قال تعالى: { أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون } (البقرة:184).

تعبير ملفت للنظر، أن يصف الله شهرا كاملا بأنه أيام معدودة، وفي ذلك من الإغراء في صيامه وحسن استغلاله ما فيه، فهو مجرد أيام تمضي مسرعة، وكذا العمر يمر ولا نستشعره، وحُق لكل مسلم أن ينتبه إلى نعمة الوقت التي هو مغبون فيها، ويؤدي حق الله.

كثيرون ينوون في رمضان أشياء كثيرة، وهي نية مباركة طيبة، ولكن لا بد معها من الاتقان، ولو لم يخرج أحدنا كل عام ولو بخصلة طيبة ليتقنها ويتعودها لكفى، إضافة إلى أساسيات هذا الدين العظيم التي لا يجوز التفريط فيها أصلا. 

رمضان شهر الخير والبركة والصفاء الروحي ومضاعفة الأجور، موسم جميل كثير الفوائد، ينبغي استغلاله بكل لحظاته، فلله في أيام دهرنا نفحات رحمة وبركة، فلنتعرض لها كي ينالنا شيء منها، ورب لحظة صفاء واحدة تقرب أحدنا من الله فتكون سببا لدخوله الجنة، وتجلب له رضوان الله تعالى الأبدي.

يقول الله تعالى: “بل الإنسان على نفسه بصيرة”، فلا أ حد أعلم بحالك منك، إلا الله تعالى فهو الذي يعلم السر وأخفى، وهو الذي يعلم خائنة العين وما تخفي الصدور، وكلنا خطاء ضعيف عجول جهول، اقترفت أيدينا ما اقترفت، ونحن بحاجة إلى رحمات الله وعفوه ومنهّ وكرمه ومغفرته، فما أجمل التواضع مع الله والانكسار له والتذلل له، طمعا في مغفرته وجنته ورضوانه، فهذه الحياة إلى زوال، والآخرة هي دار القرار، ونسأل الله أن تكون جنة. 

يقولون: (التخلية قبل التحلية)، فلا بد من تفريغ أنفسنا من كل ما يغضب وجه الله تعالى، وبعد ذلك تكون التحلية حيث الجزاء العظيم بأنواعه من الله تعالى، يحلي به عباده ويكرمهم، والله طيب لا يقبل إلا طيبا، والله يحب من عبده أن يتوب إليه، وهو سبحانه أشد فرحا بتوبة العبد من العبد نفسه. 

فرصتنا للتخلية الآن، بالإقلاع عن المعاصي والندم عليها والتحلل منها مهما بلغ عظمها، فالله تعالى يقول في أرجى آية: “قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعا، إنه هو الغفور الرحيم”، فهؤلاء أسرفوا على أنفسهم بالذنوب، ومع ذلك فلو أتوا الله تائبين فسيغفرها ولو بلغت عنان السماء أو مثل زبد البحر، فهو الغفور الرحيم، ومسألة المغفرة أكدت عليها أحاديث فضائل رمضان، فيما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم أن من صام رمضان إيمانا واحتسابا، ومن قام رمضان إيمانا واحتسابا، ومن قام ليلة القدر إيمانه واحتسابا، غفر الله له ما تقدم من ذنبه، فالله يحب من عبده أن لا يخرج من رمضان إلا وقد غُفرت ذنوبه، أن لا تبقى عالقة في صدره أو تثقل كاهله. 

الصيام أيام معدودة لا بد لأحدنا فيها من تنظيم وقته وترتيب أولوياته، وأحمق ذاك الذي يمر عليه رمضان ولا يغيّر فيه من سلوكه وأحواله مع الله، فليتذكر أحدنا ابتداء أنه مخلوق للعبادة، وقد كرّمه الله تعالى على سائر المخلوقات وأنعم عليه وهداه، وأحدنا يعلم أنه مغادر الدنيا لا محالة، وأن الدنيا دار ممر لا مقر، فالآخرة هي دار القرار.

أيام معدودة قد تغير مسار حياة الإنسان من العصيان إلى الطاعة، ومن الضلال إلى الهداية، ومن التيه والحيرة والتردد إلى اليقين الكامل بالله تعالى، الرحيم الودود، فليس هناك نعمة أروع وأ فضل من نعمة اليقين بالله تعالى، التي تجلب السعادة الحقيقية للعبد، بأن تجعله مع الله تعالى، معية وحبا، فإن  أحب الله أحبه الله (يحبهم ويحبونه)، وإن رضي عن الله رضي عنه (رضي الله عنهم ورضوا عنه)، فهي السعادة الكاملة المأمولة في فضائل العبادات عموما والصيام خصوصا. 

الصيام أبعد العبادات عن الرياء، ولهذا قال الله تعالى في الحديث القدسي: “كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فهو لي، وأنا أجزي به”، فهو ليس مجرد عمل يكتبه الملك ويقدّره، بل يؤمر الملك بكتب الصوم والله يجزي به، وكذا الأعمال القلبية عموما لا يعلم حقيقتها ومشاعرها إلا الله تعالى، والصيام جزء من الصبر، والصبر عظيم الجزاء عند الله: “إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب”. 

ومرة أخرى تنظيم الوقت ضروري، وكذا ترتيب الألويات فلنتقن الصيام ابتداء، وكذا الصلاة التي هي عمود الدين، محافظة عليها وخشوعا فيها، لتكون ناهية لصاحبها عن الفحشاء والمنكر، واصلة له بالله تعالى فهي معراج المؤمن، يستشعر من خلالها صلته بالله، يناجيه ويحمده ويمجّده ويثني عليه سبحانه. 

ولابد من الذكر وحليته القرآن، فالله تعالى عندما أراد أن يعرّف شهر رمضان ذكر أنه الذي أُنزل فيه القرآن: “شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان”، فهو شهر القرآن، فيه نزل جملة واحدة في ليلة القدر، وفيه ابتدأ نزوله على النبي صلى الله عليه وسلم، فليكن  لأحدنا في رمضان نصيب وافر من رعاية القرآن، لا لتنقضي رحلته معه في رمضان فقط، بل لتكون البداية والانطلاق المستمر، حيث يشكل القرآن حياته ويصقل شخصيته ويؤثر على مجمل حياته، فالقرآن نور وروح وهدى وفرقان وشفاء وبركة ورحمة، ومن عاش مع القرآن أخذ من هذه الصفات، وربما أصبح من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته.

الصيام أيام معدودة ينبغي أن نكرّسها للقرب من الله، والتعرف على ذاتنا ونغيّر، فالله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وأمتنا بحاجة إلى تغيير على مستويات عدة، فحالنا لا يرضي الله، وليكن رمضان انطلاقة للتغيير على المستويات كلها، والله حسبنا ونعم الوكيل.