تتعالى الأصوات بين الفينة والأخرى، في أوساطنا التربوية والإعلامية، منددة بتراجع القيم، وبالتفكك الذي يهدد علاقة الآباء بالأبناء نتيجة المتغيرات السلوكية التي حملتها رياح العولمة. وتشير جل الأصابع نحو الأسرة باعتبارها المشتل الحقيقي الذي ينبغي تطويره، وتوعيته، وتمكينه من بعض الرؤى والنماذج، والصيغ التي تقي أبناءنا شرور الانزلاق.
غير أن تعليم القيم، والذي لا زال حتى الساعة حبيس الوعظ والمحاضرة، والتأنيب المستمر، يبدو ضعيف الأثر داخل أسر تتوهم أن خلاصة التربية هي التنظيم والتوجيه، والجزم بأن كل ما يفعله الأبوان هو الأصلح والأنسب. ويظل السؤال الغائب عن جل الممارسات التي تتم داخل الأسر باسم التربية هو: هل نعرف حقا قيمة أبنائنا قبل أن نعلمهم القيم؟ وهل تشكيلهم وفقا لأهوائنا أو امتدادا لذواتنا ينطوي على حس تربوي سليم؟
في كتيب طريف في مادته، يستوحي كل من لِندا ورِتشارد إِير دروسا وقوانين من الطبيعة، تُمهد لفهم أفضل للحياة الأسرية، وتُرشد إلى جملة من المبادئ الأساسية التي تعتبر أكثر أهمية من القيم، لكونها تُؤَمن مناخا إيجابيا تؤتي من خلاله باقي الممارسات أُكلها بإذن الله. وأول درس يستوحيه المؤلفان هو ما تتطوع الشتلات الصغيرة في أي مشتل بتقديمه لنا مشكورة؛ فكل فرد منا يعلم جيدا أننا لا نقوم بتشكيل الشتلة وإنما بتربيتها، وهذه التربية تعتمد على توفير الاحتياجات من ماء وسماد وضوء بالقدر المناسب، ثم ندعها تنمو وتصل إلى أفضل شكل جُبلت عليه. وإذا كانت في صغرها تبدو متشابهة، إلا أنها بعد “التربية” ستتمايز لتظهر شتلة التفاح وشتلة الخوخ وشتلة البلوط..إلخ.
إننا ميالون في جل ممارستنا التربوية إلى ما يمليه العقل، في حين يفتش صغارنا عن القلب، عن الأداء الأسري الأكثر دفئا وعاطفية. من هنا تشكل المبادئ التسعة التي يعرضها المؤلفان، مفاتيح لمعرفة أبنائنا، وتأهيلهم للوصول إلى درجات أفضل. وكل مبدأ هو في الأصل سلوك تحتضنه الطبيعة، ونمط عيش تتابعه أبصارنا، لكن تغفل عنه بصائرنا!
أول مبدأ يمنحنا إياه سلوك الحيوان هو الالتزام، وترسيخ أولوية الأسرة والأطفال قبل أي شيء آخر. تماما كما يفعل ذكور الإوز في علاقتهم بالإناث والصغار. فالزوجان يضربان أروع مثل في البقاء معا مدى الحياة، حيث يُعمر الإوز ما بين ستين وسبعين سنة، ويتقاسمان سويا “تربية” الأطفال حتى سن النضج.
ينطوي قانون الإوز على تعبير متكرر عن مبدأ الالتزام، وتأكيد أولوية الأسرة، مما يمنح الصغار شعورا بالأمان، ويحقق بيئة مناسبة لازدهار المبادئ الأخرى.
أما قانون السرطان فيدعو للحد من النقد والتأنيب، ومقاومة جزء من الطبيعة البشرية يُحرض على نسف الجهود وشل القدرات. ويُمكن تلمس هذا المبدأ حين يوضع سرطان إلى جانب آخر داخل وعاء؛ فما إن يشرع أحدهما في تسلق الجدار، حتى يمد الآخر مخلبه ليجره إلى أسفل. مبدأ ينص على أن تفعل العكس مع صغارك، ببحث طرق متجددة لبناء الثقة، ومكافأة الجهد، وحفز السلوك الصادق بدل تتبع الأخطاء. والأمر بالتأكيد ليس سهلا، فغريزتنا الأبوية ميالة دوما إلى التجريح والإدانة، لكن بالجهد المستمر يمكن التغلب على ميولنا “السرطانية”.
وتُلهمنا الحيتان ذات السنام قانونا متفردا للتواصل. فهو نوع من التآلف الجماعي و التآزر بين أفراد الأسرة الواحدة، يسمح لكل حوت عن طريق شبكة الفقاعات أن يحتجز داخلها طنا ونصف من الأسماك الصغيرة التي تمثل وجبته اليومية، ولا يمكن للعملية أن تنجح إلا بوجود حوت آخر على قدر من التآلف والتواصل العاطفي.
درس الحيتان ذات السنام هو درس التواصل المستمر الذي يسمح للأسرة بتعليم القيم، و الاشتراك في المتعة وحل المشكلات. ولأنه في عالم الحيتان يتم على شكل أغنية، فلا يجب أن يظل في أسرنا رهين الوعظ والمحاضرة الفجة أحيانا. إن ثمة جدرانا بين الآباء و الابناء لن يزيلها سوى الإصغاء العميق الممزوج بأغنية الثقة .
ورغم مشيتها البطيئة والمتثاقلة، إلا أن لدى السلحفاة ميزة يمكن أن نسميها” سرعة المسير البطيء”، حيث يتوارى خلف قصة السلحفاة والأرنب الشهيرة مبدأ في غاية الأهمية، مفاده أن النجاح رهين القواعد الراسخة، والخطط المدروسة بِتَروٍ.
يُذكرنا قانون السلحفاة بأن سباق التربية طويل، وأن التقدم فيه متدرج ووئيد. وحتى يشعر الأطفال بالأمان لابد أن يتعلموا أن الثبات و التماسك أهم من الحلول السريعة. إن قانون السلحفاة هو قانون التبصر الهادئ والمحاولة التي لا تستعجل النتائج.
أما قانون خرطوم الفيل فيحيل على ذلك المزيج الفريد من الحزم والمرونة، والصلابة التي يجللها الحنان. ولم يستطع العلماء حتى الآن ابتكار ذراع آلية، تحاكي الأداء المعقد لخرطوم الفيل الذي يحتاج إلى خمسين ألف عضلة منفصلة للتحكم في أدائه المذهل. فهو في غاية اللطف حين تعانق الأم طفلها، وفي غاية القوة حين تزيح بسهولة قطعة خشب قد تزن رُبع طن.
يوحي توازن الأداء هنا بما يجب أن يراعيه الآباء من انضباط في إغداق مشاعر الدفء و الحنان على صغارهم. فالحب دون انضباط يفسد الأبناء ويعيق انطلاقتهم الذاتية، أما الحب الخشن الذي يعبر عن نفسه بالإجراء الحازم والسقف المرتفع للمطالب، فجدير بأن يصيب العلاقات الأسرية بالتيبس والجمود.
وما يجعل أشجار السيكويا العملاقة أكثر دهشة، ليس ارتفاعها الذي يفوق مئة متر، أو وزنها الذي يبلغ ألفي طن فحسب، وإنما قدرتها العجيبة على التماسك والصمود في وجه أعتى الرياح والعواصف. وهي قدرة تستمدها من الدعم المتبادل بين “أفراد” الغابة الواحدة، حيث تتصل بشبكة قوية من الجذور تُمكن حتى الشجيرات الصغيرة من التعرض المستمر للرياح بثبات.
إن قانون السيكويا، أو الغابات الحمراء، يُذكر بالدور الذي تلعبه الجذور الثقافية والسلالية في حياة الأفراد، والأطفال على وجه أخص، من حيث الارتباط الوثيق بمنظومة الجذور الأسرية، وتعميق الهوية المشتركة والموروث القيمي الأصيل. ففي عالم غير متوازن يحتاج الأبناء إلى أن يعرفوا جذورهم، ويُقدروا صلاتهم المتبادلة ليسهل عليهم العيش مع الآخرين ومساعدتهم.
وقد تضطرنا المواقف الصعبة في أغلب الأحيان للهرب، والبحث عن راحتنا الخاصة. ولا نتورع كآباء عن تلقين أطفالنا طرق المناورة ،وترك الآخرعرضة للصعاب مقابل نجاتهم. غير أن قانون الدب يُحذر من دواعي هذا السلوك. والقصة مفادها أن دبا اعترض سبيل متسلقيْن للجبال، فأسرع أحدهما إلى حذائه يشد رباطه بقوة. ولما سخر صديقه من حرصه على الإفلات من الدب أجاب: لا أحاول أن أسبقه هو بل أن أسبقك أنت !
قانون الدب هو المسؤولية في حد ذاتها؛ ليس عليك الهرب منها بل مواجهتها، واكتساب القدرة على تحمل الأعباء الخطرة. أما حين ننظر للأمور بمنظار المتسلق الأول، فنحن نشجع صغارنا على اجتناب المسؤولية، وترك المعارك القاسية للآخرين.
وفي ارتباط بقانون الدب ، يضعنا أسلوب طهو الضفادع أمام مبدأ لا يقل أهمية فيما يتعلق بتحمل المسؤولية. ورغم أن الوجبة قد تثير الغثيان،إلا أنها تؤكد على مبدأ اليقظة، وعدم السماح للمشكلات بأن تكبر.
بعد اصطياد الضفادع توضع في قِدر به ماء بارد ثم توضع على النار. ولأن البيئة المائية الجديدة شبيهة بالتي تعيش فيها، فإن الضفادع تسترخي ولا تفكر في الهرب. ومع الارتفاع المتدرج للحرارة تشعر الضفادع بالمتعة، وتفقد الإحساس بالخطر إلى أن تنضج.
يحيل قانون الضفادع على ما يمكن تسميته بالنمطية المتحجرة؛ حين ننغمس في أعمالنا الرتيبة ولا ننتبه لإشارات الإنذار حول سلوك أطفالنا. ونشعر بالنعاس ونحن نتوهم أن كل شيء على مايرام. ثم تكبر المشاكل فلا نملك وسيلة للتعامل معها.
بعكس الضفدع علينا أن نغادر منطقة راحتنا وادعائنا بأن كل شيء بخير. وأن نتحلى باليقظة لنتابع ما يحدث لأطفالنا، ونتمتع بالحساسية والاهتمام تجاههم قبل أن ترتفع الحرارة، وتتحول إشارات الإنذار إلى كوابيس.
أما القانون الأخير فتسطره البراغيث بوثباتها المذهلة التي تصل إلى أكثر من مئتي ضعف طولها، ولألف وثبة في الساعة الواحدة، مما جعل الأوربيين خلال القرن التاسع عشر يُنظمون سيرك البراغيث كشكل من أشكال الفرجة.
لتدريب البراغيث على وثبات محددة يتم وضعها داخل علبة سجائر مغلقة. وبعد مدة يتم نزع الغطاء فتبدأ البراغيث بالقفز لكن إلى الحد الذي تعودته داخل العلبة. هكذا تلتزم بالمنظور الذي شكلته فلا تفكر في الوثب فوق الغطاء!
قانون البراغيث يدعوك لأن تفعل العكس تماما، فلا تحتجز الإمكانيات الهائلة لصغارك، ولا تعودهم على سقف أداء منخفض .إن مشكلة الحرية ترتطم عادة بغريزتين أبويتين نمتلكهما: حماية الصغار، وبلوغ الإنجاز العالي، وبالتالي نحاول حمايتهم بانتزاع حريتهم.
إذا كان صغارنا قد نشأوا داخل صندوق طفولة هو المنزل، فلا يعني ذلك أنهم نشأوا ليبقوا فيه، بل ليطيروا بعيدا. وجزء كبيرا من مسؤوليتنا الأسرية رهين ببلوغ الحرية الحقيقية التي تتعلق بالحماية والإمكانيات. بمعنى أن نجعلهم أحرارا ، ثم نتأكد من أن حريتهم بمنأى عن العوائق، سواء كانت الخطر الجسدي، أوالتحيز، أو ضيق الأفق والغباء.
لن نستطيع أن نعلم أطفالنا أي شيء مالم يتوافر المناخ الأسري الذي تحققه هذه القوانين التسعة. وتعمُّدُ إدراجها عن طريق الرموز والصور يتيح للعقل الباطن أن يبرمجها، ويحرص على استدعائها كلما جد جديد. فالإوزة أيقونة الالتزام، والضفدع عنوان اليقظة، و البراغيث منبه الحرية، وهكذا دواليك !