تحديد كيفية التعامل مع أنواع السفه النفسي وضوابط تشخيصه من خلال توجيهات دينية وذلك مع كل نوع منه، بدءًا من السفه العرضي الذي يمر به الأفراد في مراحل حياتهم الأولى، إلى السفه المرضي الذي يتطلب تحديد ومعالجة مستمرة.
من الممكن القول بأن السفه قد يكون عرضيا ومرضيا وجنسيا، وهي أنواع كلها قد حدد القرآن الكريم طريقة التعامل معها ودلل عليها بكل دقة وعناية.
إذ فيما يخص السفه العرضي فهو الذي يمر به كل الناس في مراحل حياتهم الطفولية إلى غاية بلوغ سن التمييز الكامل وهو بلوغ الرشد. وهذا النوع من السفه يمكن تحديد مستوى امتداده من خلال الاختبار والابتلاء والتجربة، حتى إذا تبين أن الشخص قد اجتاز مرحلة السفه المالي، بعد ذلك يسلم له المال كشخص كامل الأهلية ومسئول عن تصرفاته الإرادية. بحيث عند هذا الاختبار سيتبين هل هذا السفه الظاهر على هذا الشخص هو سفه عرضي سليم أم أنه سفه مرضي قد يحتاج معه إلى تحديد التحجير والمراقبة والترشيد المستمر.
ولقد ورد في القرآن الكريم الجمع بين السفه المرضي والعرضي وطرق التعامل معه لتفادي آثاره كوسائل علاجية نفسية ناجعة، قد تميزت بنوعين من التعامل وهما:
- منع التصرف الكلي في حالة المرضي
- الاختبار الجزئي في حالة العرضي.
وذلك في قول الله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء: 5]. و {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [النساء: 6].
هذه الآيات قد تؤسس لنا أعظم مدرسة نفسية لسبر الواقع النفسي للإنسان ومستوى انضباطه أو عدمه، وذلك في طريق الاختبار العملي المعملي اللائق بالتصرف الإنساني وليس بالحيواني أو الحشري وما إلى ذلك، لأن نفس الإنسان لها ارتباط غريزي بالجانب المالي الذي قد يلازمه في مراحل حياته حتى يصبح إحدى عناصر تكوينه النفسي التي لا يستطيع إسقاطها من حساباته.
وهذا ما يؤكده الحديث النبوي الشريف عن أنس بن مالك رضي الله عنه: قال رسول الله ﷺ:”يكبر ابن أدم ويكبر معه اثنتان:حب المال وطول العمر“[1].
فإذا كانت هذه الملازمة المالية للحالة النفسية عند الإنسان لها هذا الحضور المكثف على مستوى الحب والحرص، فإن تبذير المال والتصرف فيه على مستوى السفه هو في الحقيقة إهدار لغريزة نفسية راسخة لديه بدون مقابل مناسب، ألا وهي غريزة البقاء.
ويتجلى إعجاز الحديث النبوي وبلاغته الجامعة في التأسيس لذلك حينما ربط بين حب المال وطول العمر، وهذا هو عين غريزة البقاء بكل عناصرها، وإذا اختلت هذه الغريزة عند الإنسان فإن أجلى مظاهرها قد تتحدد في التصرف المالي الذي هو عصب الحياة ووسيلة استمرارها.
السفه النفسي والنفس الأمارة بالسوء
من هنا فلقد كان السفه من ضمن أعراض النفس الأمارة بالسوء، المؤدي إلى الهلاك عن طريق الاستهلاك غير المرشد لإحدى الغريزتين وهما: غريزة البقاء وغريزة النوع، وأصل النوع البقاء.
إذن فالحرص المالي غريزة نفسية سليمة لكن مخالفتها مؤدي إلى داء نفسي قد يعالج بنفس المادة الاختبارية التي يعتمد عليها في ضمان البقاء.
ولهذا فبالرغم من وجود المال والغنى إلا أن السفه قد يكون دائما مؤديا إلى الفقر طالما لم تكن لديه اعتمادات نفسية سليمة مؤسسة على الاختبار القرآني الميداني، الذي من خلاله يمكن إصلاح النفس والحد من جموحها في تبذير طاقاتها وممتلكاتها.
كما نجد لذلك دلالة في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال:” ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس“[2]، وكذلك الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: ” ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب[3].
فالنفس الأمارة بالسوء إذا لم تختبر ولم تجاهد فهي بالضرورة ستؤدي إلى السفه والطيش، لأنه إذا توفر المال توفر السرف والتبذير وإهلاك مادة الحياة للبقاء،وإذا توفرت القوة والصرعة توفر البطش والفتك وإهلاك الجنس المفيد للنوع والضامن لاستمراريته.
والبقاء والنوع شرطان متلازمان: فلا البقاء يكون بدون نوع ولا النوع يستمر بدون بقاء، وضبط النفس والحد من تأمرها هو الضامن لسلامة البقاء والنوع.
السفه والارتباط العقدي
إذ كما سبق أن قلنا: فإن السفه النفسي ذي الارتباط المادي والاجتماعي مستدرك وقابل للعلاج والمراقبة والضبط،لأن آثاره ظاهرية وملموسة، لكن الذي يبقى الأصعب للاحتواء والمراقبة والاختبار هو السفه ذو الارتباط العقدي، وذلك لأنه تبذير للتصور وطيش في الإدراك لغاية التناقض الكلي وقلب المفاهيم قلبا يستحيل معه الترشيد أو التبصير. وهذا ما يمكن اعتباره شبيها بمرض الألوان أو الصفراء التي تحيل الحلو مرا عند المذاق كما يقول الشاعر:
ومن يك ذا فم مر مريض يجد مرا به الماء الزلالا
ولقد صور لنا القرآن هذه الظاهرة النفسية الخطيرة في قول الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 13].
هذه الآية قد توضح لنا مظاهر الإسقاط النفسي عند أهل السفه وتؤسس مبدأ “الناقص لا يري غيره سوى ناقص” على شكل المقايسة المغلوطة عند توهم المماثلة كما مر بنا.
فالسفيه لخفة وطيش عقله لا يرى نفسه سفيها، وإنما قد يسقط سفهه على غيره كما دلت عليه الآية، وفي هذا الإسقاط يكون قد بلغ ذروة الخضوع للتأمر النفسي الذي يجعله أكثر انطوائية وذاتية دائرية لا يستطيع معها أن يرى نفسه في مرآة أخيه أو في مرآة الحقيقة المنصوبة أمام عينيه.
والأدهى من هذا هو أن السفيه قد لا يدرك في نفسه السفه كما دلت عليه الآية: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 13].
وفي هذه الدلالة بُعدٌ آخر وهو أن السفه النفسي سببه غياب العلم بالنفس، والعلم بالنفس أساسه الارتكاز العقدي كما سبق وقلنا. إذن ،فالنفس قد تنضبط بالعلم، والعلم المحقق لهذا الانضباط لا يكون إلا بالعقيدة المتضمنة للمعرفة بالله خالق النفس وأعراضها.
ولهذا فقد كان السفه ذو الارتباط العقدي دليل النفاق كما نصت عليه الآيات المبينة لطبيعته وآثاره السلوكية والنفسية المرضية.