لا ينقضي العجب من اثنين؛ “مثقف” ما زال يجعل “الإسلام” ضمن مصطلح “الدين” بمفهوم الغرب، و”عاقل” ما زال يجادل في مكانة الدين في حياة البشرية!، الأولى تفضح وعي صاحبها الذي يتظاهر للعامة بأنه “استكمل الصحفا” بل تفضح كذبه على الناس وعلى المعرفة ذاتها، أما الثانية فأمارة مراهقة عقلية متأخرة، ولو شئت القسوة لقلت علامة تخلف عقلي حاد.
يختلف مفهوم مصطلح “الدين” في الفكر الغربي والإسلامي اختلافا بينا، فـ”الدين” في المفهوم الغربي يعني شيئا قريبا من العادات والتقاليد غير أنه مرتبط بالميتافيزيقا، أي إحالة على الغيب حتى ولو كان ذلك الغيب علاقة وهمية مصنوعة بين إنسان وبين حجر أو بقر أو غيرهما مما يرى فيه خصائص خارقة (فوق طبيعية) تمكنه من هدهدة روحه المستوفزة للتعبد فطريا أو للتعلق به عند الملمات.
“الإسلام” -يا متعمدي الخلط- بهذا المعنى ليس “دينا” لكنه”رسالة”، والرسالة تشمل الدين بمعناه الروحي (الجواني) وكذا الحياة المنسجمة مع تعاليمه، إنها معراج للروح ومنهاج للحياة، وهذا هو مفهوم “القيومية” التي وصف القرآن بها الإسلام “دِينًا قَيِّمًا” هكذا بإجمال يفصل أكثر في قوله تعالى:”قُلْ إِنَّ صَلَاتِـي ونُسُكِـي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرتُ وأنَا أولُ المسلمين”.
الإلحاد هلوسة وليست فكرا مؤسسا، تقوم فكرة الإلحاد في عمقها على الرفض المتعصب، إنه عقدة نفسية وأخلاقية وليس فكرة تمكن مناقشتها بطريقة علمية، تصور أن مصروعا وقف في جمع من الناس وقال بكل ثقة: إن السماء مجرد وهم، سنعتبر المجنون حقا هو ذلك يدخل معه في نقاش عقلي ليبرهن له على خطل القول الذي تفوه به.
تعمد بعض مراهقي القراءة والفكر إعلان نقدهم الأعرج للدين ليس تحولا فكريا لديهم، إنهم مؤمنون حقا، لكنهم معقدون لسببين:
ـ الأول: هو أنهم -إذا استخدمنا تحليل عبد الوهاب المسيري– لا يملكون عقلا تركيبيا، إنهم أحاديو التفكير، مثاليون في أفكارهم واقعيون جدا بل قاعيون (من القاع) جدا في إذعانهم لنداءات الجسد، ولو عرفوا أن الإسلام يجعل الظالم لنفسه والمقتصد والسابق بالخيرات من أهل الاصطفاء جميعا لارتاحت نفوسهم الخائفة من المصير الذي يشككون علنا في وجوده.
ـ الثاني:الجهل المركب (الجهل المركب المعرفة بالشيء على غير حقيقته) بالإسلام، إنهم قرأوا كتب فلاسفة عصر الأنوار الذين كان الدين (الكنيسة) يعوق توقهم إلى بلاطات كانت حكرا على الكهنة والقسيسين، من الطبيعي أن يتطرفوا في الحديث المنفر منه، ورغم ذلك طالب سبنسر عند وفاته بإحضار القسيس، إنها اللحظة التي لا تنفع فيها هلوسات الداروينية النوعية ولا الاجتماعية، وهي ذات اللحظة التي يتمتم فيها أحد هؤلاء بالتعاويذ التي كان يهزأ منها قبل قليل، أو يذهب –ياللتناقض- لشيخ أو مشعوذ ليينفث له في روحه القلقة.
الملحدون الجدد حركة سياسية وليست مشروعا فكريا، إنهم عصابة من العاجزين عن كبح رعونات النفوس وعن مصارحة المجتمع، ينتج من الصفتين موقف معروف في علم النفس الإجرامي وهو “الانتقام للنفس من غير الجاني”، هنا تتجه عقدة هؤلاء نحو “الدين”، فهو مشاع وليس ملكا لأحد، إنها محاولة مكشوفة لتبرير اللاأخلاقية بالفكر، وذلك مسعى الداروينية الاجتماعية، وهو ما جعل نعوم تشومسكي يعتبرها خطرا ـ وكفاها سوءا أن ينتقدها نعوم ـ حين قال يعني حركة الملحدين الجدد:”مواقف هذه الحركة جعلتني أخجل من كوني ملحدا.
تكثر هذه الحالة التي شرحت في المجتمعات المحافظة، وتقل أكثر في المجتمعات التي ليست لها بنى صارمة لتحديد الاختيارات الفردية وليست لها المؤسسات التي تقوم على رعاية استمرار العادات و السلوك “المقبول”، في الحالة الموريتانية ودول الخليج وبعض الدول العربية ـ نظرا لقوة سلطان القبيلة والمجتمع ـ تكون الظاهرة أكثر تطرفا وحدَّةً، كل الذين تسمعهم وتراهم يسبون الله وأنبياءه وشرائعه، ذلك الصوت ليس صوت عقولهم، إنهم مؤمنون مستيقنون، لكنه صوت الغرائز الهائجة التي لا تجد مسربا طبيعيا فتتحول إلى ضجيج صاخب يصعد إلى الدماغ فينتج تلك الهلوسات الملحدة، تماما مثلما تفعل الملاريا حين تستحكم سموم بعوضة الأنفوليس في جسد المصاب فتصعد إلى دماغه فيفقد وعيه فيسيل لسانه هذيانا.
قبل أن أنسى تحليل عبد الوهاب المسيري الذي ذكرت في فقرة سابقة.
يذهب عبد الوهاب المسيري رحمه الله إلى أن فكرة الإلحاد وفكرة وحدة الوجود متطابقتان، يصعب الفصل بينهما، كوجهي الورقة الواحدة، إنهما تخرجان من ذات الذهن الأحادي اليابس الذي لا يستطيع التركيب ولا يعرف التعامل مع شيئين في الوقت نفسه، وهي فكرة عميقة قد تفسر بعض سلوك هؤلاء، المؤمنون بالدين بالقوة والرافضون له بالفعل.
كان محمد إقبال فيلسوفا مشهورا في زمنه، في أحد المساءات زاره بعض أصدقائه الفلاسفة، كان ذلك بعد رجوعه من بريطانيا حيث كان يدرس هناك، بادره أحدهم بالسؤال -ولعله ظن أن دراسته الفلسفة في بريطانيا ستغير رأيه حول الحقائق الكبرى للوجود-، قال:”ما هو دليلك على وجود الله؟” فأجابه محمد إقبال بعمقه المعهود:”يكفيني أن محمدا قالها”.
تنطوي هذه الإجابة على جملة من البراهين الفلسفية العليا، أراد إقبال أن يقول أولا إن فكرة وجود الله لا تحتاج دليلا، وأن الذي يحتاج دليلا هو نفيها، وثانيا أن العقل البشري (الفلسفة) كان ينتظر من الله أن يرسل إليه نبيا يعلمه ماذا يريد الله منه، وهو رد مبطن على خرافية الهلوسة القائلة بأن الله خلق العالم ولكنه تركه ونسيه ـ تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا ـ، وثالثا أنه من الخور العقلي أن تشهد البشرية بصدق رجل وأمانته ـ وهم يعرفون ذلك ويشهدون به ـ وهو يفتري على الله.
يا أيها المغرر بهم..
افهموا جيدا، من الممكن أن تمارسوا بعض رعوناتكم في لحظات الضعف دون أن تفتروا على الله مرتين، مرة حين تقولون أن دينه حرف وبدل، ومرة حين تنكرون فطرته الصاخبة بين جوانحكم، فقط حاولوا أن تتوبوا كلما قارفتم خطيئة، تعالوا إلى الطريق مرة أخرى.