الآثار الاقتصادية لنظام الميراث في الإقتصاد الإسلامي :

الشريعة الإسلامية شريعة ربانية، نزلت لتنظيم علاقة الناس ببعضهم البعض، وتنظيم علاقتهم مع ربهم ومع أنفسهم، وهي لا تنحاز لأحد على حساب أحد، بل تضع الأحكام العادلة لكل القضايا، ومن ذلك ما يتعلق بتقسيم الميراث بعد الوفاة. ففي بعض النظم المعاصرة الوضعية يقسم الإنسان ثروته كما يشاء، وقد يعطي صديقه ويحرم ولده أو أخاه، وهكذا كان في الجاهلية يقسم الميراث باعتبارات تتناسب مع مفهومهم عن الحياة الاجتماعية، فكانوا لا يورِّثون إلاّ من يدافع عن العشيرة بسلاحه، وهذا يعني حرمان النساء والأطفال الذين هم أكثر الناس حاجة إلى مال يبدؤون فيه حياتهم بما يغنيهم عن الحاجة للآخرين، وما يتبعه من استعبادهم بطريقة أو بأخرى.

وأما الشريعة الإسلامية فقد جاءت لتعطي كل ذي حق حقه، حيث أعطت الرجال وأعطت النساء بحسب درجة القرب من الشخص المتوفى، وبحسب الأعباء الاقتصادية التي كُلِّف بها كل شخص في المجتمع. وعلى هذا الأساس قام نظام الميراث، وهو في الشريعة الإسلامية يعتبر تملكًا إجباريًّا.

بمعنى أن الشخص إذا توفي انتقلت ملكية تركته إلى ورثته بنسبة ما لكل واحد منهم من حصة في التركة بموجب التقسيم الشرعي، فلا يستطيع المورِّث أن يحرم وارثاً، ولا أن يغير مقدار حصته، كما لا يستطيع الوارث أن يرفض ما كتب الله له من حصة في الميراث، ويمكن له أن يتنازل عن حصته، لكن بعد أن تثبت ملكيتها له. ومن ذلك أن الشريعة الإسلامية جعلت للمرأة حقًّا في ميراث أبيها وأخيها وابنها وزوجها وغيرهم من القرابات، وقد كانت محرومة منها في الجاهلية (1).

الشريعة الإسلامية والميراث

تتميز الشريعة الإسلامية بامتلاك أنظمة مالية فريدة لم يسـبق لها أن وجدت أو طبقت من قبل، بعضها فرض ديني كالـزكاة، وبعضها الآخر وسـيلة لتطبيق أحكام شرعية كنظام الميراث. فامتازت هذه الأنظمة بمزج روحي ومادي، وأعطى الإسلام الميراث اهتمامًا كبيرًا، وعمل على تحديد الورثة أو من لهم الحق في تركـة الميـت، ليبطـل بذلك ما كان يوجد في الجاهلية قبل الإسلام من توريث الرجال دون النساء، والكبار دون الـصغار، والأقوياء دون الضعفاء. فجاء الإسلام ليبطل ذلك كله لما فيه من ظلم وجور وأكل لأموال الناس بالباطل، وحدّد لكل مستحِق من الذكور والإناث حقه في التركة؛ وكما يتبين في هذه الآيات من قول الله تعالى:

ولقد ألغى الإسلام كل النظم الاستبدادية، وسنَّ أحكام الإرث ليضمن للضعيف حقه؛ ويحفظ له كرامته؛ ويساوي في المنظور بينه وبين القوي، وبين الكبير والصغير، وبين الرجل والمرأة، فلكل واحد نصيب مفروض وحق محدد في القرآن الكريم.

الميراث هو انتقال مال الميت شرعاً إلى مستحقيه من ورثته الأحياء، سواء كان المتروك نقوداً، أو عقاراً، أو نحوه. أو هو اسم لما يستحقه الوارث من مورثه بسبب من أسباب الإرث، أو هو انتقال مال الشخص إلى الغير على سبيل الخلافة. وقيل إن الميراث هو استحقاق الإنسان لشيء بعد موت مالكه بسبب مخصوص وشروط مخصوصة.

وقد تكفل الله تعالى بتحديد أنصبة الورثة تحديداً دقيقاً، ولم يتناول القرآن الكريم أمراً من الأمور التشريعية بالتفصيل كما فعل بالميراث، لما له من أهمية بالغة، لكي لا تزيغ النفوس وتتلاعب الأهواء؛ ومن ثَمَّ يحرم أصحاب الحقوق من حقوقهم، كما أن الله عز وجل هو الذي خلق البشر وهو وحده العليم بما يصلح لهم وما يضرهم، لذلك اقتضت حكمته تعالى أن يشرع لهم هذه الأنصبة البالغة الدقة، تحقيقاً للعدالة والمصلحة بين الناس (2).

والميراث يعمل على:

  1. تفتيت الثروة المتجمعة – المتراكمة.
  2. إعادة توزيعها من جديد مما لا يدع مجالاً لتراكم الثروة وتكدسها في أيدٍ طبقات قليلة من المجتمع.
  3. إعادة التنظيم الاقتصادي في الأسرة ورده إلى الاعتدال دون تدخل مباشر من الدولة، فتقبل عليه الأنفس بالرضا والتسليم.

فإذا كان في العائلة أبناء وبنات وأب وأم وزوج فإن كلاً من هؤلاء تكون له حصة في الإرث بما يضمن تفتت الثروة وانتشارها بين الأفراد. فالقضية في توزيع الميراث ليست قضية ترضية الوارثين ومتابعة الأهواء، وإنما هي قضية نظام يحقق العدالة؛ ويعمل على توزيع الثروة بانتظام؛ وعدم جور وظلم؛ فلا يحابي أحداً، ولا يقصي غيره؛ فهو تقسيم ما ترك الوالدان والأقربون كنصيب مفروض للرجال والنساء؛ وعلى الأنصبة الشرعية التي نصَّ عليها القرآن الكريم، وعلى أساس العدل الذي يجب إعماله لتحقيق استقرار المجتمعات وبناء طمأنة الأفراد فيها.

خصائص نظام الميراث الإسلامي

نظام الميراث في الإسلام نظام إلهي لا دخل للبشر في ترتيبه. الحقوق فيه مترتبة من قبل الشارع لكل من قام به سبب الإرث عند وفاة المورِّث، حيث يعطي كل وارث نصيبه المقدر له إن كان من أصحاب الفروض، أو يأخذ الباقي من أصحاب الفروض إن كان يرث بالتعصيب. ولا يحرم من الميراث أحد ممن قام به سبب الإرث، إلاّ أن يكون قاتلًا لمورثه أو مختلفًا معه في الدين (3).

ولم يمنع الإسلام المرأة من الإرث كما هو الحال في الشرائع الجاهلية القديمة والوضعية المعاصرة، ولم يمنع الطفل وحتى الجنين في الرحم من الإرث، كما كان الحال في الأعراف القبلية القديمة، حيث كان لا يُعطى من التركة إلاّ الرجال الأقوياء. ولم يميز الإسلام عند توزيع الأنصبة في الإرث بين الكبير والصغير، كما في شريعة اليهود، حيث يُعطى فيها الابن الأكبر للمتوفى ضعف ما يُعطى للأصغر.

ومن خصائص نظام الميراث الإسلامي:

  1. إنه نظام محدد شرعاً لكلا طرفي المورِّث والوارث: فليس للمورِّث حرمان أحد من الميراث، وليس للوارث رد إرثه من قريبه، خلافاً لبعض النظم الوضعية التي تجعل حق الإرث اختيارياً لكليهما.
  2. القطع في ترتيب الأشخاص والأنصبة: وضعت الشريعة موقع الأفراد وحجم أنصبتهم في الميراث، فلا يمكن لأحد تغييرها أو تبديلها.
  3. الحجر على المريض المخوف عليه من الموت لصالح الورثة: حرصت الشريعة الإسلامية على حفظ حق الورثة في مال قريبهم قبل موته، إذا مرض مرضًا يسلمه إلى الموت، حيث منعته من التصرف في ماله بما يضر بورثته أو يضيع حقوقهم في ماله، بعد أن تركت له الحق أو الحرية في الإيصاء بثلث ماله.
  4. تعليق الشريعة الإسلامية تركة الميت بأحب الناس إليه وأكثرهم صلة به، وتعاوناً معه في حال حياته.
  5. جعلت التوارث داخل نطاق الأسرة الواحدة، بما يحقق الترابط بين أفرادها.
  6. جعلت الشريعة الإسلامية أساس تقديم بعض الورثة على بعض بناءً على قوة القرابة، وشدة الصلة بالميت، واتصال المنافع بين الوارث والمورث. جعل الإسلام الميراث محصورًا في دائرة الأسرة لا يتعداها، فلا بد من نسب صحيح أو زوجية قائمة، والولاء يشبه صلة النسب فكان ملحقـًا به، وهؤلاء هم أكثر الناس صلة بالميت، وأشدهم تعاونـًا معه ، وفي هذا صلاح الأسرة، وإحكام الروابط بين أفرادها وتقوية أواصر المودة فيها، وجعلها متعاونة على تحقيق الخير والسعادة في حياتها .وفي دائرة الأسرة يفضل الإسلام في مقدار الأنصبة الأقرب فالأقرب بالنسبة للميت، ممن يعتبر شخصه امتدادًا لشخص الميت كالأولاد والأب، فالإسلام قد جعل الأساس في تقديم بعض الورثة على بعض قوة القرابة ، واتصال المنافع بين الوارث والمورث (4).
  7. نظام الميراث فى الإسلام يحول دون جمع الثروة فى يد واحدة على حساب الآخرين، ويؤدى إلى تقسيم الثروة على أكبر عدد من المستحقين للتركة، فيستفيد من خيرها طائفة كبيرة من أقارب الميت.
  8. الوسطية: للإسلام موقف وسط في كل الأمور الاقتصادية؛ ومن ضمنها أمور الميراث، لذلك فإن الاقتصاد الاسلامي اقتصاد وسط وبعيدة عن: التشديد المفرط والرخاوة المطلقة، وعن الإفراط والتفريط، والإسراف والتقتير. فالله تبارك وتعالى جعل هذه الأمة وسطاً. يقول الله تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } ( البقرة:143)، والاقتصاد الإسلامي له أدواته وعوامله وأهدافه ومنظوره الخاصة به، فهو اقتصاد مستقل غير تابع لأي اقتصاد آخر؛ وغير نابع من أحد منها، ولا هو وسط حسابي بين الاشتراكية الوضعية والرأسمالية الوضعية، لذا من الخطأ القول بأن الاقتصاد الإسلامي نابع من الوسطية الحسابية بين هذين النظامين الوضعيين. فالاشتراكية في أصولها الأولى كانت ترفض مبدأ الإرث ، وتعتبره ظلمـًا يتنافى مع مبادئ العدالة، فلا تعطي أبناء الميت وأقاربه شيئـًا مطلقـًا، والرأسمالية الوضعية أيضاً تترك الحرية كاملة للرجل يتصرف في ماله كما يشاء دون ضوابط، فله أن يحرم أقاربه كلهم من الميراث، وله أن يوصي بماله إلى غريب من صديق أو خادم، وله أن يوصي بماله كله إلى جهة أو منظمة أو مكان أو أندية معينة أو حتى إلى حيوان لا يعقل، وما يشبه ذلك من الوصايا الغريبة. أما الإسلام فقد أعطى للإنسان الحرية في أن يتصرف في ثلث ماله فقط، فله أن يوصي أو يهب في حدود ثلث، يوصي به لمن يشاء على أن يكون لجهة خير، أو لمن ينتفعون به، ولا تجوز الوصية إلى جهة محرمة، ولا إلى حيوانات مثل الكلاب والقطط والخيول، أما الثلثان الآخران فهما لأقاربه، أو من تربطه بهم صلة قوية كالأقارب أو الموالي، وهو حق طبيعي لهم لا يملك المورث التصرف فيه ولا منعهم منه، وبذلك يكون الإسلام قد حفظ حق الورثة في حياة صاحب المال، فبمجرد نزول مرض الموت بالإنسان تقوم الشريعة الاسلامية بالحجر عليه، ومنعه من التصرفات إلاّ في حدود الثلث، فليس له أن يتصرف تصرفـًا يضر بالورثة أو يفوت عليهم حقهم.

واشترط الإسلام في صحة الوصية كذلك أن لا يقصد بها مضارَّة الورثة، قَالَ رَسُولُ اللّهِ : “إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الخَيْرِ سَبْعِينَ سَنَةً. فَإِذَا أَوْصى حَافَ فِي وَصِيَّتِهِ. فَيُخْتَمُ لَهُ بِشَرِّ عَمَلِهِ، فَيَدْخُلُ النَّارَ. وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الشَّرِّ سَبْعِينَ سَنةً. فَيَعْدِلُ فِي وَصِيَّتِهِ، فَيُخْتَمُ لَهُ بِخَيْرِ عَمَلِهِ، فَيَدْخُلُ الجَنَّةَ ” (سنن ابن ماجه-رقم الحديث: 2704).  

ولذلك فالأولى بصاحب المال القليل أن لا يوصي بشيء من ماله حفظـًا لحق الورثة ، سيما إذا كان المال لا يسمح بقضاء حاجات الورثة ، وخاصة إذا كان الورثة صغارًا بحاجة إلى تربية ونفقة(5).

الآثار الاقتصادية لنظام الميراث في الإقتصاد الإسلامي

إن لنظام الميراث الإسلامي آثار إقتصادية كبيرة على الصعيدين الجزئي-الفردي أو العائلي- والكلي للدولة في اقتصاديات البلدان الاسلامية، حيث يؤدي إلى سيادة الطمأنينة والاستقرار والسلام؛ والعدالة في توزيع الثروات؛ وازياد العرض الكلي من السلع والخدمات فيها، وفيما يلي تحديد لأهم هذه  الآثار:

1- التوزيع العادل للثروات والأموال

إن توزيع الميراث وفق الأدلة الشرعية هو أكبر وآخر توزيع عادل للثروة بالنسبة للفرد المسلم، حيث يضمن الاقتصاد الاسلامي مستوى حدّ الكفاية له أثناء حياته، ويحفظ له: دينه وعقله ونسله وعرضه وماله، ويحافظ على كيانه وكرامته، ثم بعد موته يحفظ له وصيته وحقوق أهله من ثروته، ولا يسمح بتبديده وهدره أو حصول غير المستحقين على ثروته، بالإضافة الى كل هذا فإن النظام الميراث الإسلامي يؤدي إلى توزيع الثروة بين أكبر عدد من الناس، وهو بذلك:

  • يقلل من حدة التفاوت بين الناس.
  • يحدّ من تكدس الثروة بيد الأغنياء.
  • يمتاز بأنه توزيع عادل يتلاءم مع ما تقتضيه الفطرة البشرية.
  • يُشعر جميع أطراف المجتمع الاسلامي بالرضا والاطمئنان تجاه هذا التوزيع (6).

2- إعادة توزيع الثروة بشكل عادل

 يلعب الميراث الإسلامي دورًا مهما في إعادة توزيع الثروة بين أفراد المجتمع الإسلامي من كِلا الجنسين الذكر والأنثى (7)، وهو توزيع ثابت؛ عكس الضريبة الوضعية التي تخضع لتقلبات القوانين الوضعية، وبالتالي يمكن الاعتماد عليه في رسم التوقعات الاستثمارية لدى الأسر التي تتمتع بثروات مهمة، كما أن خضوع توزيع الإرث لأحكام الشريعة الإسلامية يحول دون الخطأ في تقدير أنصبة الأفراد ويجعل من تلك التوقعات أداة ناجعة في سلوك الاستثمار بالنسبة للأفراد.ونظام الميراث يؤدي إلى تداول الثروة، وهو الهدف الأسمى للنظام الاقتصادي الإسلامي ، حيث تنتقل الثروة من يد إلى يد؛ وتتحرك ولا تتوقف؛ ويتم من خلاله تداولها بين جميع أفراد المجتمع الاسلامي.

ومن المعروف أن تداول المال في الميراث يكون من الميت إلى أياد جديدة ما زالت في إقبال على العمل بجدّ ونشاط، وهذه الأيادي الجديدة لا بدَّ أن تقوم بواجب الاستثمار في المال الذي وصل إليها، ويترتب عليه تحقيق الاستثمار وتداول المال والتنمية الاقتصادية.

إن الشريعة الإسلامية في تقسيمها للمال الموروث على المستحقين يتجه إلى التنويع الشخصي دون التجميع أو التكتيل، حيث لم تجعل وارثا معينا ينفرد بالتركة في أغلب الأحيان، وإنما قسمها على أكبر عدد من أقارب الميت، وجعلت لكل منهم نصيبا مفروضا، فأعطت الأبناء والبنات، والآباء والأمهات والأجداد والجدات، فضلا عن الأزواج والزوجات والإخوة والأخوات والأعمام وأبناء الأخوة وأولاد البنات، وفي بعض الأحيان يكون لذوي الأرحام نصيبا مفروضا من التركة، مما يحول دون تجمع الثروة في أيد فئات قليلة من الناس، وبهذا يتحقق قول الله تعالى: { كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ } (الحشر: 7) .

3- نمو الطبقة الوسطى الضرورية لعمليات النمو والتنمية الاقتصاديِّيَن

الطبقة الوسطى هي فئة اجتماعية ذات دور مؤثر جداً في ما يتحقق من نتائج على صعيد التنمية الاقتصادية، وتدل التجارب في مجال التنمية على أن نجاح أي نموذج تنموي معاصر يتوقف على مدى فعالية دور الطبقة الوسطى في تصميم عمليات التنمية الاقتصادية وتنفيذه. فكلما كانت هذه الطبقة الاجتماعية أكبر، كلما كان المجتمع نفسه أكثر استقرارًا (8).

الطبقة الوسطى هي طبقات اجتماعية اقتصادية تقع بين الطبقة العاملة والطبقة العليا، فعندما تشكل أغلبية في المجتمع يزدهر الاقتصاد، وتعمل الحكومات على رفع هذه النسبة حتى لا تتدنى معدلات التنمية.

تتشكل الطبقة الوسطى من مهندسين وأطباء ومحامين ومثقفين ومعلمين وسواهم؛ ويشكلون في غالبيتهم عدديا تجمع هائل و يؤثرون في مناحي الحياة المختلفة؛ فهم لذلك عامل استقرار للنظام الاقتصادي في أي بلد؛ ومن شأن احتجاجهم ان يخلخل المجتمع. وللطبقة الوسطى انعكاسات  ايجابية كبيرة تعتبر الأكثر ضمانا للاستقرار الإقتصادي والإجتماعي والسياسي والأكثر تطلعا للتنمية المحلية؛ وهي معيار نمو وتقدم المجتمعات(9).

الأضرار التي تلحق الإقتصاد في غياب الطبقة الوسطى

إن من شأن غياب الطبقة الوسطى في المجتمع ان يحول دون نشوء قوة إقتصادية وسطى تعيد التوازن للحياة السياسية والإقتصادية والاجتماعية ، وهو يعني عجز إقتصاد الدولة عن إطلاق برامج تنموية واصلاحية حقيقية تعيد الحياة والعافية لفئات المجتمع المختلفة؛ وخاصة منهم الفقراء والمساكين؛ ثم استمرار اللا طمأنينة والفساد والكساد في الدولة؛ وعجز المجتمع عن الإنتاج والاستثمار والتنمية بالشكل المطلوب؛ ثم إرجاع الاقتصاد الوطني الى الوراء والتخلف والازمات الاقتصادية والصراعات الطبقية.

إن الطبقة الوسطى هي القلب النابض للاقتصاد، وهي القوة العاملة التي لا غنى عنها في البلاد، فارتفاع إنتاج ثم ارتفاع دخول هذه الطبقة يؤدي إلى تحسين حالة الاقتصاد؛ وتحوله من اقتصاد الإنتاج إلى اقتصاد الابتكار، لأن ريادة الأعمال والاختراع متجذران في الطبقة الوسطى، فالحياة الخالية من الحرمان للطبقة الوسطى تسهم في منح الوقت والمرونة للتفكير والتفكير والاستكشاف، وللاختراع والابتكار والتنمية، وغالباً ما يخرج أصحاب الثروات الكبرى في الدول الصناعية من هذه الطبقة، ولذلك يؤدي تدميرها إلى ضعف الاقتصاد وتدني الإنتاجية في المجتمع.

لذلك من تحديات استراتيجيات الاقتصاد في دول العالم الثالث العمل على رفع نسب الطبقات الوسطى، وزيادة إنتاجها، ويحدث ذلك بالدعم المالي والاقتصادي الى هذه الفئة لازدياد قوتها الاستثمارية والتنموية، وبالتالي تحولها إلى طبقة منتجة فعّالة ، وقادرة على تكوين الثروات، ولا شك أن القوة الحقيقة النافعة للاقتصاد هي التي تحقق الابتكار والانتاج والولوج الى الصناعات الحديثة والاستفادة من التطور العالمي الصناعي(10).

إن نظام الميراث الإسلامي يعني تحقيق آخر توزيع لثروات أفراد المجتمعات الإسلامية بشكل عادل بين أكبر عدد من الافراد. وهذا التوزيع يحقق هدفين؛

  • الأول: ازدياد عدد أفراد الطبقات الوسطى؛ الضروري لولوجها الواسع الى عمليات التنمية الاقتصادية في البلد الإسلامي،
  • والثاني: خلق الطلب الكلي الفعّال لديها للقيام بواجباتها الانتاجية والاستثمارية التنموية.

ففي كِلا الحالتين يكون هناك زيادة في الطلب الكلي الفعال ثم زيادة العرض الكلي من خلال ازدياد الميل الحدي للادخار لهذه الطبقة الكبيرة ثم ازدياد الاستثمارات في البلاد، ثم ازدياد  الناتج المحلي الاجمالي ثم الناتج القومي ثم الدخل القومي للأمة، ثم ازدياد متو سط دخل الفرد؛ وازدياد الدخول النقدية والحقيقية من السلع والخدمات المنتجة في البلاد، ثم ازدياد معدلات الرفاهية الاقتصادية لمواطني البلد الإسلامي، والقضاء على الفقر والمسكنة والعوز، وتحقيق خيري الدنيا والآخرة للفرد المسلم فيه، وبالأخير إنقاذ الأمة الإسلامية من السبب الذي يضعف الأمم ويقصم ظهورها والمتمثل بالفقر الذي أعاذ رسول الله نفسه وأمته منه ؛ بقوله عليه الصلاة والسلام: “اللَّهمَّ إنِّي أعوذُ بكَ مِنَ الكفرِ، والفقرِ، وعذابِ القبرِ ” [الألباني-صحيح النسائي-الصفحة أو الرقم:1346].

4- كسر الحلقة المفرغة التخلفية والتوجه نحو الرّواج والتوسع :

 إن في توزيع الثروة بين عدد كبير من الورثة يؤدي في النهاية الى تحقيق الانتعاش والرواج لاقتصاديات البلدان الإسلامية ؛ وفق التحليل الاقتصادي التالي:

إن ظهور دخول وقوة شرائية جديدة في اقتصاد البلد، يؤدي الى زيادة الطلب الكلي الفعّال، مما يؤدي إلى زيادة الطلب  على المواد الأولية ومستلزمات الإنتاج؛ وعلى عناصر الانتاج بشكل عام؛ والمتكون من: [الأرض، العمل، الرأسمال، التنظيم،الشورى] في الاقتصاد الإسلامي (11)، وهذا يؤدي إلى زيادة الاستثمار، ثم زيادة الانتاج وزيادة التشغيل وزيادة العرض الكلي من السلع والخدمات المنتَجة، ثم زيادة الناتج القومي وزيادة الناتج المحلي الاجمالي، ثم توفير فرص جديدة للعمل، ثم القضاء على البطالة بأنواعها؛ وخاصة منها البطالة الاجبارية والموسمية.

وكل هذا يعني توجه اقتصاد البلد نحو آفاق جديدة من التطور والتنمية الاقتصاديِّيَن، ومن ثم تحقيق الرواج والانتعاش للاقتصاد القومي (أي لاقتصاد الأمة) ؛ ثم سدّ الطريق أمام حدوث ظاهرة الكساد والذبول في الاقتصاد الوطني للبلدان الإسلامية، ثم البدء بتوزيعات جديدة للميراث والاستمرار فيها، ومن ثم كسر النظام الاقتصادي للبلد الإسلامي جميع سلاسل وقيود الحلقة المفرغة التخلفية التي ترجِّع البلدان النامية من التطور الى التخلف؛ ومن الإنطلاق والحركة نحو التثبيط والأزمات الاقتصادية الخانقة، وفي النهاية إنقاذ البلد الإسلامي من أشد أسباب التخلف ومعوقاته والتي تتمثل بنظرية الحلقة المفرغة التخلفية.

5- تفعيل المضاعف الاستثماري (الإرثي أو الميراثي)

إن الزيادة الأولية في الاستثمار ينجم عنها زيادة كبيرة في الدخل القومي، بفعل مضاعف الاستثمار، والذي يعتمد على الميل الحدي للاستهلاك، وفقاً للمعادلة التالية :

 * مضاعف الاستثمار = ١/١ – الميل الحدي للاستهلاك

 * الزيادة المتولدة في الدخل = الزيادة في الاستثمار × المضاعف

ومن الثابت في الدراسات الاقتصادية أن الميل الحدي للاستهلاك عند الفقراء أو الطبقات المتوسطة أكبر منه عند الأغنياء، ومعنى ذلك أن الزيادة في الاستثمار في المجتمعات الفقيرة أو المتوسطة تؤدي إلى زيادة في الدخل القومي أكبر منها في المجتمعات الغنية.

وهنا فإن زيادة الدخول الوراثية لدى وارثي بلد اسلامي واحد؛ يعني زيادة الرؤوس الأموال الموجهة نحو الاستثمار بمبالغ كبيرة؛ مما يُنشيء موجة استثمارية واسعة داخل الاقتصاد الوطني؛ ويعني ضرب أو صفعة قوية للاقتصاد المتجمد؛ ثم ترخِّ وتشتيت أوصاله المتصلب؛ وإعادة الحياة والحركة لجذوره وفروعه؛ ثم توجهه نحو البناء والتطور، ومن ثم يعمل المضاعف الاستثماري، ويأخذ دوره الفغّال في تنمية اقتصاديات البلدان الإسلامية، ويزيد من تأثيراته على تطوير مختلف القطاعات الاقتصادية.

وما دام الميراث العادل الإسلامي مستمر في العمل والتطبيق على مدار الساعة؛ فإن تأثيراته الإيجابية تستمر، ويخلق تنمية اقتصادية مستديمة في البلدان الإسلامية، وبالأخير يستمر تقدم العمليات التنموية بأضعاف نسبة الرأسمال المستثمر المتأتي من الوراثة.   

6- ازدياد الكفاءة في استخدام الموارد الاقتصادية

إن انتقال ملكية الثروات الميراثية إلى ملكيات خاصة لعناصر شبابية تمتلك: طاقات متجددة، وطموحات عديدة وآمال غير محدودة، يزيد في كفاءة استخدام الموارد الاقتصادية ، ويقلل من الهدر والفقد والاسراف والتبذير الاقتصادي، خاصة عندما تكون هذه الطاقات ملتزمة بالأحكام الشرعية؛ ومنضبطة بالضوابط والقيم الإسلامية، مما يعني الإستخدام الأمثل والأكفأ لموارد البلد الإسلامي؛ وتوجيهها نحو القضاء على الفقر والمسكنة والعوز؛ وإشباع كافة الحاجات الضرورية والحاجية والتحسينية المتطورة للمجتمعات الإسلامية؛ واستمرار الفعاليات التنموية عبر جميع التغيرات الزمانية والمكانية والحالية المختلفة.  

7- ازياد العرض الكلي للسلع والخدمات الضرورية المنتَجة في البلاد:

هناك نوعين من الطلب في الاقتصاد هما:

1-طلب الفقراء والمساكين.

2-طلب الأغنياء.

فعند توزيع الميراث على أقارب الميت؛ يحصل كل هذه الفئات على رؤوس أموال ودخول جديدة؛ يزيد من طلبهم الفعّال في اقتصاد البلد.

إن ازدياد الطلب الفعّال لدى الفقراء والمساكين؛ يؤدي الى ازدياد إنتاج السلع الضرورية والحاجية في الدولة؛ بهدف اشباع حاجاتها منها، لأن هاتين الفئتين تتميزان بارتفاع الميل الحدي للاستهلاك نحو هاذين النوعين من السلع، أما ازدياد الطلب الفعّال عند الأغنياء فيؤدي الى ازدياد إنتاج السلع التحسينية لاشباع حاجاتها منها، لأن هذه الفئة تتميز بانخفاض الميل الحدي للاستهلاك تجاه هذا النوع من السلع.

 ان ازدياد انتاج السلع الضرورية والحاجية والتحسينية في الدولة؛ يعني ازدياد المشاريع الصغيرة والمتوسطة التي تقوم بإنتاجها، وهو يعني زيادة العرض الكلي من هذه السلع، واشباع حاجات الفقراء والمساكين والمعوزين والاغنياء في البلد الإسلامي منها، وحصول الرفاهية الاقتصادية الكلية لهذه الطبقات، ثم القيام بتصدير الفائض من هذه السلع الى خارج البلاد وتنشيط التجارة الخارجية والاقتصاد الدولي للبلد الإسلامي، وكل هذا يؤدي إلى القضاء على عجز الموازنة التجارية وتقوية ميزان المدفوعات بوجه العالم الخارجي.

8- تقوية الروابط الإجتماعية الأسرية

 يعمل الإسلام ومن ثم الاقتصاد الإسلامي على تقوية الروابط الإجتماعية بين أفراد الأمة ككل؛ وبين أفراد الأسرة الواحدة أيضاً، ومن ذلك أن جعل مال الميراث يوزع بين أفراد أسرة واقارب المورِّث وفقاً لدرجة القرابة، مما يعني ضرورة تحقيق التكافل والتعاون بين أفراد الأسرة الواحدة، وبين أفراد الأمة ككل، وإن ذلك يؤدي إلى ازدياد التماسك والقوة بين أفراد وفئات المجتمع الإسلامي بكامله (12) .

9- تقليل التفاوت الشديد بين أفراد المجتمع

يعمل الإسلام بجميع أنظمته الاقتصادية والاجتماعية وغيرها على تقليل وتخفيض التفاوت الشديد بين أفراد مجتمعه، ومن ثم القضاء على منابع المشاكل والصراعات الطبقية فيما بينها، وحرَّم أن يكون المال دُولة وحصراً بين الأغنياء فقط، لما يترتب على ذلك من مفاسد خطيرة تتمثل بما يلي:

  • سيادة أخلاق الأنانية والجشع والاستغلال على المجتمع.
  • استعباد الإنسان للإنسان. واستعباد المال للإنسان؛ وجعله مستضعفاً ذليلاً خاضعاً للمادة والمادية البحتة واستعباد المال للمال؛ وجعل المحرمات كـ: “الربا والاحتكار وأكل أموال الناس بالباطل” حلالاً ومشروعاً.
  • حرمان معظم أفراد وفئات المجتمع من الانتفاع بالموارد التي هيأها الله تعالى للناس جميعا.
  • في النظام الاجتماعي: انتشار الصراعات الطبقية والحقد والضغينة والبغضاء والكراهية بين الناس.
  • في النظام الاقتصادي: انتشار الغش والكذب والرشوة وأكل أموال الناس بالباطل.
  • في النظام العقدي: انتشار النشاطات المحرمة كالسحر والشعوذة والعرافة والخدع والتنجيم والتكسب المحرم.

10- محاربة الفقر والمسكنة والعوز وخدمة هدف التشغيل الكامل

تؤكد الدراسات الاقتصادية على أن الميل الحدي للاستهلاك عند الأغنياء يختلف جذرياً عنه عند الفقراء، فالأغنياء يتميزون بانخفاض ميلهم الحدي للاستهلاك وارتفاع ميلهم الحدي للإدخار،،أما الفقراء فهم على العكس من ذلك؛ يتميزون بارتفاع ميلهم الحدي للإستهلاك وانخفاض ميلهم الحدي للإدخار. فالأغنياء عند ازدياد دخولهم يوجهون دخولهم الفائضة نحو السلع والخدمات التكميلية والاستثمار، أما الفقراء والمساكين؛ فإنهم عند ازدياد دخولهم؛ يقومون بتوجيه دخولهم الجديدة نحو الاستهلاك؛ بسبب عدم وجود الاشباع عندهم في جوانب حياتهم الضرورية والحاجية. فهنا عندما يستلم الاغنياء حصصهم من الورثة؛ يزداد معها الاستثمار على مستوى الاقتصاد الوطني، وكذلك الفقراء عند استلامهم للميراث يزداد الاستثمارات الكلية في البلد الإسلامي ولكن بشكل -بتحليل- مغاير لما يحدث عند الاغنياء.

فالورثة من الفقراء والمحتاجين عند استلامهم للميراث سوف يزداد حجم الاستهلاك عندهم بسبب ارتفاع ميلهم الحدي للاستهلاك، سواء أكان هذا الاستهلاك سلعيا أم خدميا، ومن المعلوم أن أية زيادة في الدخول سوف تؤدي الى الزيادة في الاستهلاك ثم الزيادة في الاستثمار، وهذا يزيد من الطلب على المواد الأولية ومستلزمات الإنتاج وعناصر الانتاج بشكل عام من: ( ارض، عمل، رأسمال، تنظيم، شورى) في الاقتصاد الإسلامي، وهذا يعني ازدياد الطلب على العمل؛ والذي بدوره يؤدي إلى ازدياد العمالة والتشغيل؛ ثم التقليل في البداية والقضاء المبرم في النهاية على البطالة ؛ ثم منع الطريق أمام حدوث الكساد، وتوجه اقتصاد البلد الإسلامي نحو الإنتعاش والتطور والتنمية المستديمة.

إن تقسيم الميراث الشرعي فرصة مؤاتية لإعادة تشكيل رؤوس اموال جديدة في الاقتصاد الوطني، فبدل أن تنحصر الثروة في مالكٍ مفترض واحد لرأس المال؛ يصبح هناك عدة أفراد مفترضين ذوي رؤوس أموال فعّالة للاستثمار، مما يزيد من عدد الملكيات الفردية ومن ثم ازدياد دور القطاع الخاص في اقتصاد الدولة، وفي قيادة استثمارات جديدة في البلد الإسلامي.

وعندما تبلغ الثروة حدًا معينًا، يتشبع صاحب الثروة من السلع والخدمات الضرورية الاستهلاكية؛ ويصبح الميل الحدي للاستهلاك لديه قريبا من أو يساوي الصفر، ففي هذه الحالة يلجأ المستهلك إلى الإِحْتِفاظ بِـالسيولة والإدخار، ثم الى الاستثمار ثم أخذ دور بارز في تنمية وتطوير البلد والمجتمع.

أما بعد تقسيم الميراث فإن الأنصبة تذهب إلى عدة أفراد يكون احتمال كونهم دون حالة التشبع، مما يؤثر إيجابًا على الميل الحدي للاستهلاك، وبالتالي يخدم الطلب الكلي الفعّال داخل الاقتصاد الوطني ويكثره ثم يضاعفه من خلال تأثيرات المضاعف الاحصائي المعروف في الدراسات الاقتصادية، مما يدفع بدوره الإنتاج الوطني نحو الازدياد ثم تنمية وتطوير اقتصاد البلد أكثر فأكثر.

ولا شكّ أنّه بتطبيق الفقه الإسلامي للمواريث ينال جميع الأفراد نصيبهم بشكل عادل، ويتم تحويل الثروة إلى الأفراد المعوزين والفقراء بصورة آلية ودون تدخل الدولة، وهذا يخدم هدف محاربة الفقر والقضاء عليه، حيث يتيح لمستحقيه هؤلاء رؤوس أموال طائلة ثم فرصة مؤاتية لحيازة أدوات الإنتاج ؛ ثم الإنتاج ؛ ثم المشاركة الفعالة في التنمية والتطوير.

11- تفعيل النشاطات الاقتصادية والعمليات التنموية

إن نظام الميراث الإسلامي يدفع إلى مزيد من بذل النشاط والجهد، فالإنسان لا يعمل لنفسه فقط، بل يعمل كذلك لمن يهمه أمرهم من أفراد أسرته وأقاربه، فهو يتعب ويكدّ من أجل أن يسدّ الجوع عنهم ويوفر لهم حاجتهم وحاجته هو، كما يبذل جهدًا من أجل تأمين مستقبلهم، فإذا ظل على قيد الحياة، تولى هو بنفسه الإنفاق عليهم، وإن مات تولَّوا هم الإنفاق على أنفسهم من خلال التركة، وهذا من أكبر الحوافز التي تحفز الفرد إلى الجِدّ وبذل الجهد من أجل الاستثمار والكسب، ولو مُنع التوارث بين الأفراد لضعفت الهمم وقلَّ البذل والجهد للإنتاج، وضعف النشاط الاقتصادي عامة، لأن الإنسان يعلم بأن ثمرة جهده لا ترجع إلى أسرته، ولذلك يعتبر منع التوريث بين الأفراد قتلاً للحافز على الإنتاج.

يقول رسول الله : [أنْ تَدَعَ ورَثَتَكَ أغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِن أنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، ولَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بهَا وجْهَ اللَّهِ إلَّا أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حتَّى ما تَجْعَلُ في فِي امْرَأَتِكَ][صحيح البخاري-الصفحة أو الرقم:5668]، فهذا الحديث فيه تقييد لتصرف المورِّث بحيث يحفظ للورثة غناهم عن طلب الناس، وفيه الحافز على تأمين مستقبلهم بالجِدّ والعمل والاستثمار فيدّخر لهم ولمستقبلهم. إذن فان الميراث حافز للمورِّث لبذل الجهد من أجل تأمين الحاجات عمومًا، وهو كذلك حافز للوارث لكي يساعد المورث في النشاط الإقتصادي لأنه يعلم بأن ثمرة جهوده لن تكون لغير الورثة، وهذا الحافز يعدُّ من الحوافز التي لها تأثير مباشر على الاستثمار.

وتتضح علاقة نظام الميراث بالإدخار من خلال تأثير الميراث على سلوك المورث بحيث يجعله سلوكًا رشيدًا، فإذا علم أن جهده وثمرته سوف تعود لورثته من بعده، فسوف يتخذ سلوكًا عقلانيًّا وسطًا بين الإسراف والتقتير وبين الافراط والتفريط، ولا يتحقق هذه الوسطية هنا بدون نظام الميراث الإسلامي؛ فالإنسان مدفوع بهذا للادخار من أجل الورثة، ولا شك أن معظم التركة تصب في زيادة الدخل؛ وكلما يزداد الدخل كلما يزداد الميل الحدي للادخار (13) .

فإن كان هؤلاء الورثة أغنياء فإن التركة تزيدهم غنىً، وهذا يزيد من القدرة على الادخار وبالتالي على الاستثمار . وإذا كان الورثة فقراء فان التركة تزيد في دخولهم ورؤوس أموالهم؛ وستوجه هذه الزيادة نحو الاستهلاك، مما يزيد من الطلب الكلي الفعال على السلع، ثم حصول زيادة مضاعفة في الاستثمار الكلي ثم حدوث التنمية المستدامة في البلد المسلم.

من جهة أخرى فان نصيب الأنثى في الغالب هو نوع من الادخار الفعّال، حيث لا يجب عليها أن تنفق منه شيئا، فالأنثى وهي بنت نفقتها على أبيها وهي أخت نفقتها على أخيها وهي زوجة نفقتها على زوجها، حتى لو كانت غنية وهي أم نفقتها على أولادها إن لم يكن لها زوج، وهكذا فهي غير مطالبة بالإنفاق على أحد، ولا يجوز إجبارها على الإنفاق، وعلى هذا فحصتها من التركة محفوظة لا نفقة فيها، وهو نوع من الادخار والذي ينبغي أن يصب في قناة الاستثمار، فعلى هذا يعمل نظام الميراث من خلال نصيب الأنثى، على زيادة التراكم الرأسمالي، مما يساعد في توفير المال اللازم للاستثمار والنشاطات الاقتصادية ، ومن هنا يشكل نظام الميراث أحد وسائل تكوين المدخرات الوطنية الضرورية لعمليات التنمية الاقتصادية في البلدان الإسلامية.

12- العدالة في التوزيع على أساس المنظور المتساوي والتقسيم التفاوتي للميراث

يحقق النظام الميراث الإسلامي العدالة بالمنظور المتساوي والتقسيم التفاوتي تجاه الجميع ، فقد عمد إلى إرساء دعائم العدالة الاجتماعية والاقتصادية والتي من جوانبها: عدالة توزيع التركة في دائرة الأسرة، والعدالة بين الأولاد الذكور والإناث، والعدالة في إعطاء أصول الميت أقل من فروعه، والعدالة في عدم حرمان المرأة من الميراث، والعدالة في مراعاة القرابات والأولويات.

ان توزيع التركة يشمل أصنافا عديدة من الورثة يرثون نسبا متفاوتة من الحصص يتحكم بها: القرب والبعد من المورث؛ والذكورة والأنوثة؛ ومستقبل للحياة ومستدبر؛ وكذلك من حيث النفع والحاجة؛ وكلما اجتمع عدد أكبر من هذه العوامل كان نصيب الوارث أكبر.

إن التوزيع العادل للميراث في الإسلام يستند إلى هذين الأساسين:

  • المنظور الشرعي المتساوي للجميع: إن الشريعة الإسلامية ينظر الى كافة أفراد الأمة بعين المساوات، فلا يُفضَّل فيها أحد على أحد؛ على اسس القوة والسلطة واللون والمركز الاجتماعي وغيرها من الفروقات التي تعمل وفقها الاقتصادات الوضعية ؛ والتي تخضع للتقلبات والظلم والحرمان.
  • الحصص المتفاوتة: التقسيم يكون وفق حصص متفاوتة بين الورثة حسب الأنصبة التي وضعها الله تعالى في القرآن الكريم، فلا تساوي في توزيع الميراث بين جميع الورثة، فهناك من يأخذ أزيد؛ ومن يأخذ أقل. 

إذن فإن العدالة في التوزيع يكون على أساس المنظور المتساوي لكل أفراد الأمة؛ والحصص المتفاوتة عليهم وفق ما هو مأمور به في الأدلة الشرعية.

والذي يجب أن يذكر هنا هو أن التوزيع في الاقتصاد الإسلامي؛ بشكل عام يعتمد على هاتين النقتطين:

  • المساوات في عرض الفرص الاقتصادية: فكل فرد مسلم رشيد يستطيع الدخول الى النشاطات الاقتصادية؛ من دون تفضيل بعضهم على بعض كما هو متبع في الاقتصاديات الوضعية.
  • التفاوت وعدم التساوي في مدخولات – أو مكافآت أو مستحقات – عناصر الانتاج في الاقتصاد الإسلامي؛ لأن التوزيع يكون على أساس قاعدة: لكل حسب عمله الحلال المشروع، وجهوده المبذولة ونوعيته وجودته، وما يعطيه ويهبه الأحكام الشرعية.                                   

13- تحقيق التكافل الاقتصادي

يعد تشريع الميراث مثالا جليا لفلسفة الإسلام بإقامة العدل والتكافل بين الناس، فلم ينشغل بحق عن حق، ولا غفل عن جانب من جوانب الخير.

إن الميراث الإسلامي مظهر من مظاهر التكافل في محيط الأسرة والمجتمع، حيث يتم توزيع التركة في دائرة الأسرة، حرصا عليها ورغبة في تعميق الصلة بين أفرادها، مما ينعكس على المجتمع قوة وتماسكا.

ويحارب الإسلام في كل أحكامه وتعاليمه ظهور صراعات طبقية اقتصادية واجتماعية وغيرها داخل المجتمع الإسلامي، لهذا جاء نظام الميراث في الإسلام كآلية اقتصادية مستديمة لتفتيت الثروة، والقضاء على الاستغلال، وعلى الصراعات الطبقية، وعلى المشاكل والأزمات الاقتصادية، ولهذا أوجب الإسلام الميراث لكسر التراكم المالي ومنع تدويل المال بين الاغنياء فقط، ولانتقال الثروة إلى مالكين جدد، وعلى هذا فان الميراث وسيلة من وسائل تفتيت الملكيات الكبيرة وخلق ملكيات خاصة أصغر منها حجماً؛ ولكنها فعّالة وكادحة تعمل دوماً لتكبير حجمها وأخذ أدوار أكبر وأكبر في الاقتصاد القومي للبلد الاسلامي.

14- نجاع سلوك الاستثمار الفردي

 يلعب التوريث بالصورة التي وضعها الفقه الإسلامي دوراً مهما في إعادة توزيع الثروة بين الأفراد من الجنسين ممن يحق لهم الإرث، ويلاحظ على هذا التوزيع أنه ثابت بثبات التشريع الإسلامي ، وبالتالي يمكن الاعتماد عليه في رسم التوقعات الاستثمارية لدى الأسر التي تتمتع بثروات مهمة.

كما أن خضوع توزيع الإرث لتحديد الفقه الإسلامي يحول دون الخطأ في تقدير أنصبة الأفراد ويجعل من تلك التوقعات أداة ناجعة في سلوك الاستثمار بالنسبة للأفراد. وهكذا تنخرط المواريث في الإسلام مباشرة في نظرية ” التوقعات الرشيدة ” التي عجزت الرأسمالية الوضعية على تحقيقها (14).

15- منع التركز الرأسمالي الطاغي

تتشكل الطبقة البورجوازية الوضعية وتتغذى طبقيتها المستبدة من تركز رأسمال الدولة في يد فرد واحد أو في أيادٍ قليلة من افراد المجتمع ، فيعمل الميراث الإسلامي على تفكيك هذا التركز من خلال إعادة التوزيع للثروة، وبشكلٍ لا تؤدي إلى خلق تركز رأسمالي وضعي طاغٍ على الاقتصاد الوطني؛ وبوضعٍ لا تسمح بنشوء طبقة بورجوازية طاغية ٍمسيطرة بشكل مطلق على النظام الاجتماعي في البلد الإسلامي؛ كما هو حاصل الآن في الاقتصاديات الغربية. ويستهدف تقسيم الميراث الإسلامي تكوين نظام اجتماعي اقتصادي وسط عادل تتوزع فيه الثروة بشكل طبيعي سلس لا إفراط ولا تفريط فيها، وهو السبب الذي لم يسمح في التاريخ الإسلامي بظهور اضطرابات اجتماعية ناشئة عن الصراعات الطبقية أو التفاوت الفاحش الطاغي للثروات في المجتمع الإسلامي.

16- تحقيق السلام والطمأنينة الاقتصادية

نظام الميراث الإسلامي هو من تشريع الله سبحانه وتعالى، وقد استأثر الله عزَّ وجلَّ بتوزيع ثروة المورِّث على المستحقين من الورثة بعد نسخ وإبطال التشريعات السماوية السابقة والوضعية قبل مجيء الإسلام، نظرا للأهمية الكبيرة لنظام الإرث في الإسلام والذي يعتبر جزءا عظيما من النظام المالي الإسلامي العام، فهو نظام قائم على العدل يتناسق مع فطرة الإنسان.

فليس بمقدور المورِّث أو أي شخص آخر أن يُعَين الورثة أو أن يحدد نصيب الوارثين ، وذلك من فضل الله تعالى على هذه الأمة، اذ لو جعل ذلك للانسان لوقع تحت تأثيرات العواطف والاهواء والميول ،اقتصاديةً كانت او اجتماعيةً او سياسية، وذلك ما يقود بالنتيجة الى وقوع الحيف والظلم على بعض من الناس أو الطوائف، مما يكون له بالتالي أكبر الأثر في إثارة الاحقاد والضغائن بل ووقوع الجرائم فيما بينهم، ومما يؤدي بالنتيجة إلى عدم الاقتناع بالتشريع ومحاولة التخلص منه بأية وسيلة كانت . وكذا الحال لو ترك أمر الميراث بلا تشريع وأعطي المورِّث الحرية في التصرف في ماله كيف يشاء؛ لأفضى ذلك بالضرورة الى تفتيت المال وتوزيعه توزيعاً غير عادل مبني على الظلم والاستبداد؛ وأكل أموال أموال الناس بالباطل، ذلك أن الانسان لا يرى المصلحة التي يراها الخالق عزَّ شأنُهُ الذي يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور.

 إن نظام الإرث في الشريعة الإسلامية يقسم الثروات ويمنع تكديسها، ويوزع الاموال على اختلاف أنواعها قليلها وكثيرها، والمقصد الشرعي من الأموال هو ضمان رواجها وحفظها، ففيه خير العباد، وتقسيمها بعد الوفاة هو لأجل ألاّ يتعرض إلى التجميد والضياع، والإسلام في سياسته تجاه المال يعمل بالتشريع والتوجيه : التشريع لتحقيق الأهداف العملية الكفيلة بتكوين مجتمع صالح قابل للرقي والنماء، والتوجيه لإدراك الغاية من المال، وهي تحقيق معنى العبودية لله تعالى  وحده، ثم تحقيق الأهداف الشرعية لاستخلاف الانسان على الأرض وعمارتها وتنميتها وتأسيس الحضارة الانسانية عليها؛ بالتوافق مع العبادات المفروضة.

وعندما يدخل عامل الإرث على نحو ما جاءت به الشريعة الإسلامية حيّز التطبيق؛ ويوزع المال الموروث على كثيرين من أصحاب الفروض ومن يتبعهم؛ فإن خطره على المجتمع يزول أو يضعف على الأقل ، وبذلك يكون الإرث في الإسلام وقاية من الطغيان بالمال، وهذا هو ما يخلق السلام والطمأنينة للمجتمع الإسلامي.

بينما نظام الإرث في المجتمعات الحضارة الوضعية يساعد على بقاء القوة للمال، وبالتالي على بقاء خطره في التكديس والتجميع، لأن نظام تلك المجتمعات في الإرث ينقل مال المتوفى إلى واحد هو الولد الأكبر، أو إلى أقل عدد ممكن من الناس احتفاظا للأسرة بجاهها المستمدة من قوة المال، وبذلك يُبَقِّي على النزعة التي تتخذ من المال وسيلة سيطرة وقوة في الحياة الاقتصادية، مما يعرض طمأنينة الناس وسلامتهم الى الخطر والعرضة الى المشاكل والازمات الاقتصادية المتواصلة (15).

17- تحقيق العدالة الاجتماعية

إن تحقيق العدالة الاجتماعية يتبين جليّة من تقسيم المواريث في الإسلام؛ من خلال ما يلي:

أولا: تحقيق التكافل العائلي والاجتماعي من خلال المبادىء التالية: 

  • مبدأ عدم السماح بتفكيك الأسر.
  • مبدأ عدم حرمان أفراد الأسرة من حقوقهم المالية في الميراث الشرعي.
  • مبدأ عدم السماح بوضع معايير وضعية مخالفة للشريعة الإسلامية لتوزيع الميراث: والتي تؤدي إلى حرمان واستثناء بعض أفراد المجتمع الإسلامي من الميراث الشرعي، من هذه المعايير معيار العمر؛ حيث كانت تميز بين أفراد الأسرة الواحدة من خلال العمر؛ كالتمييز بين الصغير والكبير والمرأة؛ وحرمان الصغير والمرأة منه؛ كما كان في الجاهلية؛ حيث كانت لا تورث النساء والصبية.

الحرمان من الميراث في العصر الجاهلي

كانت المرأةُ في الجاهلية محرومةً من الإرث، حيث كان الذكرُ فقط هو الوارثَ الوحيد، وفي حال انعدم الذكورُ فإن الميراث كان يذهب إلى الأعمام. وكان أهل الجاهلية يقولون: لا يُعطَى إلا من قاتَل على ظهور الخيل، وطاعَن بالرمح، وضارَب بالسيف، وحاز الغنيمة. والعرب كانوا من الأمم التي تقوم حياتها على الترحال من مكان إلى آخر طلباً للماء والكلأ والرعي لمعيشتهم ومعيشة مواشيهم، ممّا سبب في ظهور نزاعات على الأراضي الخصبة والقيام بالغارات للاستيلاء على الأراضي، لذا فقد كانوا يعتمدون على الرجال الأقوياء القادرين على حمل السلاح للدفاع عن القبيلة وردّ غارات المعتدين، فكان لطبيعة عيشهم هذه أكبر الأثر في ظهور قواعد الميراث عندهم، حيث ارتكزوا في توزيعه على ثلاثة أسباب هي: القرابة، والمحالفة، والتبني وكالتالي:

  • القرابة : تعدّ القرابة سبباً من أسباب الميراث عند عرب الجاهلية؛ إلاّ أنه كان يجب أن تتحقق فيها شروط معينة لكي يستحق القريب الميراث من قريبه وهي كما يأتي:
  1. الذكورة: فكان يشترط في الوارث ان يكون ذكراً، أما إذا كانت انثى فإنها لا ترث شيئاً من تركة الميت، بل ربما الأنثى نفسها تورث كباقي تركة المتوفَّى.
  2. البلوغ: فكان يشترط أن يكون الذكر بالغاً، فإن كان صغيراً لم يبلغ ينتقل الميراث إلى أقرب قريب إلى المتوفَّى.
  3. القدرة على القتال: فكان يشترط في الوارث أن يكون قادراً على حمل السلاح ليدافع عن القبيلة ويحميها من غارات القبائل الأخرى.
  • المحالفة: أما المحالفة أو الولاء فهي التحالفات التي كانت تقوم بها القبائل بين بعضها البعض؛ وكان للتحالف صيغة معروفة وهي [ دمي دمك، وهدمي هدمك، وترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك] ، فإذا قبل الطرف الآخر تمَّت المحالفة بينهما، فإذا مات أحدهما قبل الآخر ولم يترك وارثاً قريباً مستوفياً لشروط الميراث يصبح الحليف الحي الوارث لحليفه المتوفَّى.
  • التبني: أما التبني وهو أن يُلْحق شخص يسمى (المتبنِّي) بنسبه ولداً يسمى (المتبنَّى) ويعتبره ابناً له من الوجوه جميعها، فيرث كل منهما الآخر بعد موته (16).

لقد كان العرب في الجاهلية يحرمون من الميراث المستضعفين من النساء والولدان، لأنهم ليسوا من أهل القتال بل أكثر من ذلك كانت المرأة نفسها تورَّث. ولم يعدُّوا الزوجية سبباً من أسباب الميراث، فغضوا النظر عن الحقوق المتقابلة للزوجين، وكانوا يجعلون للمتبنَّى الدخيل نصيباً في تركة من تبناه ويحرمون بذلك ذوي القربة، أو ينقصونهم حقهم ضرراً وعدواناً.

ثانيا: توزيع الإرث بشكل عادل بين كل من يستحقه من الذكور والإناث والكبار والصغار وفقا للأحكام الشرعية، وتحقيقاً للعدالة الاقتصادية والاجتماعية في الأمة، فالمواريث الإسلامية وسيلة إحصائية دقيقة لتوزيع الثروات أسَريا واجتماعيا وإنهاء ملكياتهم لصالح ورثتهم من بعدهم، ووسيلة شرعية للقضاء على حصر الثروة في يد أفراد قلائل وحرمان الأغلبية الساحقة من المجتمع منه.

ثالثاً: إن الشريعة الإسلامية مبنية على العدل والمنظور المتساوي لجميع أفراد المجتمع الإسلامي، وترفض التفرقة بين إنسان وآخر إلاّ في حقّ الله تعالى وحدوده؛ وذلك كله من باب الحرص على الكيان العام للمسلمين وذويهم؛ والعمل على توطيد أواصر المودة والعدل فيما بينهم، لذلك وضعت الشريعة الإسلامية نظاما دقيقا يكفل توزيع الثروات التي تركها الآباء والأقارب ومن في منزلتهم توزيعا عادلا يحول دون تفضيل فئة على أخرى، أو فرد على آخر، أو أخ عن أخيه، فيساعد بذلك على تذويب الفوارق بين الناس، وليضمن بذلك إرساء قواعد التكافل الاجتماعي بين الجميع حتى إنه قرر نصيبا غير معلوم لمن يحضر القسمة، يقول الله تعالى: { وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } ( النساء: 8)، وتفسير الآية: ” وإذا حضر قسمةَ الميراث أقاربُ الميت ممن لا حقَّ لهم في التركة، أو حضرها من مات آباؤهم وهم صغار، أو مَن لا مال لهم فأعطوهم شيئًا من المال على وجه الاستحباب قبل تقسيم التركة على أصحابها، وقولوا لهم قولا حسنًا غير فاحش ولا قبيح” (17) .