ربما كانت الصورة الأكثر منطقية للكاتب الذي يحظى بالشهرة: صورةً مكرورةً في إطارها العام مع اختلاف التفاصيل: كاتبٌ لا يعرفه أحد، يحاول ويحاول حتى يتشبث بأدنى درجات “السلم” الكتابي، ثم يصعد مرقاة مرقاةً، حتى يجد نفسه بعد سنوات من الممارسة والمحاولةِ واحداً من المقدّمين في عالم الكتابة، تشفع له سيرةٌ ذاتية طويلة، وأعمالٌ منجزةٌ تراكمت بتراكم السنين.

ولن يعجز المرء لو أراد الوصول إلى أمثلةٍ علي هذا اللون من الشهرة المنطقية، التي تأتي نتيجة شبه مؤكدةٍ لسنوات من العمل والكدح والانضباط.

ولكن هناك باباً آخر يفضي إلى الشهرة المبكرة التي يتسبب بها العمل الأول، وهي تشبه أن يحمل شخص عابرٌ مسدساً ويدخل ميدان الرماية فيصيب منذ الطلقة الأولى هدفاً متحركاً، على نحوٍ يعجز عنه الرماة المحترفون الذين يطالعون المشهد متعجبين!

وثمة أمثلةٌ على هذا اللون من المؤلفات الأولى، التي دفعت بمؤلفيها إلى الصدارة منذ الطلقة الأولى، وأحياناً الطلقة الوحيدة التي لا قبلها ولا بعدها.

أنجز الباحث الإنجليزي كولن ويلسون أكثر من مئة كتابٍ، في علم الجريمة، والظواهر الخارقة، والسير والتراجم، والفنتازيا والخيال العلمي، والفلسفة، والتاريخ، وعلم النفس، وتناول حياته الطويلة العريضة في بضعة كتب، لكن كتابه الأول “اللامنتمي” كان أشهر كتبه ويقال إنه كان أجلّ كتبه!

وأنجز الأديب الأمريكي بول أوستر عدداً كبيراً من الكتب: في السيرة الذاتية، والشعر، والرواية، وكتب للسينما والتلفاز، ولكن شهرته ضربت الآفاق منذ كتابه الأول: “اختراع العزلة”، الذي يحكي فيه شخصية والده المنطوي على نفسه إلى درجة مثيرة لكل مشاعر التعجب، ويزعم بعض من يقرأ الرجل أن أول كتبه يكاد يكون أجلّها!

ويمكن للشهرة أن تكون بسبب كتابٍ واحدٍ وحسب، لم ينجز المؤلف في حياته كلها غيره! ومن العجيب أن بعض هذه الكتب المفردة اتخذ لنفسه ولمؤلفه في التاريخ مكانةً غير عادية.
فسيبويه لم يترك وراءه إلا كتاباً واحداً هو المعروف بـ”كتاب سيبويه”، جمع فيه كل ما سمعه من شيخيه: الخليل بن أحمد الفراهيدي ويونس بن حبيب، وهو أول كتاب أُلّف في علم النحو.
والإمام مالك، لم يترك من المؤلفات إلا كتاب “الموطأ”، ولم يؤلف غيره على امتداد حياته التي قاربت قرناً من الزمان.

وكذلك ابن بطوطة، الذي أملى رحلته المسماة: “تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار”، وهو الكتاب الذي ضمن لابن بطوطة مقعداً في نادي المؤلفين الخالدين على مر القرون. ويقال هذا أيضاً عن ابن فضلان، وعن ابن جبير الأندلسي، فكلاهما لم يترك من الآثار إلا رحلته.

ولا بد من الإشارة إلى ابن أبي أصيبعة، الذي ألّف كتاب “عيون الأنباء في طبقات الأطباء”، ولم يؤلف قبله ولا بعده كتاباً غيره، ولكنه أمضى في تأليف كتابه ذاك سنوات طوالاً، أثمرت كتاباً فاخراً جمع تراجم المشاهير من أطباء بني آدم إلى عصر المؤلف.
ويصدق هذا على ابن النديم، الذي لم يؤلف إلا كتاب “الفهرست” الذي جمع فيه ما تيسر له من أسماء المؤلفين ومؤلفاتهم.

وللشهرة أبواب أخرى بطبيعة الحال، ويعرف الدارسون لتاريخ الأدب العربي ظاهرةَ “شاعر القصيدة الواحدة” الذي لم يُعرف عنه إلا قصيدةٌ يتيمةٌ قالها فذاعت واشتهرت واشتهر اسمه معها: المنخّل اليشكري، ودوقلة، وابن زريق، الذين عُرف كل واحد منهم بقصيدة واحدة رائعةٍ لاثاني لها في تاريخه.

بل لقد اشتهر بعض الشعراء ببيت شعر واحدٍ وحسب! كالشاعر الجاهلي ديسم بن طارق الذي قال بيتاً يتيماً غير قابل للنسيان:

إذا قالت حذام فصدّقوها * فإن القول ما قالت حذام!

وفي المؤلفين من يؤلف الكثير من الكتب، لكن لا يشتهر منها إلا كتابٌ واحد، حتى ليكاد يخفى على معظم الناس أن لذلك المؤلف من الولدان المخلدين غير ذلك الكتاب الذي ذهب بنصيب إخوته من الشهرة.. سل من تشاء من عامة الناس: ماذا يعرفون من مؤلفات الإمام البخاري؟ ومسلم؟ وأبي داود؟ والنسائي؟ والترمذي؟ وابن ماجة؟ لكل واحد من أولئك كتبٌ أخرى غير ما اشتهر عنهم، ولو فتحنا الباب للأمثلة لطال المقام ولما كفانا من القلادة ما أحاط بالعنق.

وأخيراً، فإن في المؤلفين من تطرق كتبه أبواب الخلود فلا يفتح لها الباب، ولا تكاد تجد من يعرفها، وربما ماتت بعض الكتب قبل موت مؤلفيها، وصار من العسير العثور عليها إلا بعد كثير من التنقيب والتفتيش!