“الكتب حملة الحضارة.من دون كتب يصبح التاريخ معقود اللسان، والأدب أخرس، والعلم معوقا، والفكر والتأمل في حالة ركود، فالكتب محركات التغيير، وهي منارات منتصبة في بحر الزمن، الكتب هي الإنسانية بحروف مطبوعة”[1] ، “عندما يُقدِمون على حرق الكتب، فسيؤول الأمر بهم أيضًا إلى حرق البشر أنفسهم”[2] ، “قتل كتاب أشبه بقتل إنسان، بل إن من يقتل إنسانا يقتل مخلوقا عاقلا، أما من يدمر كتابا نافعا، فهو إنما يقتل العقل نفسه”[3] .

ثلاثة مقولات تستوقفك أثناء قراءة كتاب “إبادة الكتب:تدمير الكتب والمكتبات العامة برعاية الأنظمة السياسية في القرن العشرين” تأليف “ربيكا نورث” ترجمة “عاطف سيد عثمان، والصدر عن سلسلة عالم المعرفة بالكويت في يونيو 2018، ويقع (375) صفحة، والذي يتناول التدمير والإحراق الذي تعرض له الكتاب والمكتبة في القرن العشرين، ففي هذا القرن كانت الكتب كثيرا ما تكون في قلب النيران، وهو ما يطرح سؤالا محوريا: كيف يتفق ذلك التقدم الذي تشهده البشرية مع العنف والتدمير الواسع للثقافة؟.

والحقيقة أن عمليات تدمير الكتب والمكتبات لها هدف مرسوم بعناية في إطار الصراعات التي اندلعت بين رؤى متعارضة في القرن الماضي، في إطار سعيها لبناء يوتوبيا أرضية، وفي سبيل ذلك انتهكت تلك الأنظمة كل قيمة بشرية وثقافية، ومن هنا ترابطت الإبادة الإثنية مع الإبادة الثقافية في كثير من الحالات، وبالتالي فإبادة الكتب تعد سمة للأيديولوجيات المتطرفة.

الأفكار تحرق الكتاب

الإنسان يرتكب الفظائع أو يحرض الآخرين عليها ليس بسبب خلل في شخصيته، بل لأنه يؤمن بأفكار تحرض على ارتكاب الفظائع وتسويغها، ففي مستهل الحرب العالمية الثانية بدا الإنسان مخلوقا انقلب على ذاته، يهاجمها، ويبذل قصارى جهده عامدا لتدمير أدوات العقل، ولم يتوقف العنف الثقافي ولا الإبادة الجماعية بعد أن وضعت تلك الحرب أوزارها، وعندما يكون هدف المعركة محو الثقافة لابد أن يصاحبها تدمير المكتبة.

وقد بدأ توظيف التدمير العمدي للمكتبات والموارد الثقافية بوصفه إحدى استراتيجيات الحرب العالمية الأولى، عندما محا الألمان أثناء تلك الحرب مكتبة الجامعة في “لوفين” على مدى ستة أيام ببلجيكا، تلك المكتبة التي عمرت قرون، فتم تدمير (320) ألف مجلد مخطوط نادر، ورغم أن الألمان أُجبروا على تقديم تعويضات جراء هذه الجريمة، إلا أنهم عادوا ودمروها في الحرب العالمية الثانية.

حرق مكتبة لوفين ببلجيكا في الحرب العالمية الأولى

 

وفي العام 1943 أحرق الألمان مكتبة الجامعية في نابولي انتقاما لمقتل جندي، وتم تدمير (300)  ألف كتاب ومخطوط، ويلاحظ أن المتطرفين يسعون لإبادة الكتب، ويسوغون العنف الذين يرتكبونه، باعتباره ضرورة للوصول إلى غايات أيديولوجية، ففي الأنظمة الأيديولوجية لا يوجد تسامح مع الأفكار، والكتب المخالفة، لذا تنظر تلك الأنظمة إلى القراءة والمكتبة على أنها وسيلة لتعزيز الغايات الأيديولوجية، وليس غايتهما تعزيز المعرفة الإنسانية، لذا كان وزير الدعاية الألمانية الشهير “جوزيف جوبلز” يتحدث أثناء إحراق الكتب قائلا:”في هذه الليلة تلقى آثار الماضي في قلب النيران…الماضي يرقد هنا في قلب النيران”.

ودمرت ألمانيا عام 1938 في أحد أقاليم تشيكوسلوفاكيا حوالي (48) مكتبة في الأديرة، و(42) مكتبة أخرى، وصادرت الكثير من المخطوطات، كما استخدمت النازية الكثير الكتب كخامات في مصانع الورق، وبلغت خسائر  تشيكوسلوفاكيا حوالي مليوني كتاب، وفي بولندا نهب الألمان المكتبات، وكان هدفهم تجويع العقل البولندي وتدمير الطبقة المثقفة وتحويل البولنديين إلى فلاحين، وكان هتلر يقول عن ذلك:” لا يمكن لسيدين أن يقفا جنبا إلى جنب، لهذا السبب يجب قتل جميع أفراد طبقة المفكرين البولنديين”، فدمر (90%) من الكتب والمكتبات في بولندا، وفي أثناء اجتياح ألمانيا للاتحاد السوفيتي دمر (100) مليون كتاب، بل أنشأ الألمان فرقة عمل “روزنبرغ” المعنية بالأراضي المحتلة للبحث عن المكتبات ومصادرتها، وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية كانت هذه الفرقة قد استولت على مقتنيات من (325) مؤسسة ثقافية، و(402) متحف، و(957) مكتبة في أوروبا، كانت عمليات الفرقة ذات تخطيط جيد في إطار سياسة الهيمنة الثقافية، حيث كان الألمان يخططون لإعادة تشكيل العقل الأوروبي وفق الرؤية الألمانية، وتعتبر السيطرة على الكتب أحد وسائل “الألمنة” للثقافة والعقل الأوروبي.

وفي الحرب العالمية الثانية خسرت بريطانيا نحو (20) مليون كتاب، وتضررت (50) مكتبة من جراء الحرب، بل أحرق حوالي ستة ملايين كتب في قلب لندن عام 1940 أثناء القصف الألماني، وقبل انسحاب ألمانيا من باريس دمر الجنود  مكتبة قصر “بوربون” وفيها (40) ألف مجلد، لكن الغريب أن بعض الضباط الألمان لم ينفذوا أوامر إحراق الكتب الفرنسية لإدراكهم أهمية تلك الكتب في الثقافة الإنسانية.

لكن ما ارتكبته ألمانيا من فظائع ضد الكتب ارتد عليها بعد خسارتها للحرب، ففقدت نصف كتبها جراء القصف والمصادرة الروسية، إذ حمل الروس معهم (11) مليون كتاب ألماني، وفي مدينة فرانكفورت فقدت مكتبة الجامعة (440) ألف رسالة دكتوراه، و(750) ألف براءة اختراع، و(150) ألف كتاب نادر ومخطوط.

الإثنية وإبادة الكتاب

لعبت الصراعات الإثنية دورا في إبادة الكتب وإحراق المكتبات في القرن العشرين، ويتجلى ذلك في علميات الإبادة العرقية التي تعرض لها المسلمون في البوسنة والهرسك، فالبوسنة كانت أكثر المناطق ثراء وتنوعا ثقافيا في منطقة البلقان، وشكل المسلمون 44% من سكانها، ومع تفتت يوغسلافيا بدأ الصراع الإثني عام 1991، وكان الصرب قد أقرت ملاحم وأشعار على طلابهم تدعو إلى ذبح المسلمين وتدمير ثقافتهم، كان الهدف هو إزالة مسلمو البوسنة من الوجود، لذا نزعوا الصفة الإنسانية عنهم، وقتلوا 10% من المسلمين.

كانت عمليات إبادة مرعبة، توازت معها عمليات إبادة ثقافية للوجود الإسلامي، فبعد عامين من الحرب دُمر ألف مسجد، وسويت مقابر المسلمين بالأرض، ولحق الدمار بالكتاب والمكتبة حتى المكتبات الشخصية ، فدمر الصرب المعهد الشرقي في سراييفو عام 1992 الذي يضم أكبر مكتبة مخطوطات إسلامية ويهودية ووثائق عثمانية في شرق أوروبا، حيث يضم أكثر من خمسة آلاف مخطوط شرقي يرجع بعضها إلى القرن الحادي عشر الميلادي، وتم تدمير وثائق شديدة الندرة توثق خمسة قرون من تاريخ البوسنة، من بينها سبعة آلاف وثيقة شديدة الأهمية، وإجمالا فقدت البوسنة (400) ألف كتاب، و(60%) من مكتبات كلياتها، وتم إحراق المكتبة الوطنية، التي تحوي مليون ونصف مجلد، و(155) ألف كتاب ومخطوط، والرسائل العلمية، لم ينج من الحريق الذي استمر في المكتبة مدة ثلاثة أيام إلا (10%) من محتوياتها النفيسة.


[1] كلمة مؤثرة للمؤرخة “بابرا توشمان أمام الكونجرس الأمريكي عام 1980

[2] الشاعر هاينريش هاينه (1797 – 1856)

[3] جون مليتون