اعتدنا أن نقرأ في الأديبات الإسلامية عن أركان الإسلام الخمسة، وأركان الإيمان الستة، وغير ذلك من المفاهيم والكُلِّيات التي ترسم طريق الدخول في الإسلام، أو تصوِّر بعض معالمه الأساسية..

 

غير أننا قليلاً ما نلتفت للأصول العامة للإسلام التي جعلته يشكِّل علامة فارقة في حياة العرب بل والناس جميعًا، ومكَّنته من أن يتغلب على ما سبقه من مدنيَّات وحضارات.. بحيث لا ينحصر الذهن في الأصول التي يدخل بها المرء في الإسلام، وإنما يضم لذلك أيضًا الأصولَ التي تجعله فاعلاً منفعلاً فعَّالاً بالإسلام.

وقد اهتم الأستاذ محمد فريد وجدي رحمه الله، بهذا الأمر في كتابه المهم (المدنية والإسلام)، الذي صدرت طبعته الأولى في عام 1898م.. وفريد وجدي (1878- 1954) هو من أبرز مفكري القرن العشرين في نصفه الأول، وهو صاحب ثقافة موسوعية ضمت علوم الاجتماع والفلسفة والأدب إلى جانب تضلعه في الثقافة الإسلامية؛ وهو ما انعكس في عمل جليل له مثل (دائرة معارف القرن العشرين).

يشير فريد وجدي في كتابه (الإسلام والمدنية) إلى أن الأمم تشهد تدافعًا في عالم الأفكار، كما تشهد التدافع ذاته في عالم المادة.. وكما يغلب القويُّ الضعيف، أو يهزم الصحيحُ المريض؛ فكذلك تتبادل المواقعَ الأصولُ الفكرية والاعتقادية للحضارات المختلفة. [وهذه الأصول الفكرية والاعتقادية تلخِّص ما تناولناه في مقالات سابقة عما يُسمَّى: (النموذج المعرفي)؛ الذي يشكِّل المعالم الكلية لفكرةٍ أو لحضارةٍ ما]

فيقول صاحب (الإسلام والمدنية): “الأصول العلمية والاعتقادية تتنازع الحياةَ، كما تتنازعها الأمم؛ فيغلب الأكمل منها ما عداه ويبيده ويستولي على العقول والأرواح دونه.. ولا يزال سائدًا حتى يأتي ما هو أكمل منه، فيتغلب عليه كما تغلَّب هو على ما سبقه؛ وهلم جرا. هذه سنة الله في الأمم من يوم وجودها إلى اليوم. نعم، قد يتغلب الباطل على الحق أحيانًا؛ ولكنه لا يتغلب عليه إلا إذا كان الحق قد أُلبِس لبوس الباطل، وصار بما شيب من الأضاليل أشد ضررًا من الباطل نفسه”.

ثم يوضح أننا إذا قلنا: جاء الإسلام فتغلَّب بأصوله على جميع الأصول التي كانت قائمة على عهده؛ فمعنى ذلك أن أصوله كانت أكمل من تلك الأصول القديمة وأصلح منها للأمم.. مبينًا أن الإسلام لم يتغلب على الرومانيين والفارسيين بقوة سلاحه ونظام جنوده؛ ولكنه غلبهم بسلامة أصوله وأصالة تعاليمه.

ويتساءل وجدي: فماذا كانت تلك الأصول الإسلامية التي تغلَّبت على الأصول القديمة، وانتهى الأمر بأن قادت العقول والأرواح؟.. وأجاب أن هذه الأصول تتلخص في ثلاثة عشر أصلاً.. سأوجزها- بكلماته- إيجازًا شديدًا:

الأصل الأول: التخليص بين الإنسان وخالقه

فقد كان الرجل من أهل الملل السابقة تحت وصاية الكهنة، حتى في خطرات نفسه وهواجسها؛ ولم يكن يبرم أمرًا أو ينقضه، في شئونه الخاصة أو العامة، إلا بإقرار رجال الدين عليه.. فتغلب رجال الدين على عقول الأمم، بما يستتبع هذه العبودية من وقوف حركة الأفكار، ونضوب معين العقول، وتعطل حياة الشعور.

لكن بهذا الأصل الإسلامي خَلُص ما بين الإنسان وربه؛ فلم يعد تابعًا لأحد من إخوانه في البشرية، ولم يَرَ لرجل مثله فضلاً عليه من وجهة روحانية.. وكان هذا الأصل أول حجر وضعه الإسلام في أساس الحرية الإنسانية الصحيحة.

الأصل الثاني: تقرير المساواة العامة

فكان الناس قبل الإسلام ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: رجال الدين، رجال الحكومة، العامة.. والقسمان الأولان يتسلطان على العامة، ويُسخّرانهم لخدمتهما.. فجاء الإسلام وقرر أن الناس جميعًا سواسية؛ أبوهم آدم وأمهم حواء، لا فضل لأبيض على أسود إلا بالتقوى.. ولم يعد للكبراء والقادة ما كان لهم من مزاعم في احتكار السلطة وتوريثها.. وهكذا ترسخت الكرامة الاجتماعية.

الأصل الثالث: تقرير مبدأ الشورى في الحكومة

فقد كان الناس من قبل يعتقدون أنهم خُلقوا لأن يطيعوا طائفة الحاكمين طاعة عمياء.. وهل كانت المجالس الشورية في أثينا وروما، إلا من حظ طائفة الأشراف دون سواهم!

فلما جاء الإسلام قلب هذا النظام رأسًا على عقب، وجعل لكل فرد حق الرقابة على الحكومة وإبداء الرأي في الشئون العامة: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: 38)، {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل عمران: 159).

وبهذا الأصل علم كلُّ مسلم أن له حظًّا من إدارة شئونه العامة؛ فلم يعد يعتبر نفسَه آلة في يد الرؤساء، ولا جسمًا مهملاً في بناء الاجتماع. وناهيك بأمةٍ ينبت مثل هذا الشعور العالي في جميع آحادها، وتنتشر آثاره في حركاتها وسكناتها.

الأصل الرابع: تعليق السعادة والشقاوة في الحياة الأخرى على الأعمال والصفات الذاتية، لا على الشفاعات والقرابات

أما قبل الإسلام فكان الناس يعتقدون أن أمر العالم الروحاني بيد رؤساء الدين؛ لا رادَّ لإرادتهم فيه؛ فهم المسعِدون والمشقون! حتى مرنت الشعوب بهذه الوساوس، وصارت الذلة ألصق بها، وفقدت نخوة الأحياء وعزتها.. وأصبح الآخذون بتلك الأديان كالآلات الصماء في أيدي الرؤساء يرمون بهم حيث يشاءون.

فجاء الإسلام وقرر أن مناط السعادة في الدنيا والآخرة هو الأعمال الشخصية.. {كُلُّ نَفْس بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} (المدثر: 38)، {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} (النجم: 39، 40). وقال صلى الله عليه وسلم لابنته: “اعملي يا فاطمة؛ فإني لا أغني عنكِ من الله شيئًا”..

فنتج من هذا الأصل: الاعتماد على الذات، والثقة بالقوى النفسية، والاعتقاد بأنها كافية في إيصال الإنسان لأرقى ما يتوق إليه من درجات السعادة المرجوة في هذه الحياة وما بعدها.

الأصل الخامس: الاعتراف بحقوق العقل والعلم

فبدلَ أن كان يُعتقد أن الدين والعقل نقيضان لا يجتمعان، وعدوان لا يتفقان؛ قرر الإسلام أن العقل مناط التكلف، ومحك التمييز بين الحق والباطل، وأكثَرَ القرآن من ذكر الحق في مثل قوله: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} (آل عمران: 65)، {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (الملك: 10)، {وتلك الأمثال وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} (العنكبوت: 43).

وبهذا الأصل تحرَّرت العقول من أسْر العقائد الباطلة، وظهر الدين لأول مرة مؤاخيًا للعقل، معتضدًا به في تقرير المعتقدات، وتحديد المعاملات؛ فكان هذا فاتحة عصر جديد دخل به الدين في مجال المقررات العلمية، بعد أن كان مطروحًا في زوايا التوليدات الخيالية.

الأصل السادس: المؤاخاة بين الدين والمدنية

فلأجل أن يقبض قادة الأديان على نواصي الأمم ويسخروها لأهوائهم، خشوا أن تكون السعادة الجسدية مغرية للإنسان إلى التملص من سطوتهم؛ فمزجوا تعاليم الدين بما ليس بمنها، من الدعوة إلى الذل والاستكانة، وحبَّبوا إليهم الزهد والتقشف.. فوقر في النفوس أن الدين ينافي كل عمل يؤدي إلى النعيم البدني، وخبتت كلُّ نزعة تبدو من الأمم لطلب الرقي والمدنية.

فقرر الإسلام أن الدين ليس عدوًا للمدنية، بل هو دليها الصادق ومرشدها الخبير؛ فقال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (الأعراف: 32)، {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} (القصص: 77).

الأصل السابع: تنبيه الإنسان إلى أن للوجود الإنساني سُننًا لا تتبدل

فالجماعات البشرية في مجموعها كائنات حية؛ لها أدوار تأتي عليها، وحالات تدخل فيها، ولكل دور شئون ومقتضيات، ولكل حال لوازم وعلاقات..

والأمم المتشبعة بمثل هذا الأصل الاجتماعي يستحيل عليها الاستخذاء لعظيم، أو الاعتماد على فرد مهما بلغ شأنه من شرف المولد وكرامة المحتد. وناهيك بهذه النزعة سائقًا إلى الحرية الصحيحة والديمقراطية الحقة.

الأصل الثامن: لفتُ الإنسان لنظام الطبيعة وتوجيه نظره لأسرارها الخفية

بما يستتبع ذلك من استكناه نظام الكون، واستكشاف أسراره، وتدريب الأمم على محاكاة صنائع الله في الإبداع والإحكام.. {قُلْ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} (يونس: 101).

الأصل التاسع: الاعتراف بحقوق ميل الإنسان وعواطفه

من الغذاء والكساء والزواج، مع الاعتدال وعدم الإسراف، فضلاً عن رفض الكبت والحرمان.. وبهذا حفظ الإسلام لمتبعيه جميع صفات الأمم الحية المستأهلة للتدرج في مراقي الكمال البشري.

الأصل العاشر: توحيد العالم في دائرة المعاملات

أي أن دائرة المعاملات- بما تشمله من حفظ الحقوق وصيانة الحرمات- تشمل الناس جميعًا، ويستفيدون منها.. وليس مثل البعض حين يدعو لحفظ الأموال والحرمات بين أتباعهم فقط، ولا يبالون بها إذا كانت تخص أقوامًا آخرين!

إن هذا الأصل يُعتبر في ذاته آية على حقِّية هذا الدين؛ فإن هذا التسامح الديني لا يكاد يعرفه العالم إلى اليوم، وإن أوروبا الحالية- على ما حصَّلته من علم ومدنية- لا يزال يُرى منها جنوح عن مثل هذا المبدأ الكريم في أحوال كثيرة!

الأصل الحادي عشر: الاعتراف بناموس الترقي

فليس فيما بين أيدينا من الأديان التي سبقت الإسلامَ دين يرفع بالرقي الإنساني رأسًا، أو يأبه بحصول الناس على ما ينفعهم في أمر حياتهم.. لكن الإسلام اعترف بناموس الترقي، واعتبر الإنسان مسوقًا لغايات من المدنية بعيدة. فهبَّ المسلمون هبة رجل واحد؛ فأخذوا كل ما رأوه من علم نافع وصناعة محكمة، وجمعوا بين مدنيات الفرس والرومان واليونان والهنود.

الأصل الثاني عشر: تقرير أن الدين شُرع لخير الناس ومصلحتهم لا لتسخيرهم وإذلالهم

{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} (المائدة: 6).. فأين هذا من قوم يعتقدون أن الدين لم ينزل إلا لتسخيرهم وإذلالهم، ولا يرونه إلا عبئًا ثقيلاً عليهم؛ وبالتالي يسعون للتخلص منه؟!

الأصل الثالث عشر: حرية البحث والنظر

فأباح الإسلام لمتبعيه البحث والنظر في الأصول الإسلامية، ناهيك عن أنه طلب التمسك بالدليل وكره الإيمان بالتقليد؛ فكانت هذه الإباحة فاتحة رقي كبير في الأفكار وثمراتها، وفي تعدد الآراء والأفهام.. بخلاف أديان سبقته؛ كان قادتها يحرقون بالنار كل من يذهب إلى فَهْم يخالف فهمهم!

إذن، هذه هي أصول الإسلام؛ التي هي- كما يقول الأستاذ محمد فريد وجدي- من خصوصيات الإسلام، والتي بها غالَبَ الإسلامُ جميعَ العقائد التي كانت منتشرة على عهده، فغلبها؛ وحلَّ من النفوس والعقول محلَّها.

فلماذا انحط المسلمون وفيهم هذه الأصول؟! وماذا جرى لتلك الأصول حتى لم تعد تفعل فعلها: من الرقي بأصحابها، والبلوغ بهم إلى درجات عليا في سلَّم الحضارة؟!