بحلول شهر الله المحرم تتجدد ذكريات هجرة المصطفى عليه الصلاة والسلام من مكة المكرمة إلى المدينة النبوية، وهي المتبادرة إلى الأذهان عند إطلاق كلمة الهجرة، لأن بسببها تأسس للأمة الإسلامية دولتها الطيبة المباركة، وأرست قواعدها ومبادئها السمحة، وبرزت سيادتها وقيادتها القيمة الناجحة، والهجرة النبوية تعتبر لحظة نصر فارقة وخالدة، تجدد مروياتها مع بداية كل عام، كي ينهل المسلمون منها الدروس المهمة والعبر المفيدة في أمور الدين والدنيا، لكن مما يلاحظ خلال سرد روايات أحداث الهجرة النبوية عدم العناية والتمييز بين ما صح وما لم يصح من قصة الهجرة.
وذلك إما جهلا وتقليدا أو أخذا بمبدأ التساهل في الروايات غير باب الحلال والحرام، ولم يفرقوا بين مفهوم مصطلح الرواية ومصطلح الاحتجاج عند المحدثين، ولا سيما إذا عرفنا أن سيرة النبي عليه الصلاة والسلام جزء من سنته، حيث يرد فيها أشياء لها علاقة بالأحكام والاعتقاد كما هو الحال في بعض وقائع الهجرة النبوية الشريفة.
وعلى أية حال، التنبيه على درجة الحديث قبولا أو ردا من النصيحة الدينية الواجبة، وخاصة في الزمن الذى زهد كثير في علم الحديث، ولذا نوجز في الفقرات الآتية ذكر بعض قصص الهجرة التي لم يُثبت صحتها علماء الحديث صراحة أو تلميحا، وقد أفرد بعضها بالتأليف[1] أو بالدراسة لأهميتها وخطورة انتشارها في ثناء موضوعات الهجرة ودروسها في كل عام مع السكوت عن بيان حالها، ومن أشهرها ما يلي:
1 – قصة حضور إبليس مؤتمر دار الندوة
من غرائب ما رُوِيَ في مقدمات أحداث الهجرة النبوية قصة مشاركة الشيطان الأكبر في مؤتمر يراد به تدبير مؤمرات قتل نبي الله عليه الصلاة والسلام، وقد أفادت القصة أن صناديد قريش اجتمعوا في دار الندوة، وهي دار التي كانت قريش لا تقضي أمرًا إلا فيها فيتشاورون فيها ما يصنعون من أمر رسول اللَّه ﷺ حين خافوه، فلما اجتمعوا لذلك، في ذلك اليوم الذي اتعدوا له، وكان ذلك اليوم يسمى يوم الزحمة، اعترض لهم إبليس في هيئة رجل شيخ جليل عليه بت، فوقف على باب الدار فلما رأوه واقفًا على بابها، قالوا: من الشيخ؟ قال: شيخ من أهل نجدٍ، سمع بالذي اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى أن لا يعدمكم منه رأيًا ونصحًا، قالوا: أجل، فادخل، فدخل معهم…الخ[2]
ثم تولى إبليس تحكيم وإدارة المجلس وأصدر قرارا حاسما بقتل نبي الله موافقة لرأي أبى جهل دون أن يجد له معارضا في الندوة، وهذه القصة قصة مردودة في واقع التحقيق، وقلما يمر عليها مدقق النظر من أهل العلم بالحديث إلا ويردها، وهي قصة ليس لها إسناد مستقيم معتبر.
2 – قصة مبيت علي رضي اللّه عنه في فراش النبي صلّى اللّه عليه وسلّم
قصة إيثار علي رضي الله عنه وتعرضه للخطر ليلة الهجرة قصة مسطورة في كتب الحديث والتاريخ بصيغ مختلفة ولكن كلها معلولة لا تثبت، ومن ذلك أن النبي ﷺ قال لعلي في تلك الليلة: “يا علي، اتشح ببردي الحضرمي الأخضر، ونم على فراشي؛ فإنه لا يخلص إليك منهم مكروه إن شاء الله تعالى، ففعل ذلك، فأوحى الله تعالى إلى جبريل وميكائيل أني قد آخيت بينكما، وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر، فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة؟ فاختار كلاهما الحياة، فأوحى الله إليهما: ألا كنتما مثل علي بن أبي طالب، آخيت بينه وبين محمد عليه الصلاة والسلام، فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة؟….الخ
وهذه رواية كذب باتفاق أهل العلم بالحديث كما قال أبو العباس ابن تيمة[3]
3 – وضع النبي عليه الصلاة والسلام التراب على رؤوس الكفار عند الخروج إلى الغار
ورد في حديث سقيم حادثة حصار الكفار لبيت رسول الله ﷺ في الليل، وأنه عليه الصلاة والسلام خرج، وأخذ حفنة من تراب في يده … وأخذ الله على أبصارهم فلا يرونه، فجعل ينثر ذلك التراب على رؤوسهم وهو يتلو هذه الآيات: {يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين} [يس: 2] إلى قوله تعالى: {فأغشيناهم فهم لا يبصرون} [يس: 9] حتى فرغ رسول الله ﷺ من هؤلاء الآيات، فلم يبق رجل إلا وضع على رأسه ترابا ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب، ( أين انصرف وأين ذهب في هذه الليلة؟).
فأتاهم آت ممن لم يكن معهم فقال: ما ينتظر هؤلاء؟ قالوا: محمدا قال: خيبكم الله قد – والله – خرج عليكم محمد ثم ما ترك منكم رجلا إلا وضع على رأسه ترابا وانطلق لحاجته أفلا ترون إلى ما بكم؟ فوضع كل رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه تراب…الخ.[4]، والحديث فيه علة الانقطاع وغيرها.
ومن أجل عدم ثبوت هذه الواقعة “لم يعرِّج أكثر أئمة التفسير إلى ذكر هذه الأحاديث عند تفسيرهم للآيات السابقة من سورة يّس، مع عنايتهم بذكر سبب النزول، كالطبري والقرطبي وابن الجوزي والزمخشري، وأوردها ابن كثير نقلًا عن ابن إسحاق، بل ذكر أكثرهم سببًا آخر للنزول لم يثبت هو الآخر[5].
4 – قصة الغار وما جرى فيه
كفى آية ومعجرة في موطن الغار ما نطق به حديث مروي في الصحيحين من قول أبى بكر للنبي ﷺ: “نظرت إلى أقدام المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار، فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه، فقال: «يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما» [6]
ولا حاجة بعد هذا النص الصحيح – الصريح في تأييد الله تعالى ومعيته ونصره لعبده ورسوله – إلى روايات لم تسلم من النقد عند المحققين، مثل حكاية:
أ- وجود بيض الحمامتين ونسج العنكبوت ونبات الشجرة عند مدخل الغار
وقد ذُكر من أحداث الهجرة أن النبي ﷺ لما كان ليلة بات في الغار:
أمر الله تبارك وتعالى شجرة فنبتت في وجه الغارفسترت وجه النبي ﷺ.
وأمرالله تبارك وتعالى العنكبوت فنسجت على وجه الغار.
وأمر الله جل وعز حمامتين وحشيتين فوقعتا بفم الغار.
وأتى المشركون من كلبطن، وتقدم رجل منهم فنظر فرأى الحمامتين فرجع فقال لأصحابه: ليس في الغار شيء، رأيتُ حمامتين على فم الغار فعرفت أن ليس فيه أحد …الخ[7]
قال أبو تراب الظاهري-رحمه الله-:”وقد ورد أن حمامتين وحشيتين عششتا على بابه، وأن شجرة نبتت، وكل ذلك فيه غرابة ونكارة من حيث الرواية .. وفي رواية فيها غرابة ونكارة أن الحمامتين أفرختا، وأن حَمَام الحرم المكي من نسل تينك الحمامتين، وكل ذلك بأسانيد واهية.[8]
وقال الشيخ الألباني:” واعلم أنه لا يصح حديث في عنكبوت الغار والحمامتين على كثرة ما يذكر ذلك في بعض الكتب والمحاضرات التى تلقى بمناسبة هجرته ﷺ إلى المدينة، فكن من ذلك على علم.[9]
وهذا الكلام من الشيخ جاء بعد سبر جميع روايات حديث الباب، مع أن تضعيفه من أقوى ما يتمسك به عند الحكم على الحديث بالرد، ولذا لا يكاد يوجد نص صريح من أهل العلم بالحديث دال على صحة شيء في الباب، علاوة على أن متن الحديث لا يتفق مع ظاهر النص القرآني.
قال الشيخ في موضع آخر: ” ثم إن الآية {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا}فيها ما يؤكد ضعف الحديث؛ لأنها صريحة بأن النصر والتأييد إنما كان بجنود لا تُرى، والحديث يُثبت أن نصره ﷺ كان بالعنكبوت، وهو مما يُرى، فتأمّل.[10]
ب – تضحية أبى بكر بنفسه في الغار
كذا اشتهر في قصة ليلة الغار أن عمر بن الخطاب قال: والله لليلة من أبي بكر ويوم خير من عمر، ثم ذكر أنه لما خرج رسول الله هاربا من أهل مكة خرج ليلا فتبعه أبو بكر فجعل يمشي مرة أمامه، ومرة خلفه، ومرة عن يمينه، ومرة عن يساره.
فقال له رسول الله: ما هذا يا أبا بكر ما أعرف هذا من فعلك؟
قال: يا رسول الله أذكر الرصد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون خلفك، ومرة عن يمينك، ومرة عن يسارك؛ لا آمن عليك.
قال: فمشى رسول الله ليلته على أطراف أصابعه حتى حفيت رجلاه، فلما رآها أبو بكر أنها قد حفيت، حمله على كاهله وجعل يشتد به حتى أتى به الغار فأنزله، ثم قال: والذي بعثك بالحق لا تدخله حتى أدخله فإن كان فيه شيء نزل بي قبلك، فدخل فلم ير شيئا فحمله وأدخله.
وكان في الغار خرق فيه حيات وأفاعي فخشي أبو بكر أن يخرج منهن شيء يؤذي رسول الله فألقمه قدمه، فجعلت تضربنه أو تلسعنه الحيات والأفاعي وجعلت دموعه تنحدر، ورسول الله يقول له: يا أبا بكر! لا تحزن إن الله معنا، فأنزل الله سكينته إلا طمأنينة لأبي بكر…الخ[11]
والقصة مختلقة موضوعة، كما نبه على ذلك بعض الباحثين[12] ولا ينبغى الفرح بنشر مثل هذا.
جـ – ثبوت منقبة خاصة لأبى بكر بعد خروج من الغار
عن أنس قال لما خرج رسول الله ﷺ من الغار أخذ أبو بكر بغرزه فنظر النبي ﷺ إلى وجهه فقال يا أبا بكر الا أبشرك قال بلى فداك أبى وامى قال ان الله يتجلى يوم القيامة للخلائق عامة ويتجلى لك يا أبا بكر خاصة.
وهو حديث موضوع.[13]
5 – تشريف المدينة النبوية على مكة المكرمة بسبب الهجرة
من مشاهد الهجرة النبوية المنقولة؛ دعاء الوداع الذى دعا به النبي عليه الصلاة والسلام عند الخروج من أجواء مكة الحبيبة، كما روي ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: “اللهم إنك أخرجتني من أحب البلاد إليّ فأسكني أحب البلاد إليك” فأسكنه الله المدينة.
وصف الذهبي هذا الحديث بأنه موضوع ثم قال: فقد ثيت أن أحب البلاد إلى الله مكة.
ولما سئل أبو العباس عنه قال: هذا حديث باطل كذب. [14]
6 – خبر وعد سراقة بسواري كسرى
من أحداث شهيرة في طريق الهجرة النبوية أن رسول الله ﷺ قال لسراقة بن مالك- عند مطاردته وملاحقته له وأبى بكر كما في قصة جائزة مشهورة وصحيحة، وفيها هذه الزيادة الضعيفة أنه عليه الصلاة والسلام قال لسراقة – كيف بك إذا لبست سوارى كسرى؟
فلما أتى عمر بسواري كسرى ومنطقته وتاجه دعا سراقة بن مالك فألبسه إياهما، وكان سراقة رجلا أزب كثير شعر الساعدين وقال له: ارفع يديك، فقال: الله أكبر الحمد لله الذي سلبهما كسرى ابن هرمز الذي كان يقول أنا رب الناس وألبسهما سراقة بن مالك بن جعشم أعرابي رجل من بني مدلج، ورفع بها عمر صوته.[15]
والخبر في سنده انقطاع.
6 – قصة استقبال النبي عليه الصلاة والسلام بغناء: طلع البدر علينا
مما يتداوله العوام جيل بعد جيل من قصة الهجرة أنه لما قدم النبي ﷺ المدينة جعل النساء والصبيان والولائد يقلن :
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
وعلى شهرة نشيد طلع البدر علينا إلا أنه لا يصح عند أهل العلم بالحديث، وقال الحافظ ابن حجر: وهو سند معضل، ولعل ذلك كان في قدومه من غزوة تبوك.[16]
والخبر الصحيح الكافي في تصوير كيفية استقبال أهل المدينة النبي عليه الصلاة والسلام هو قول البراء بن عازب رضي الله عنه:” ثم قدم النبي ﷺ المدينة، فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله ﷺ، حتى جعل الإماء يقُلن: قدم رسول الله ﷺ.[17]