الأمر النبوي: ” أعطوا الطريق حقه “، يصح أن نقرأه قراءة حضارية نحن بحاجة إليها؛ وذلك بأن ننقله من سياقه الذي ورد فيه، وهو سياقٌ أخلاقيّ يهتم بمراعاة آداب الطريق، إلى سياق أعم وأشمل، وهو سياق حضاري ينصبّ على كل ما نحن بصدده من شئون النهوض والعمران والتحضر.

حديث : أعطوا الطريق حقه

فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “إِيَّاكُمْ وَالجُلُوسَ بِالطُّرُقَاتِ”. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لَنَا مِنْ مَجَالِسِنَا بُدٌّ نَتَحَدَّثُ فِيهَا، فَقَالَ:”«إِذْ أَبَيْتُمْ إِلَّا المَجْلِسَ، فَأعطوا الطريق حقه”. قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: “غَضُّ البَصَرِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلاَمِ، وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ” (أخرجه البخاري ومسلم).

فهذا حديث جامع يبين آدابًا مهمة تتصل بأمرٍ أساس في حياة الناس، وهو الطريق وآدابه. قال النووي: “هَذَا الْحَدِيثُ كَثِيرُ الفوائد، وهو من الْأَحَادِيثِ الْجَامِعَةِ، وَأَحْكَامُهُ ظَاهِرَة،ٌ وَيَنْبَغِي أَنْ يُجْتَنَبَ الْجُلُوسَ فِي الطُّرُقَاتِ لِهَذَا الْحَدِيثِ. وَيَدْخُلُ فِي كَفِّ الْأَذَى اجْتِنَابُ الْغِيبَةِ وَظَنِّ السُّوءِ وَإِحْقَارِ بَعْضِ الْمَارِّينَ وَتَضْيِيقِ الطَّرِيقِ، وَكَذَا إِذَا كَانَ الْقَاعِدُونَ مِمَّنْ يَهَابُهُمُ الْمَارُّونَ أَوْ يَخَافُونَ مِنْهُمْ وَيَمْتَنِعُونَ مِنَ الْمُرُورِ فِي أَشْغَالِهِمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ لكونهم لا يجدون طريقا إلاذلك الْمَوْضِعِ” (شرح صحيح مسلم، 14/ 102).

وقد جاء التعبير عن مراعاة آداب الطريق وحقوق الناس فيها، بكلمة ذات دلالة بليغة، وهي: ” أعطوا الطريق حقه”؛ فهي تفيد أن “الطريق” وهو مكان مرور الناس إلى شئونهم وحوائجهم، له “حقوق” أي أمور لازمة له ينبغي أن يستوفيها، وليس مجرد آداب قد يفعلها المرء أو لا يفعلها.

وبالتالي، فهذه “الحقوق” يبنغي أن تُؤدَّى حتى تستقيم علاقات الناس بعضهم ببعض، وحتى يكون “الطريق” صالحًا للجلوس فيه أو المرور منه..

وهكذا كل أمر نحن بصدده من شئون الحياة؛ سواء اتصل بأمور النهوض والعمران، أو اتصل بحياتنا الفردية والأسرية والاجتماعية، أو اتصل بحياتنا الروحية والسلوكية.. فكل أمر إنما هو طريق، له حقوق يتطلبها، وعلينا أن نبذل تلك الحقوق من غير انتقاص أو تزيّد، ودون إفراط ولا تفريط.

في النهوض والعمران

نعم، طريق النهوض والعمران له حقوق، هي سنن الله تعالى في التغيير والإصلاح، وما يترتب عليها مِن صعود الأمم والمجتمعات أو انحدارها، ومِن نجاتها في الدنيا والآخرة أو شقائها وخسرانها: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) } (طه: 123، 124).

والملاحظ أن البعض، لاسيما في أزمنة التراجع الحضاري، يريد أن يقطع طريق النهوض والعمران، وأن تكون له اليد الطولى والكلمة العليا؛ لأنه فحسب ينتمي إلى أمة الكتاب الخاتم والرسالة التامة، غافلاً عن أن طريق النهوض والعمران له أسباب وسنن، ويتطلب سعيًا وبذلاً، وأن معونة الله تعالى لا تكون للكسالى، ونصره لا يتنزّل على الغافلين!

إن حيازة المنهج الصحيح تعني حيازة قارورة الدواء، وعليك أن تتناول هذا الدواء وتصبر على تبعاته أو “مرارته”، وتراعي إرشادات الطبيب.. أما مجرد حيازة الدواء دون تناوله والصبر عليه والانتظام في أخذ جرعاته وبدقة شديدة، فإن ذلك لا يحقق العافية ولا يُغني شيئًا!!

ولنا في سيرة النبي الأسوة الحسنة والقدوة الطيبة؛ فهو أكرم الخلق على الله تعالى، ومع هذا لم يقصّر في اتخاذ الأسباب، وأَخْذ الحيطة والحذر، والصبر على مشاق الطريق وأذى المشركين.. حتى استقام له الأمر، ودانت له العرب، وتم له الفتح، ثم وجّه رسائله للقوى الكبرى من حوله، وفتح للمسلمين من بعده آفاق الانتشار والتوسع شرقًا وغربًا.

في شئون الاجتماع

وهذا طريقٌ ثانٍ له أيضًا حقوق ينبغي أن نبذلها، وآداب علينا أن نراعيها؛ فعلى مستوى الفرد نرى أن السعي في الحياة، والنجاح الوظيفي، وإثبات الذات وتحقيق آمالها؛ إنما هو طريق شاق لا يتأتى بين يوم وليلة، إنما يتطلب العمل والبذل والصبر وتحصيل المؤهلات وتجديد المهارات باستمرار.

ثم هناك طريق الأسرة بما يستلزمه من الاحترام المتبادل، والجهد المتساند، والصبر من الطرفين تجاه بعضهما البعض، والتجاوز والتصافح والتغافر.

ويأتي طريق المجتمع ليعني ضرورة الانشغال بالإصلاح، وبذل الجهد في ذلك بقدر الوسع وبحكمة ووعي.. إضافة إلى فعل الخير، والتواصي بالحق وبالصبر، والشعور بالمسئولية المجتمعية بما تعنيه من العمل التطوعي، والمشاركة بالتخصص فيما يعود بالنفع على الآخرين.. فطريق إصلاح المجتمع طريق طويل وعمل شاق يستحثّ أبناءه جميعًا على المشاركة والمساهمة.

في الروح والسلوك

والروح أيضًا لها طريقها، من الانشغال بالعبادة والإكثار منها والإخلاص فيها، مع تنويع العمل ما بين صلاة واستغفار وذكر وتسبيح وقراءة للقرآن وفعل للخيرات.. فإن ذلك مما يصعد بالروح في مدارج السالكين ومنازل السائرين.. وليس طريق الروح مما يُقطَع بقيام ليلة ولا بصيام نهار! وإنما هو بطول امتداد الحياة، وبعرض أعمالها وسائر نشاطاتها: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} (الأنعام: 162، 163).

والجوارح لها طريقها هي الأخرى؛ حتى يستقيم السلوكُ على مراد الله تعالى، فعلاً لما أمر، واجتنابًا لما نهى؛ وهذا لا يكون إلا بإشغال الجوارح بالطاعات، وبحملها على ما يرضي الله تعالى، ومجاهدتها فيما تكره.

عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَإِنَّمَا الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، مَنْ يَتَحَرَّى الْخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَّقِ الشَّرَّ يُوقَهُ” (قال الألباني في “الصحيحة”: إسناده حسن أو قريب من الحسن).

خلاصة

وما نريد أن نختم به هذا المقال هو أن أمور الحياة على اختلافها وتشعُّبها إنما هي طُرق، وكل طريق له حقوق ينبغي أن تُؤدَّى وآداب يجب أن تُراعَى؛ حتى يمكن لهذا الطريق أن يحقق وظيفته، ويصل بصاحبه إلى غايته.. وإلا ضللنا الطريق، وتاهت بنا الأقدام!!

فالوصول إلى الله تعالى طريق.. وتحقيق الآمال طريق.. والسعادة الزوجية طريق.. وعمران الأرض طريق.. والحضارة المنشودة طريق.. وقبل أن نشغل أنفسنا بالنتائج والنهايات، علينا أن نسائلها عن حقوق الطريق علينا وواجباتنا تجاهه..

أما من يريد أن يتجاوز الحقوق، أو يتكاسل، أو يبخسها حقها، أو يريد الحصول على النتائج دون عمل، وعلى الثمار دون رعاية.. فلكل هؤلاء نقول: أعطوا الطريق حقه؛ دون استعجال أو استبطاء، ودون تهاون أو تكاسل.. وإنما أعطه حقه، بالمقدار الذي يصلحه، ويُكسبه الفاعلية، ويستديم ثمرته..