ليست القيمة بحدِّ ذاتها شيئا مجردا مستقلا في ذاته بعيدا عن سلوك الإنسان؛ وإنما هي مندمجة بطبيعة الحال في السلوك الإنساني برمته، بحيث يمكن أن نتّخذ من سلوك فرد ما دليلا على القيمة التي يؤمن بها. فالإنسان يمكن اعتباره على الدوام “حامل قيمة” تتجلَّى في أعماله كافة: في سعيه الدَّائب إلى الرِّزق، وفي بحثه المستمر عن العلم، وفي اكتشافه للظواهر العلمية المفيدة للإنسانية داخل مختبره ومعمله، وفي سهره على راحة أسرته ((كفى بالمرء إثمًا أنْ يُضيِّعَ مَنْ يقوت)).[ الترغيب والترهيب: 3/109] وما كلُّ أولئك بخارج عن معنى العبادة في الإسلام التي تُطلق على نوعين من الأعمال :

أحدهما: أنشأ الشارعُ حقيقتَهُ وصورته، فليْسَ يُعْرَفُ إلا عن طريقه، ولا يصح الزيادة أو النقص فيه، أو الابتكار والابتداع.

والآخر: يشمل أنواع النشاط الإنسانيِّ كلها، إذا ما وقعت بين ضابطين من “حُسن القصد، وشرف الغاية”. وهذا النوع يتشابك فيه الدّين مع بعض الفلسفات الخلقية والاجتماعية التي تتعرّض لأحوال الإنسان وشؤون حياته؛ فيما يؤكد الشيخ محمد الغزالي في كتابه “هذا دينُنا”. وقد دفع ذلك البعض إلى تأكيد أنّ الثورَة في القيم أكثر ضرورة من أيّ ثورةٍ أخرى؛ لأنّها أساسُ الثورة السيّاسية والاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافية.

فالقيم الروحية تُلْهِم العقل وتهديه سواء السَّبيل؛ خاصًة وأنّ العقل يُدرك الأمور على ما هي عليه، أمّا لماذا يُؤْثِر طريقا دون آخر؟ ولماذا تتحرَّك النفس في اتجاه دون آخر؟! فمرَدُّ ذلك إلى “منظومة القيم” التي يتعرَّف من خلالها الحقَّ من الباطل. وهذا الأمر تزداد الحاجة إليه اليوم في ظلِّ غلبة واتساع رقعة التقدُم التّقنيِّ الهائل الذي استولى على مجامع الإنسان المعاصر؛ فإذا به يكاد يتحوَّل إلى آلة من الآلات، وإذا بمسخ “فرانكشتاين” يتغوَّل على صانعه! ولعلّ ذلك هو ما يفسِّر لنا حركة النقد العلمية التي تتعاظم يوما من بعد يوم داخل بنية النسق العلميِّ الغربيِّ فإذا هي مُتساءلة عن سبب المعضلة الحضارية؟ وما إذا كانت ترجع إلى طبيعة الحضارة ذاتها، أم إلى فسادٍ في منظومة القيم والمثل التي ترافقها؟!

وبحسب كثير من الباحثين؛ فإنّ الآلة الأولى التي أبدعها الإنسان لم تكن الفأس ولا المنجل ولا العصا ولا المحراث، وإنما كانت الفخ الذي نصبه الإنسانُ الابتدائيُّ في رحلة الصيد لقنص الحيوانات وأسْرِها! ثم سُرعان ما تطور علم الإنسان حتّى وصل إلى معرفة قوانين الطبيعة، وبرع في استخدامها للسيطرة على القوى الكونية، إلى أنْ قهر المادة، وركب منكب الفضاء وجاوز الجوزاء، ونحن جميعا ندرك اليوم أنّ عالَمًا قديمًا يموتُ وآخر يُولد من جديد، وقد غدونا الآن مُرْهقي الحِسّ، شديدي التأثر والانفعال حيال كلِّ ما يتّصل بشرط وجودنا الماديِّ والمعنويِّ في هذه الحياة.

وليس أدلّ على أزمة القيم الغربية المعاصرة من التأثيرات السلبية المتعلقة بفكرة “الزواج وتكوين الأسرة” هناك. ففيما كان هذا الأمر في الماضي عبارة عن مصاهرة تتم بين أسرتين، أو عشيرتين، أو عرشين، أو مملكتين، وكان الزوج يفيد من الزواج مزيدا يحميه من خصومه ويوسّع نطاق نفوذه الاجتماعيّ، ويُخفِّف عليه شدّة الصدمة في أحوال النكبة المباغتة والمرض العضال، والقحط والغزو والغارات؛ إذا به في الحضارة الحديثة لا يخرج عن كونه عقدا يُعترف به في المجتمع بين شخصين مستقلين يتكاملان بالجنس من حيث رغبتهما الخاصة، وعاطفتهما المتبادلة!

وفيما كانت الأسرة قديما مدرسة ومعملا ومعبدا ومحكمة معا؛ إذا بها تفقد اليوم جُلَّ وظائفها حين اضطرت المرأة إلى العمل خارج المنزل، وأنيطت الوظائف الأسرية بمؤسسات وهيئات مختلفة لم تُبْقِ المرأةَ مُمرضة ترعى شيخوخة بعلها كما ظنَّ سقراط! بل صارت الدولة راعية للشيخوخة وبات الضمان ضمانا اجتماعيا عاما في كفالة الدولة أو النقابة، أو في ريع استثمار الثروة في الأسهم والسندات!

وهكذا لم تعد النظم مستقرة والعقائد ثابتة، وإنما تزعزعت وتأرجحت وتهافتت بفضل ضغوط الحياة. وبينما كان الإنسان يطمح إلى أن يعيش أحفاد أحفاده في رغد من العيش – ولذا يُوقِفُ من أجلهم الأوقاف- إذا به لا يفكر إلا في حدود نفسه أو أسرته على أبعد تقدير! بعد أن تغيّر وجه الحياة في العالم الحديث، وصحِبَ كلُّ تغير مادي تبدّل في نظرة الإنسان.

والواقع الذي لاشك فيه أنّ الأزمة في عنفوانها إنما هي عبارة عن أزمة انقطاع الاتزان بين ما يخلق الإنسان، وبين الأهداف المثلى التي يترتب على البشر التزامها فيما وراء الاختراعات، أزمة خوف وحيرة وقلق وهلع، إنها أزمة انخلاع القلب والعقل، وهي تفرض على إنسان اليوم أن يعيش عيش إبليس، يحيا بانتظار الموت، ويرقب، وهو مشتت اللب، خائر الفؤاد، فاقد الرجاء، اطباق موت ذري ينزل عليه ويحيق به كالقدر المحتوم، فيمحو كيانه وحياته، ويمحو كل كون وحياه.

لذا يتساءل كبار المفكرين اليوم عن سر المأساة الفاجعة التي جعلت الشجاعة الحديثة عبارة عن شجاعة عناد، والذكاء ذكاء يأس، والتفاؤل تفاؤل الحماقة الأخيرة: حماقة الأمل! نعم حماقة الأمل التي تعبّر عن أقصى شعور يمزّق وجود الإنسان في المجتمع الحديث. ففي الوقت الذي تغلّبَ فيه الإنسان بجدارة على الطبيعة أطلقَ المارد من قمقمه فأخذته عزة الخلق بالإثم، وكبرياء الإبداع بالجهالة، ونمت قدراته المادية على حساب إيمانه الروحيّ، بعد أن أوقعت الآلة/الفخ في شراكها الإنسان المعاصر. بمعنى آخر: لقد اصطادت الآلةُ ربّها! وجعلت فريستها الإنسان حتّى غدت أزمته هي أزمة الآلة التي اخترعها لتحل محلّه وتقوم نيابة عنه بكافة الأشياء التي من المفترض أن يقوم بها بنفسه. ونتيجة لذلك؛ أصيبت القيم الدينية والأخلاقية في مقتل حين شابها التخلف والجمود، ولم تكن وحدها بطبيعة الحال من مات! وإنما سارع نيتشة “المجنون المحترم” بإعلان وفاة الإله، وموت الفلسفة، وتبعه آخرون من أنبياء الفجر الكاذب مبشِّرين بنهاية التاريخ، وموت الإنسان!

صحيح أنّ الرأي السابق قد يراه البعض معبِّرا عن فئة العقائديات المتشائمة في المقابل من فئة الفلسفات المتفائلة، إلا أنّ الأخيرة هي الأقل حظا وذيوعا وعمقا في آن معا. وفي الأحوال كلّها؛ فإن أحدا لا ينكر حقيقة أنّ التقدم التقنيِّ الهائل يُيسِّر رفاه الإنسان من الناحية المادية، لكنه – في الوقت ذاته- يُشكِّلُ عامل ضغط مستمر على منظومة قيمِه وحياته الروحية وعاداته؛ لدرجة أنّ منظومة عادات الهِمَّة والدأب والنشاط فسدتْ برمّتها إزاء هذا الضغط المتنامي والمستمر! فالآلات – إذ تُلبّي احتياجاتنا تلبية إجمالية رتيبة- تقتلُ في الوقت نفسه إمكانات الإنسان الإبداعية، وتفرض علينا أن نعيش متماثلين بحيث لا يتميز إنسانٌ على آخر بأصالة أو إبداع! فضلا عن أنها تردينا من حيث تزعُمُ أنها تنْهَضُ في خدمتنا على الدوام!