الحديث عن الحكمة في أعياد المسلمين يقودنا دون شك إلى سيرته عليه الصلاة والسلا، فحينما قدم النبي ﷺ المدينة المنورة، وجدهم يحتفلون بيومين، ولما سأل ﷺ عن سبب ذلك، قالوا: يَوْمَانِ كُنَّا نَلْعَبُ فِيهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَقَالَ ﷺ: “إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا؛ يَوْمَ الأَضْحَى، وَيَوْمَ الْفِطْرِ” (رواه أبو داود في سننه، والحاكم في المستدرك وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه).
في هذا الحديث الشريف نستطيع أن نلمح عدة أمور مهمة، تتصل بفلسفة أعياد المسلمين وحكمتها في الإسلام، وبما ينبغي أن يكون عليه حال المسلم فيها:
وأول ما نلمحه هو موقف النبي ﷺ؛ حين رأى سلوكًا جماعيًّا من الناس، فلم يفوت المناسبة وبادر بالسؤال لاستجلاء حقيقة الأمر، قبل أن يبدي رأيه موافقةً أو مخالفةً.. وهذه نقطة مهمة ينبغي أن نتعلم منها التأني في الحكم على ما يقابلنا، ونتعلم التثبتَ قبل تخطئة الآخرين.
وهكذا الداعية؛ يعيش بين الناس، ويلاحظ أحوالهم، ويتفقدها بالنصح والتوجيه المصحوبين بالرفق واللين، واختيار التوقيت المناسب وألطف العبارات.. فهو كالطبيب؛ يسعى في شفاء مريضه، مع إبداء الشفقة والعناية به.
ثانيًا: بعد أن تبيَّن النبي صلى الله سلم طبيعة الحدث الذي هو بصدد، قام بتوجيه مساره الوجهة الصحيحة، ودلَّهم على “البديل” الذي يستوعب الطاقات الإنسانية المشروعة.. فالمسلم لا يسير مع الناس هكذا، دون موقف ذاتي منه.. ولا يسكت عن مخالفة شرعية.. كما أنه مَعْنِيّ ليس فقط بالتنبيه على الخطأ الموجود، بل بالبحث عن البدائل، وفتح النوافذ للرغبات المشروعة؛ حتى لا تُكبَت أو يَلجأ الناس للحيل والتنصل من الواجب..
وكما جاء في (عون المعبود على شرح سنن أبي داود): اليومان هما يوم النَّيْرُوزِ ويوم الْمِهْرَجَانِ، كذا قاله الشراح. وفي القاموس النيروز أول يوم السنة، وهو أول يوم تتحول الشمس فيه إلى برج الْحَمَلِ، وهو أول السنة الشمسية، كما أن غرة شهر المحرم أول السنة القمرية. وأما مهرجان فالظاهر بحكم مقابلته بالنيروز أن يكون أول يوم الميزان، وهما يومان معتدلان في الهواء لا حر ولا برد ويستوي فيهما الليل والنهار؛ فكأن الحكماء المتقدمين المتعلقين بالهيئة اختاروهما للعيد في أيامهم، وقلدهم أهل زمانهم لاعتقادهم بكمال عقول حكمائهم، فجاء الأنبياء وأبطلوا ما بَنَى عليه الحكماء. أ.هـ
فالنبي ﷺ لم يكتفِ بأن منع المسلمين عن الاحتفال بأيام لا تتوافق مع مفاهيمهم ورؤيتهم، وإنما أوجد لهم البديل؛ وهي أعياد المسلمين التي لا تتصادم التوجيهات بما جُبل عليه الإنسان.. والفرح هو مما فُطر عليه الإنسان، مثل الحزن، ومثل الضحك والبكاء.. إلخ.
ثالثًا: نعم، الشعور بالفرح، وإدخال السرور على النفس وعلى الآخرين، هو مما جُبل عليه الإنسان، ولا يستغني عنه.. وله مساحة في حياة الإنسان، كما أن لبقية المشاعر الأخرى مساحة ومكانًا.. ولا ينبغي مصادمة هذه المشاعر، بل توجيهها الوجهة الصحيحة، وضبطها بميزان الشرع والعُرف.
ولهذا، فالنبي ﷺ لم يُنكر على الناس احتفالهم، وإنما أنكر اليومين اللذين خصصوهما للاحتفال، ودلهم على نقل الاحتفال إلى يومين آخرين.. فهو ﷺ لم ينكر “الفعل”، إنما أنكر “الظرف الزماني”.
وللأسف، يجهل البعض أن الإسلام يهتم بأعياد المسلمين، فإدخال السرور والبهجة على النفس وعلى الآخرين، مقصدٌ إسلامي نلمحه في كثير من التوجيهات والتشريعات؛ فالإسلام لا يقصد إلى إعنات الناس، أو إيقاعهم في الضيق والحرج، أو كبت مشاعرهم الفطرية الطبيعية..
ولهذا جاء “الفرح” في القرآن الكريم ممدوحًا ومذمومًا، بما يدل على أنه ليس مطلوبًا ولا مرفوضًا لذاته؛ وإنما بما يدل عليه ويرتبط به.. فجاء في قصة قارون، أن قومه نصحوه قائلين: {لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} (القصص: 76)، بعد أن خرج عليهم مختالاً بطرًا..! وفي مقابل هذا، جاء قوله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (يونس: 58).
كما جاء قوله أيضًا، في سياق أعم، من بيان مشروعية التمتع بما أحل الله من زينة وطيبات: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (الأعراف: 31، 32). ولنلاحظ هنا، الدلالة المهمة لإضافة كلمة “الزينة” إلى “لفظ الجلالة” في قوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ}!
رابعًا: إن النفس الإنسانية كما تحتاج إلى “العبادات” التي تورثها حظها من السكينة والطمأنينة والخشوع والإخبات؛ هي أيضًا بحاجة إلى “الفرح” الذي يورثها حظها من البهجة والحبور والمتعة.. حتى تتقوى النفس بهذا- الفرح- على ذاك.. وحتى تُشبع ما رُكِّب فيها، بالوسائل الحلال والطرق المشروعة.. وحتى- وهذه نقطة مهمة- تكون هذه الفرحة وتلك المتع والطيبات تذكيرًا للنفس بما ينتظرها من نعيم مقيم في الآخرة، إنْ هي استقامت على أوامر الله تعالى.. مع الفارق طبعًا بين متع الدنيا ومتع الآخرة؛ فكما قال ابن عباس، موقوفًا عليه: “ليس في الجنة شيءٌ ممَّا في الدنيا إلا الأسماء”!
خامسًا:أن أعيادنا تأتي بعد مواسم للطاعات؛ فعيد الفطر يأتي بعد شهر رمضان، وعيد الأضحى يأتي بعد فريضة الحج والعشر الأوائل من ذي الحجة؛ التي هي أيام عبادة وذكر وتكبير وعمل صالح.
فكما أشرنا في النقطة الرابعة، يحتاج الإنسان للأمرين معًا: العبادات والترويح عن النفس.. وهنا نلاحظ ارتباطَ الأعياد بالعبادات، وتعاقُبَهما.. فكأنَّ الأعياد ليست فقط ترويحًا للنفس، بل هي مكافأة لها على العبادة.. وهي مكافأة مصغَّرة من المكافأة الكبرى: الجنة، مثلما أن نعيم الدنيا مجرد تذكير بنعيم الآخرة!
وقد جمع النبي ﷺ في حديث واحد بين الأمرين معًا- أي بين العبادات والترويح عن النفس- فقال: “أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ لِلَّهِ” (رواه مسلم عن نُبَيْشَةَ الْهُذَلِيِّ).
سادسًا : إذًا، أعيادنا عبادة تأتي في عقب عبادة.. ومن ثم، ينبغي أن يكون سلوكنا فيها عبادة، أي لا يُخرجنا فَرَحُنا عما يرضاه الله إلى ما حرَّم، ولا عما يستسيغه العرف إلى ما يُخل بالمروءة!
فإذا كنا نحتفل في العيدين، وكان هذا الاحتفال أمرًا مشروعًا ورغَّب فيه الإسلام.. فينبغي أن نلتزم فيهما بما أمر الله سبحانه حتى نحصِّل الأجر من هذا الاحتفال، ولا نكون كمن يملأ إناءً نظيفًا بمادة تلوثه!
ونحن نرى، للأسف، بعض من ينشغلون بالنوافل- فضلاً عن الفرائض- في رمضان مثلاً، نراهم بمجرد أن يبدأ العيد ينغمسون في إشباع النفس بالملذات الحرام؛ وكأن العيد إيذان بتحليل ما حرَّم الله.. ألا ساء ما يفعلون!
أعيادنا طاعة، علينا أن نملأها بالطاعة، وأن نُشبع فيها حاجاتِ النفس بما يحبه الله ويرضاه، وأن نوسِّع على الأهل وندخل السرور عليهم، إضافة إلى صلة الأرحام وزيارة الأصدقاء.. بهذا تكون الأعياد محطات يتزود فيها المرء بما يعينه على مواصلة رسالته في الحياة، وتجديدًا للصلات الاجتماعية والروابط الأسرية، وإمتاعا للنفس وترويحًا عنها..