بتهمة باطلة، يعاني على إثرها آلام الظلم ويدخل حياة السجون، التي بدت له أجمل وأحب مما كان فيه. لكن المدة تطول عليه وقد تأمّل ألا تطول، ليعيش محنة السجن فعلياً، ومحنة الابتعاد عن الحياة ومعاملاتها، والناس وعلاقاتها، والتي مهما تبلغ من السوء وبشكل عام وبعيداً عن قصة يوسف، إلا أنها تبقى رغم ذلك، أفضل من حياة السجون والمعتقلات.

مكث ما شاء الله له أن يمكث بالسجن، حتى بدأت مشاهد الانشراح والانفتاح والكرم الإلهي. بدأت تتضح له ملامح المنح التي بدأت تخرج تباعاً من المحن. حيث يخرج من السجن بعد سنين عدة وبأمر مباشر من الملك، بعد أن تمت تبرئته من التهم الباطلة، وظهرت الحقيقة. ليتولى منصباً رفيعاً في الدولة، ويتحول بقدرة قادر إلى شخص يأمر وينهى، بعد أن كان يؤمر ويُنهى. وصار علماً ورمزاً للدولة، أو بطلاً قومياً بمصطلحاتنا الحديثة، فقد أنقذ الدولة من خطر مجاعة وإفلاس.. لتتوالى بعدها سريعاً المشاهد في القصة، لتدفع ظروف الحياة القاسية والمجاعة في فلسطين بإخوته، لطلب الاستغاثة من دولة الجوار في مصر، أو من القائم على أمر الاقتصاد هناك والمتحكم فيه، والذي لم يكن هذا الشخص سوى من ألقوه قبل سنوات ماضيات في الجب، حسداً من عند أنفسهم. فصاروا اليوم يطلبون معاونته وقت ضيقهم وشدة حاجتهم.

فهل ينتقم منهم ويحاسبهم على جريمتهم القديمة، وهو حق خالص له؟

تبرز في تلك الأثناء، أخلاق النبوة وأخلاق الفرسان. وبها يتعرف عليه إخوته، فصاروا في مشهد لا يمكن وصفه. عاشوا حينذاك لحظات ما بين رجاء وحياء. رجاء أن يعفو عما صدر عنهم تجاهه، وحياء شديد من فعلتهم التي لا يفعلها إلا من اتبع شهواته وانقاد لشيطانه.

يعفو يوسف الصديق عنهم ويصفح، ويُكرم نزلهم، ويدعو والديه للهجرة إليه والإقامة معه، لتتجسد رؤيته القديمة، بعد أن رأى والديه وإخوته الأحد عشر أمامه يسجدون سجدة تقدير واحترام، ليتردد قوله تعالى في وجدانك، وأنت تتخيل مشهد السجود { إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين } (يوسف : 4 )، وليبعث في نفسك يقيناً تاماً، وتأكيداً جازماً على أن الخير باق إلى يوم القيامة، وأن الحق غالبٌ والباطل زاهقٌ لا محالة، والمكرُ السيئ لا يحيق إلا بأهله.. { لقد كان في قصصهم عبرةٌ لأولي الألباب. ما كان حديثاً يُفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيءٍ وهدى ورحمة لقوم يؤمنون } (يوسف : 111 ).