مما يروى عن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد أن تولى الخلافة – جمع في قيادته بين الكفاءة والفاعلية – حرصه الشديد على حياة الناس، لاسيما من كانوا يخرجون للفتوحات المختلفة. كان يحرّص قادة الجيوش على عدم المغامرة بأرواح جنودهم، فأن يتأخر فتح مدينة ما شهراً أو أكثر، هو خير عنده من أن يتم ذلك الفتح في أيام قليلة لكن مقابل استشهاد الكثير من الجنود..
من القصص الشاهدة على ذلك، حين أرسل عمرو بن العاص لفتح مصر، ولكن طالت المدة ولم يسمع بنتائج مأمولة، فعاتبه وأرسل له قائلاً: “فقد عجبت لإبطائكم عن فتح مصر.. وما ذاك إلا لما أحدثتم وأحببتم من الدنيا ما أحب عدوكم، وإن الله تعالى لا ينصر قوماً إلا بصدق نياتهم”. وكان عمرو بن العاص قد طلب مدداً من الفاروق لإتمام المهمة، وقد كان معه أربعة آلاف جندي. فبعث إليه عمر أربعة آلاف آخرين وعلى رأس كل ألف منهم قائد من أربعة، هم الزبير بن العوام، والمقداد بن الأسود، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مخلد، وقال له: لا يُهزم جيش من إثني عشر ألفا!
تعجب عمرو من الرقم، وكيف للفاروق أن يخطئ في الحساب، لأن مجموع ما سيكون عنده حسابياً بعد المدد القادم من عند عمر، هو ثمانية آلاف وأربعة أشخاص، فكيف يكون العدد اثني عشر ألفا؟ والحقيقة أن الفاروق لم يخطئ حسابياً، لأنه اعتبر القادة الأربعة؛ الرجل منهم بألف رجل، ما يعني أنهم أربعة آلاف –عند عمر- بالإضافة إلى الأربعة آلاف الآخرين الذين أرسلهم وما عند عمرو من أربعة آلاف أيضاً، فيكون المجموع اثني عشر ألفاً. وللفاروق في هذا فلسفته، وهي لب حديثنا اليوم.
الكفاءة والفاعلية
منهج الفاروق عمر في الإدارة جمع بين الكفاءة والفاعلية. إذ الكفاءة أن تحقق أهدافك عبر استخدام أمثل للموارد المتوفرة عندك، بأقل جهد ووقت وتكلفة. والفاروق وضع هذا الأمر في ذهنه وهو يرسل المدد لعمرو في مصر. أما الفاعلية فهي تحقيق الهدف بشكل صحيح. وفي هذا المثال، تتمثل فاعلية الفاروق في تحقيق الهدف وهو فتح مصر، وقد تحقق ذلك بالعدد الذي تجمّع عند عمرو بن العاص وبالشكل الذي طلب منه الفاروق، وسنأتي إلى ذلك بعد قليل.. فالفاعلية إذن كتعريف عام، هي أن تحقق الهدف بشكل صحيح، بغض النظر عن كيفية استخدامك للموارد، والجهد المبذول والوقت المنصرف في ذلك. لكن أن تجمع بين الكفاءة والفاعلية في آن واحد، فهذا هو أفضل ما يتطلع إليه أي موقع عمل.
الفاروق في هذا المثال، كان يلعب دور المدير ودور القائد في نفس الوقت، وقليلاً ما تجد من يجيد أداء دورين في الوقت نفسه في أي موقع أو ميدان عمل. فإما أن تجد قائداً أو تجد مديراً، أو الاثنين معاً، لكن أن تجتمع الصفتان في شخص واحد، فهذا من النوادر. القائد يكون تركيزه على الأهداف وكيفية تحقيقها، بغض النظر عن الموارد وكيفية استثمارها الاستثمار الأمثل، فهو غالباً لا يهتم بمسألة الوقت والجهد والتكلفة بقدر اهتمامه بمسألة تحقيق الهدف بشكل صحيح. لكن المدير هو من يحسب حساباته في سبيل تحقيق الأهداف، لكن عبر استخدام الموارد المتاحة عنده، وبأقل التكاليف والجهود وصرف الأوقات.
في مثالنا مدار الحديث، لعب الفاروق – رضي الله عنه– دور المدير الكفء عبر استخدامه للموارد المتاحة لتحقيق هدفه، ولكن بأقل الأضرار، وهو ما تبين في عدم إرسال الكثير من الجند إلى مصر، وإنما استخدم موارده المتاحة التي ستلعب دوراً مؤثراً في تحقيق الهدف، فاختار القادة الأربعة، باعتبار فاعليتهم في الحروب، ودورهم المؤثر في تحقيق الأهداف.
ولعب دور القائد في الوقت نفسه، وهو أن يحقق الهدف بشكل صحيح. كان يدرك أن جيشاً به اثنا عشر ألفاً ليس من السهل أن ينهزم، طالما اتخذ كل أسباب النصر، وأهمها كما جاء في تكملة رسالته إلى عمرو والتي قال فيها: “.. وقد كنت وجهت إليك أربعة نفر، وأعلمتك أن الرجل منهم مقام ألف رجل على ما أعرف. فإذا أتاك كتابي هذا فاخطب الناس وحضهم على قتال عدوهم ورغّبهم في الصبر والنية، وقدم أولئك الأربعة في صدور الناس، وأمر الناس أن يكون لهم صدمة كصدمة رجل واحد، وليكن ذلك عند الزوال يوم الجمعة، فإنها ساعة تنزل فيها الرحمة ووقت الإجابة، وليعج الناس إلى الله وليسألوه النصر على عدوهم.”
فلما وصل الكتاب إلى عمرو جمع الناس وقرأه عليهم، ثم دعا أولئك النفر فقدمهم أمام الناس، وأمر الناس أن يتطهروا ويصلوا ركعتين، سائلين الله النصر.. ففتح الله عليهم مصر، وتحقق الهدف.
مصفوفة الكفاءة والفاعلية
مصفوفة غاية في السهولة لمن أراد معرفة موقعه منها أو أراد تطبيقها على العاملين معه. المربع الأول منها لا وجود فيه للكفاءة ولا الفاعلية، أو أنّ الاثنتين منخفضتان. وهذا يعني سوء إدارة للموارد، وعدم القيام بعمل صحيح لتحقيق الهدف. وهذا في المجمل خسائر متتالية بسبب هدر الموارد وضياع الجهود والأوقات والأموال.
المربع الثاني، تتوفر الكفاءة لكن تغيب الفاعلية. أو أن الأولى مرتفعة والثانية منخفضة. وهذا يعني أن إدارة الموارد تتم بشكل صحيح وسليم، فلا يوجد هدر كما يبدو للوهلة الأولى. لكن مع مضي الوقت، وانخفاض الفاعلية، تبدأ الأوقات تضيع ومثلها الجهود وكذلك التكاليف، لأن الهدف غير واضح، والعمل لا يسير بشكل صحيح نحو تحقيق الهدف أو الأهداف. وهذا يتطلب قائداً يوضح الطريق والأهداف المرجو تحقيقها، ويقوم بدور المحفز لمن معه للقيام بالعمل بشكل صحيح.
المربع الثالث، تنخفض الكفاءة لكن الفاعلية في قمتها. وهذا يعني أن الهدف تم اختياره بشكل صحيح وبالتالي أدى إلى عمل صحيح فتحققت في النهاية النتيجة المرجوة، ولكن بعد هدر الكثير من الموارد، كالوقت والجهد والمال. أي تحقق الهدف ولكن بتكلفة عالية أو جهد إضافي. وهذا يتطلب تدريباً مستمراً على كيفية استثمار الموارد بالشكل الأمثل.
المربع الأخير وهو المطلوب في كل زمان ومكان. كفاءة عالية وفاعلية مرتفعة. كفاءة تمثلت في إدارة صحيحة للموارد نحو تحقيق الهدف بأقل جهد ووقت ومال. وفاعلية مرتفعة تمثلت في اختيار صحيح للهدف، وبالتالي عمل صحيح سليم وعبر استخدام أمثل للموارد المتاحة. والنتيجة جودة عالية، ونتائج إيجابية.
لب الحديث، أن كفاءة تهتم بإدارة مثلى للموارد، حين تجتمع مع فاعلية تهتم بتحقيق الأهداف بشكل صحيح، فلا شك أن المنتج النهائي سيكون ذا جودة عالية، ونتائج محمودة، وهي غاية كل جهة عمل، شركة كانت، أم مؤسسة أم دولة. فكم من الكفاءات والفاعليات حولك؟ بل أين موقعك أنت من الكفاءة والفاعلية؟