قال ابن تيمية: وأفضل نساء هذه الأمة خديجة وعائشة وفاطمة، وفي تفضيل بعضهن على بعض نزاع، وسئل ابن تيمية عن خديجة وعائشة أمي المؤمنين: أيهما أفضل؟ فأجاب: بأن سبق خديجة وتأثيرها في أول الإسلام ونصرها وقيامها في الدين لم تشاركها فيه عائشة ولا غيرها من أمهات المؤمنين، وتأثير عائشة في آخر الإسلام وحمل الدين وتبليغه إلى الأمة، وإدراكها من العلم ما لم تشاركها فيه خديجة ولا غيرها، مما تميزت به عن غيرها.

وقال ابن حجر: وقيل: انعقد الإجماع على أفضلية فاطمة، وبقي الخلاف بين عائشة وخديجة.

وقال في شرح حديث أبي هريرة: أن جبريل أتى النبي وأمره أن يقرأ خديجة السلام من ربها، وفيه قال السهيلي: استدل بهذه القصة أبو بكر بن داود على أن خديجة أفضل من عائشة؛ لأن عائشة سلم عليها جبريل من قبل نفسه، وخديجة أبلغها السلام من ربها، وزعم ابن العربي أنه لا خلاف في أن خديجة أفضل من عائشة، وردَّ بأن الخلاف ثابت قديماً، وإن كان الراجح أفضلية خديجة بهذا وبما تقدم.

وعند التحقيق والنظر في النصوص الواردة في تفضيل كل واحدة منهن رضي الله عنهن ـ نجد أنها تدل على أفضلية خديجة وفاطمة، ثم عائشة رضي الله عنهن، وذلك أن الضمير الوارد في قوله : «لقد فضلت خديجة على نساء أمتي»، وقد قال : «أفضل نساء أهل الجنة خديجة وفاطمة ومريم وآسية»، قال ابن حجر: وهذا نص صريح لا يحتمل التأويل، وقال : «حسبك من نساء العالمين: مريم ابنة عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية امرأة فرعون». وهذا نص في أن خديجة رضي الله عنها أفضل نساء الأمة.

ثم إن اللفظ الوارد في تفضيل فاطمة رضي الله عنها؛ وهو قوله : «يا فاطمة ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء هذه الأمة». وفي لفظ: «سيدة نساء أهل الجنة»، فهو صريح لا لبس فيه ولا يحتمل التأويل، وهو نص في أنها أفضل نساء الأمة وسيدة نساء أهل الجنة، وقد شاركت أمها في هذا التفضيل؛ فهي وأمها أفضل نساء أهل الجنة، وهي وأمها أفضل نساء الأمة، بهذا وردت النصوص.

وأما ما ورد في تفضيل عائشة رضي الله عنها من قوله : «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام»، فهو لفظ لا يستلزم الأفضلية المطلقة، كما قال ابن حجر: وليس فيه تصريح بأفضلية عائشة رضي الله عنها على غيرها، لأن فضل الثريد على غيره من الطعام إنما هو لما فيه من تيسير المؤونة وسهولة الإساغة، وكان أجل طعمتهم يومئذ، وكل هذه الخصال لا تستلزم ثبوت الأفضلية له من كل وجهة؛ فقد يكون مفضولاً بالنسبة لغيره من جهات أخرى.

فالحديث إذاً دالٌّ على أفضلية عائشة رضي الله عنها على سائر نساء هذه الأمة ما عدا خديجة وفاطمة رضي الله عنهن لورود الدليل على ذلك مما قيد تلك الأفضلية لعائشة رضي الله عنها.

وأما ما ورد من حديث عمرو بن العاص لما سأل النبي : أي النساء أحب إليك؟ فقال : «عائشة». فقد أشار ابن حبان على أنه مقيد في نسائه ؛ إذ عقد عنواناً في صحيحه فقال: ذكر خبر وهم في تأويله من لم يحكم صناعة الحديث، وساق تحته حديث عمرو بلفظ: قلت: يا رسول الله! أي الناس أحب إليك؟ قال: «عائشة»، فقلت: إني لست أعني النساء، وإنما أعني الرجال، فقال: «أبو بكر» أو قال: «أبوها». ثم قال ابن حبان: أذكر الخبر الدال على أن مخرج هذا السؤال كان عن أهله دون سائر النساء من فاطمة وغيرها، وأخرج بسنده عن أنس قال: سئل رسول الله : من أحب الناس إليك؟ قال: «عائشة» قيل له: ليس عن أهلك نسألك، قال: «فأبوها»

وبهذا يتبين أن عائشة تلي خديجة وفاطمة في الفضل رضي الله عنها؛ إذ كل ما ورد من دليل على عموم تفضيلها رضي الله عنها مقيد بالنص الوارد في خديجة وفاطمة رضي الله عنهن، ولا ينكر أن لعائشة رضي الله عنها من الفضائل كالعلم مثلاً ما تختص به عن خديجة وفاطمة رضي الله عنهن، إلا أنه: لا يلزم من ثبوت خصوصية شيء من الفضائل ثبوت الفضل المطلق.

وعلى كل حال فليس فضل إحداهن على الأخرى بمطعن على المفضولة، بل في هذا أكبر دليل على علو مكانة هؤلاء النساء الثلاث: فاطمة وخديجة وعائشة رضي الله عنهن؛ حيث إن الخلاف لم يخرج عنهن في أنهن أفضل نساء الأمة، فما الذي يضر أم المؤمنين عائشة لو كانت ثالثة نساء الأمة في الفضل!؟ وهل هذا مدعاة لاحترامها وتقديرها أم للنيل منها والطعن فيها، كما يفعل الشيعة الروافض!؟

– هل استباحت السيدة عائشة أم المؤمنين قتال المسلمين في معركة الجمل؟

قد تقدم أنها ما خرجت لذلك وما أرادت القتال، وقد نقل الزهري عنها: أنها قالت بعد موقعة الجمل: إنما أريد أن يحجز بين الناس مكاني، ولم أحسب أن يكون بين الناس قتال، ولو علمت ذلك لم أقف ذلك الموقف أبداً. وهذا القول بأن السيدة عائشة استباحت قتال المسلمين باطل لا يثبت أمام الروايات الصحيحة التي بينت أن عائشة ما خرجت إلا للإصلاح كما مر معنا، وإنما هذه الأقوال من الروايات التي وضعها الشيعة الروافض، والتي شوهت تاريخ صدر الإسلام، وجعلت مما حدث بين علي وطلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم حرباً أهلية، وتأثر بعض الباحثين بتلك الروايات حتى قال بعضهم: وأسرت عائشة، ويصوِّرون المسألة كحرب أهلية مخطط لها، وهو قول طبيعي من باحثين لا يستقون معلوماتهم في هذا الشأن إلا من الروايات المقدوحة، ومن المصادر غير الموثوق بها مثل (الإمامة والسياسة)، و(الأغاني)، و(مروج الذهب)، و(تاريخ اليعقوبي)، بل و(تاريخ التمدن الإسلامي) لجورجي زيدان.

– هل يصح هذا الحديث: تقاتلين علي وأنت له ظالمة؟

إنه لا يعرف في شيء من كتب العلم المعتمدة ولا له إسناد معروف، وهو بالموضوعات المكذوبة أشبه منه بالأحاديث الصحيحة، بل هو كذب قطعاً، فإن عائشة لم تقاتل ولم تخرج لقتال، وإنما خرجت بقصد الإصلاح بين الناس… لا قاتلت ولا أمرت بقتال، هكذا ذكر غير واحد من أهل المعرفة بالأخبار.

– أمير المؤمنين علي رضي الله عنه يرد عائشة إلى مأمنها معززة مكرمة:

جهز أمير المؤمنين علي عائشة بكل شيء ينبغي لها من مركب وزاد أو متاع، وأخرج معها من نجا ممن خرج معها إلا من أحبَّ المقام، واختار لها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات وقال: تجهز يا محمد ابن الحنفية، فبلِّغها، فلما كان اليوم الذي ترتحل فيه جاءها حتى وقف لها، وحضر الناس، فخرجت على الناس، وودَّعوها وودَّعتهم وقالت: يا بني، تعتب بعضنا على بعض استبطاء واستزادة، فلا يعتدن أحد منكم على أحد بشيء بلغه من ذلك، إنه والله ما كان بيني وبين علي في القديم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها، وإنه عندي على معتبتي من الأخيار. وقال علي: يا أيها الناس، صدقت والله وبرت ما كان بيني وبينها إلا ذلك، وإنها لزوجة نبيكم في الدنيا والآخرة.

وخرجت يوم السبت لغرة رجب سنة ست وثلاثين، وشيعها علي أميالاً، وسرح بنيه معها يوماً.

وبتلك المعاملة الكريمة من أمير المؤمنين علي رضي الله عنه نراه قد اتبع ما أوصاه به نبي الأمة عندما قال له: «إنه سيكون بينك وبين عائشة أمر». قال: أنا يا رسول الله؟ قال: «نعم» قال: أنا؟ قال: «نعم». قلت: فأنا أشقاهم يا رسول الله. قال: «لا، ولكن إذا كان ذلك فأرددها إلى مأمنها».

وقد خالف الصواب من ظن أن خروج أم المؤمنين إلى البصرة كان لشيء في نفسها من علي رضي الله عنه لموقفه منها في حديث الإفك؛ حين رماها المنافقون بالفاحشة، فاستشاره النبي في فراقها. فقال: يا رسول الله، لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية تصدقك. وهذا الكلام الذي قاله عليّ إنما حمله عليه ترجيح جانب النبي ، لما رأى عنده من القلق والغم بسبب القول الذي قيل، وكان شديد الغيرة، فرأى عليّ في بادئ الأمر أنه إذا فارقها سكن ما عنده من القلق بسببها إلى أن يتحقق براءتها، فيمكن رجعتها، ويستفاد منه: ارتكاب أخف الضررين لذهاب أشدهما.

قال النووي: رأى عليّ أن ذلك هو المصلحة في حق النبي ، واعتقد ذلك لما رأى من انزعاجه، فبذل جهده في النصيحة، لإرادة راحة خاطره

وعليّ رضي الله عنه لم ينل عائشة رضي الله عنها بأدنى كلمة يُفْهَم منها أنه قد عرّض بأخلاقها أو تناولها بسوء، فإنه على الرغم من قوله للنبي : لم يضيق الله عليك؛ إلا أنه عاد فقال لرسول الله ، ناصحاً: وسل الجارية تصدقك. فهو قد دعاه إلى التحري أولاً قبل أن يفارقها، أي: أنه قد رجع عن نصيحته الأولى بالمفارقة إلى نصيحة أخرى بسؤال الجارية، وتحري الحقيقة. وقد سأل رسول الله الجارية التي كانت أكثر التصاقاً بعائشة، فأكدت أنها ما علمت من عائشة إلا خيراً، وقد خرج رسول الله من يومه الذي سأل فيه الجارية، واستعذر من عبد الله بن أبي قائلاً: «يا معشر المسلمين! من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهل بيتي، فو الله ما علمت على أهلي إلا خيراً»

لقد كانت نصيحة علي في صالح عائشة، فقد ازداد قناعة بما علم من خير في أهله. ولم يكن موقف علي في حادثة الإفك هو الذي جعل عائشة تغضب منه رضي الله عنه لأجله، أو تحقد الحقد الذي يجعلها تتهمه زوراً بقتل عثمان، وتخرج عليه مؤلبة الأعداد الهائلة من المسلمين، كما زعم كثير من الباحثين ـ ممّن تورط في روايات الشيعة الرافضة، والتي لفقوها ووضعوها.

 – ندمهم على ما حصل منهم :

قال ابن تيمية: وهكذا عامّة السابقين، ندموا على ما دخلوا فيه من القتال، فندم طلحة والزّبير وعليّ وغيرهم، ولم يكن يوم الجمل لهؤلاء قصد في القتال، ولكن وقع الاقتتال بغير اختيارهم

أ ـ فأمير المؤمنين علي ورد عنه، عندما نظر وقد أخذت السيوف مأخذها من الرجال، فقال: لوددت أني مت قبل هذا بعشرين سن.

ب ـ وروى نعيم بن حماد، بسنده إلى الحسن بن علي، أنه قال لسليمان بن صرد: لقد رأيت علياً حين اشتد القتال وهو يلوذ بي، ويقول: يا حسن! لوددت أني مت قبل هذا بعشرين سنة.

ج ـ وعن حسن بن علي قال: أراد أمير المؤمنين علي أمراً، فتتابعت الأمور، فلم يجد منزعاً

د ـ وعن سليمان بن صرد، عن حسن بن علي: أنه سمع علياً يقول ـ حين نظر إلى السيوف قد أخذت القوم ـ: يا حسن أكل هذا فينا؟! ليتني مت قبل هذا بعشرين أو أربعين سنة.

هـ -أما عائشة فقد ورد عنها: أنّها كانت تقول حين تذكر وقعة الجمل: وددت أني كنت جلست كما جلس أصحابي، وكان أحب إليّ أن أكون ولدت من رسول الله بضعة عشر، كلّهم مثل عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، ومثل عبد الله بن الزبير.

و ـ كانت إذا قرأت قوله تعالى: ﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ﴾ [الأحزاب: 33]. تبكي حتى تبل خمارها.

ز ـ قالت عائشة: وددت أن لو كان لي عشرون ولداً من رسول الله ، وكلهم مثل عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وإني ثكلتهم، ولم يكن ما كان مني يوم الجمل.

ح ـ قال ابن تيمية: فإن عائشة لم تقاتل، ولم تخرج لقتال، وإنما خرجت بقصد الإصلاح بين المسلمين، وظنّت أنّ خروجها مصلحة للمسلمين، ثمّ تبيّن لها فيما بعد أنّ ترك الخروج كان أولى، فكانت إذا ذكرت خروجها تبكي حتى تبلّ خمارها، وهكذا عامّة السابقين ندموا على ما دخلوا فيه من القتال، فندم طلحة والزبير وعليّ وغيرهم، ولم يكن يوم الجمل لهؤلاء قصد في القتال، ولكن وقع الاقتتال بغير اختيارهم.

ط ـ قال الذهبي: ولا ريب أن عائشة ندمت ندمة كليّة على مسيرها إلى البصرة، وحضورها يوم الجمل، وما ظنّت أن الأمر يبلغ ما بلغ.

 


المراجع:

  1. علي محمد الصلابي، علي بن أبي طالب، دار ابن كثير، بيروت.

  2. فضائل الصحابة، 2/ 755.

  3. الزهري، المغازي، 154.

  4. دورة المرأة السياسي، ص 442 – 462.

  5. نعيم بن حماد، الفتن، 1/ 80 – 81.

ابن حبان، الإحسان، 9/ 73.